مهداة إلى روح القاص الراحل محمد بلقاسم الهوني
.
كنت أسير على الرصيف الواسع بأحد الشوارع الرئيسية بالمدينة، استرعى انتباهي أن الرجل الذي يسير أمامي كان يصفر لحنا عذبا لأغنية مصرية قديمة، حاولت أن أتبينها ولكن دون جدوى.
أسرعت في خطوي حتى صرت أسير بمحاذاته، التفت إليه، لكنه لم يعرني انتباها وظل منسجما يصفر لحنه الجميل، وقد مد شاربه السفلي إلى الأمام وقوسه بطريقة تساعده على إصدار ذلك الصوت العذب، وراح يكرر تلك النغمة التي عجزت عن معرفتها.
كان رجلا قصيرا، حليق الرأس وثمة صلعة تزحف باتجاه منطقة الوسط من رأسه. كان يرتدي بدلة بنية اللون، وقد بهت لونها قليلا. في جيب سترته العلوي ثبت قلمي حبر .
قلت له: عفوا يا اخ .
توقف الرجل ، ونظر إلي باسما .
أضفت: لقد حيرني هذا اللحن، لمن هذه الأغنية الجميلة ؟
قال : لشادية.
قلت : آه صحيح صحيح لكنني لم أعرف الأغنية.
قال : إنها أغنية “مش قلت لك يا قلبي”.. جميلة أليس كذلك ؟
قلت : نعم إنها كذلك .
قال : هل تعلم أن كلماتها هي للشاعر فتحي قورة ؟
قلت : لا والله لا أعرف هذا من قبل.
أضاف وابتسامة المنتصر تكسو ملامحه : واللحن لمنير مراد.
قلت مندهشا : والله ؟
قال : هيا نغنيها معا.
وعاد يسير مجددا وأنا أسير إلى جواره، يغني باستمتاع ظاهر: مش قلت لك ياقلبي …مش قلت لك ياعيني. كان يؤدي الأغنية بشكل جميل، ومن الواضح أنه يتقن حفظ اللحن والكلمات، أما أنا فكنت أحاول اللحاق به والتقاط اللحن منه والكلمات.
كان المارة والواقفون في الشارع ينظرون إلينا في دهشة ويبتسمون، وكان الرجل ذو البدلة البنية مستغرقا بالكامل في الأغنية، حتى أنه كان يؤدي الفواصل الموسيقية للأغنية عن طريق الصفير الذي كان بارعا فيه.
ونحن مازلنا نمشي على الرصيف الواسع ونغني سويا انتبهت لعبارة كتبت بلون غليظ أحمر على جدار عمارة تقع على يسارنا، لمست بأصبعي كتف الرجل الذي يمشي إلى جواري مصفرا وأشرت إلى العبارة المرسومة على الجدار فنظر إليها ثم هز رأسه وابتسم ابتسامة عريضة أقرب إلى أن تكون ضحكة وهو ينظر إلي دون أن يتوقف عن الصفير . كانت العبارة تقول: ما أجمل الحياة بدون معمر القذافي. وواصلنا السير والغناء معا أنا والرجل ذو البدلة البنية.