قصة

رواية برؤيتي

من أعمال التشكيلية شفاء سالم

نمت حركة متباطئة من رفاته في جو مشحون بحرارة طافحة كأنما استقر في قعر تنور، شوت النار جلده واستحوذت الجمرات على لحمه تأكلها بنهم، أما عظامه فظلت مقاومة لألسنة النار اللاهبة رغم بضع كسور لزمتها عقب ارتطامه بالأرض، ورغم ذلك ظلت مقاومة، ترمز للبقاء.. للوجودية التي ناضلت من أجلها، وتعطي لمريدي الموت لها انطباعاً فريداً لمعنى الحياة والخلود، لقد كانت رفاته تشب للحياة حين رنت بعينين خاويتين للفضاء الواسع فوقها، وتمتد نظراتها حيث قرص الشمس اللافح، الضاج بوهجه، لا يرحم شيخوخته الضاربة في الوهن، زوى بعينيه عنها بعد استجداء طويل في تخفيف حدة وطأتها عليه.. سألها في لحظة رجائه الأخير: حتى أنت لا ترحمين؛ لماذا؟

كان في انزوائه خجل ظاهر وعري من الاستعطاف، وهناك انكسار قبع في خفق وجيبه، شعر معه بالحنين لحقله الصغير الممدد في البعيد، حيث عرى الزيتون تكسوه وندى المطر يعبق بترابه، يشمه كلما طاب له الترويح عن نفسه، ذلك العبق يذكره برائحة جدائل زوجه، أي شيء يعيد له تلك الرائحة التي تربطه بالأرض وقد طوتها مسافات شاسعة؟ ذلك لا يكون سوى ذكرى علقت بخلايا أنفه وعقله، تهون عليه ناره الجهنمية الواقع فيها.

تستبد به الذكريات وهو يرنو للرمال المترامية من حوله، توغل به في صور مستوحشة تفتقده.. تشكو مرارة عشر سنوات ثكالى، اجتر فيها الحزن والألم مشاهده المتكررة، تبدى فيها لون القتامة يعبر بوحشية عن حياة الذل والمهانة والتشرد بما تعنيه الكلمة من تشرد، حيث لا هوية ولا علم ولا وطن.. مستقبل لا معالم له وموت متربص بالأحلام وضحكات قيس الصغير الطافية فوق وجنتيه تنير للوالدين شمعة توصلهما لحقيقة أن روحهما ما تزالا في تعداد الأحياء، لكن سرعان ما تتبدد هذه الضحكات وتتلاشى، ويتم اغتيالها بزخم من البكاء وانحدار سيل من الرصاص يجلجل من أمعاء خاوية تخرق جدران السعادة المزعومة صارخة بجوعه، لا شيء يسكتها فالأيدي فارغة تماما ولا حيلة غير الخنوع لضرب رصاصها المدوي وتلقيه بعزم مصطنع، ويحفر في صدريهما عجز وخذلان تجاه أمانيه الحالمة في الحصول على كسرة خبز..

كل شيء يضيق عليهم الخناق.. الجوع والرصاص وعجز الجيب والاحتلال الذي ارغمهم على التخلي عن حقله وزيتونة وبيته والنجاة بزوجه وصبيه من براثنهم شأن الكثيرين من بني جلدته المشردين.. ليجد نفسه أخيراً خارج دائرة حياة كريمة كان يحفل بها في أحلامه حين توجه نحو البصرة بعد رحلة تشرد مضنية تلوت فيها مشاعره مستاءة متكدرة من استغلال البشرية لظروفه وامتصاص دمه في بشاعة واستنزاف لكرامته.. فقط لكونه فلسطيني مهجر.. حتى في البصرة لم يسلم من الطامعين.. هو نفسه لم تسلم منه نفسه وانصاع خلف مطامحه بعيش أفضل وتكوين مستقبل مرضي لطفله وانتقاله من منزلة العيش في ظل الإعاشة لمنزلة الاعتماد على النفس.. الابتزاز حتف مخير لجيبه المرهق العليل كلما عرض فكرة الهجرة لغير هذه البقعة، ويجد أول عقبة تعترضه لتهريبه.. المبلغ لا تستطيعه  يا أبا قيس والرحلة للكويت خطرة لشيخ مثلك، لا يمكن أن تجازف بحياتك وتعبر الصحراء.. هو الموت بعينه سينشب مخالبه في جسدك ويسلبك الروح.. كان يقنع نفسه بحقيقة الموت لكن الأحلام لا تبرح تقض مضجعه بأن هناك تكمن الحياة والعمل المربح.. وهناك سار يمضي محملا بالحلم والذكريات.. هناك حيث يرقد رفاته رحل بلا عودة تاركاً زوج عابقة برائحة الأرض وصغير يتلوى على حمى الانتظار رجوع شيخه المثقل بالأمنيات.. لمحت له صورة الفاجعة لرحيله في عيني الزوجة وعتاب ملحوظ في نظراتها.. ما كان عليك الرحيل.. لقد فقدنا السند.. بكلماتها المندسة بحدقتيها أصابت فؤاده المتوجع، ليعود خفقه لأعماق الأرض ويشكو هو في عمقه أناة اختفت منذ الشمس تغرق عظامه في رحلة شديدة القيظ، أيقظت في جمجمته الشابة مقاطع النقمة والسخط على مهربه الذي واعده باللقاء على بعد من النقطة الحدودية.. هذه الحدود التي قطعت أوصال العربية ونشبت مجازر لا تنتهي.. اللعنة على صانعيها.. جعلوه يقطع صحراء شاسعة ليصل في المنتهى لموعد كان سراباً.. خسر الكثير من وقته.. جهده.. أنفاسه اللاهثة.. نقوده.. من الذي يعوضه عن كل فقده؟ عمره الصغير ضاع بين صحراوين.. طموحه في الوصول يتراكض معه.. يسابق الزمن، ينضح عرقا، ويتصفح رمالها ويغوص في كثبانها.. يتعثر على صخورها.. العطش يشاطره.

لم يعد في مقدوره احتمال سياط الشمس التي تمنى لو تغفو قليلا حتى يتسنى له الحياة.. لكنه سقط صريعاً تحت شجن الألم وغصة الانتظار على رصيف تشغله رائحة الأسفلت وجرذان تتقافز دون مهابة للعابرين بسياراتهم المرفهة.. أي موطن سيقبله ليشعر فيه بالطمأنينة والراحة.. ينسى به شقوة الأيام وعبوس الوجوه.. لا يدرك معه معنى الحرمان والمهانة.. يقف مع ضربة الشمس على أعتاب تلك البصقة النتنة الصادرة من حلق غاشم.. أدرك أن دخوله في المعارضة وانتفاضته ضدهم بدت يشكل خطراً محدق بهم.. تلك البصقة جعلته يتقزز من نفسه.. يكره من حوله.. لا مفر من الرحيل.. الهروب من واقعه ومحاولة للنسيان ومحو الذاكرة.. هروب لعشر سنوات هاجت في صدره الأشواق لذلك الموطن اليتيم المذبوح بمدية الخيانة.. يهجر لأقاصي الصحراء.. ويستقر به المقام في البصرة.. مهبط كل فلسطيني باحث عن رزقه.. ولكنه سرعان ما يتراءى له أن هناك رزق أكثر وفرة يكمن في بقعة أخرى.. كيف السبيل يا ترى للذهاب والطريق محمومة، تلفح لظاها كاوية الأجساد.. نافضة عنها الجلود راسمة تسلخاتها بحجم المستنقع.. ابتزاز يريق ماء أديمه.. تراكم مع الدقائق وترعرع ليطول بذلك ذوي القربى وتنتشر عدوى الابتزاز.. وتلامس مشاعره فتأسره في سجن خمسيني بحجة ميثاق غليظ اتفق عليه منذ كان في اللفة.. ووافق هو على مضض كي يؤمن مستقبله وزوجه التي تراها تنتظر قدومه بين لحظة وأختها مثقل الجيوب بالأوراق النقدية.. تراك تصل للكويت يا أسعد؟ ربما من يدري فطموحه أشد من قيظ الهاجرة، وأحلامه تظلله.. تسوقه لرقدة ما كان يتوقعها.. على رمل شرس سفك عرقه وجفف خلاياه المتورمة.. وعين الشمس المحمرة ترمقه شذراً.. سارقة أحلامه الطفولية.

لاح طيفه مطلا على رفاتهم.. وفي عينيه أسئلة تعانده.. فكلما أراد خنقها ترفض الموت، وتنمو كأفعوان.. تلاحقه أينما ادار وجهته.. تطالبه بزيارة لرفاقه المنكودين.. تشعره بوزر موتهم وتنغص عيشه بجعله يتذكرهم كل هنيهة.. استحال العيش في ظل ذكراهم.. ما حيلته في دفع الموت عنهم وهم من البداية انساقوا خلفه؟ على العكس بل هم انجروا وراء أمانيهم التي تبخرت في الخزان الساخن.. لولا أبو باقر ومزحه السخيف لما احتجز أبا الخيزران.. ولتنعمتم بأرغد العيش.. من أبرم الصفقة معه؟ أليس أنتم وبعتم أنفسكم بعشر جنيهات بخسة؟ لقد رضيتم بدخول فرنه كخراف محشيت.. سلبتكم حب المغامرة والهروب من ضيقكم بصائركم.. ضربة الشمس أفقدتكم صوابكم ظللتم تفكرون في أحلامكم وأشباع لرغبة الوصول يستحوذ عليكم.. لماذا بعد كل هذه الرفقة تسرقهم وتغتال سعادتهم في خزانك الصدئ؟ ثكلتك أمك يا أبا الخيزران. هل أشبعتك تلك الجنيهات المدسوسة في جيوب بناطيلهم؟ أرى كرشك قد اتسع ويدك اعتادت السرقات كسيدك الحاج رضا.. لم يتمالك الدمع فأسقطه على الرفاة وارتسمت لوحة من الذكريات تزيد من وطأة الوزر الملقى على كاهله.. ذكريات مشبعة بالوجع.. لعشر سنوات خلت تزفر أنينا وتشق في الروح أخاديد الحسرة والعجز لهذا الفلسطيني الخيزران.. ذلك اليوم الذي انتهى لرجل أعزل من رجولته.. لكونه وطني مكافح.. فأي وطنية قد حفظت له الرجولة؟ سحقاً للحاج رضا الذي كذب مدعيا أنه يصادق امرأة.. قد هلك كل شيء مادام هلكت الرجولة.. لم يبق لديه غرائز يشبعها سوى غريزة حب المال.. ملء اليدين والجيوب منه هو ما يشغله ويؤرق جفنيه.. سؤال يصارعه رغم ما به من هموم.. هتف به ذات ليلة.. لماذا لم تقرعوا على جدار الخزان؟ ردد الصدى هاتفا.. ربما هي رغبة خفية ملحة للموت.. انتهاء كل مشرد في صحراء لافحة.

2يوليو 2022


عن رواية (رجال في الشمس)، للكاتب: غسان كنفاني.

مقالات ذات علاقة

موجلي وشيرخان

عزة المقهور

شَهَرَسَرْد ( 1 )

جمعة الفاخري

الكلب في اليوم السابع

الصديق بودوارة

اترك تعليق