وقف على المنصة الكاتب الراحل يوسف الشريف يقرأ “ليلة الدُخلة” سرديةً ما بعد “الجدار” القصة النافذة في مجموعته الأولى، الفائزة بجائزة رعاية الفنون والآداب 1965. كنت ألمح صورته في الصحف، وأراه أول مرّة في قاعة البرلمان الملكي المنهار عام 1969…
كنت وقتها خريف 1973 طالبا في الثانوية الأدبية، وعلمت أن الكاتب الواعد، ومدير الإذاعة الليبية لتسعة أشهر بعد سبتمبر 1969 اختار الابتعاد عن المشهد الإعلامي في وظيفة الأمين الإداري بكلية علوم طرابلس. تداعت في ذهني نهاية “ليلة الدُخلة” مع “الجدار” الفشل في القفز عليه، وإعادة التجربة.
مؤتمر الأدب الليبي كان آخر ظهور للشريف، بعد 8 أشهر من إعلان ما سمي بالثورة الثقافية، الذين ساهموا بل برمجوا الفعالية من الكتاب الستينيين، كان جل رفاقهم ومجايليهم، من الكتاب الآخرين طالهم عسف الاعتقال فغابوا عن المشهدية، ما لفت استغرابنا حضور العضو البارز في مجلس قيادة الثورة، ووزير الاقتصاد والتخطيط، والبحث العلمي لفعالية المؤتمر الأدبي، وهو ما دفعنا للتكهن بأن له يداً في انعقاده، مخالفة منه لرئيس مجلس قيادة الانقلاب الذي غافل رفاقه الضباط بإعلان مُسمى الثورة الشعبية والثقافية، ومثل حضوره استباقاً لمحاولة كسب الكتاب والمثقفين ربما لمخططه الانقلابي فيما عرف بمحاولة المحيشي الذي سيفشل في أغسطس 1975 حيث صرتُ طالباً في كلية الآداب بالجامعة الليبية في مدينة بنغازي.
قبل سقوط البرلمانية الليبية، عاصرت فتىً طُلعة تجربة انتخابات 1964التى طالها تزوير فادح فاستُعيدت عام 1965. وعلى ضوء ما لمسته في حيّنا السكني بشارع الزاوية من تغير في وضع المرشح بعد الفوز، أولت به قصة “الجدار”. تأويلي سيكون إضافات مقوّسة لتلخيص الكاتب والقاصّ ع .ب. الككلي المتضمن رؤية طبقية ربما لا يحتملها قص الشريف بعفويته المجتمعية: “يعود بطل القصة (المُرشّح البرلماني) إلى حيه الشعبي، الذي ولد وتربى فيه، بعد مدة من انتقاله منه نتيجة (انتخابه) وتحسن وضعه الوظيفي ودخله المالي، وسكنه في منطقة “راقية”، وهو يقود سيارته، يقابله جيرانه القدماء ”الفقراء” (الذين رشحوه نائباً برلمانياً عنهم) بتحفظ وجفاء: لقد نبت جدار عازل بين الطرفين“.
الكاتب والناقد يوسف القويري الذي غيب نفسه، بعد حدث ما سمى بالثورة الثقافية، كان حاضراً في المؤتمر، ليس فقط بكلمة عضو قيادة الانقلاب في التنويه به، بل في مساهمة الكاتب والناقد خ. التليسي التي عنونها بـ “الشعر وقطعة الخيش” متهجماً على أدب الواقعية الاشتركية، الذي كرّسته كتابات م. جوركي الكاتب المؤثر في ي. الشريف، ناعياً الواقعية في التيار بأنها “واقعية بلا ضفاف” الشعرية التي افتقدها القويري في مؤلفه النقدي اللافت “الكلمات التي تُقاتل”في نثر الشريف، الذي كتب، متسائلاً أين كاتب “الجدار” الذي يقفزه لتجاوز: خشونة اللغة، وبرودتها، وتراكيبها الشائعة المتداولة، وأن يصنع نثراً بديلاً تتوفر فيه الحساسية، والحرارة والروح، والابتكار.
نحن، من سنصير كتاب الجيل السبعيني، م.الزنتاني، و ر. سليم، وكان يجالسنا في صف آخر من القاعة ولم نتعرف عليه بعد ج. بوكليب، فهمنا مقاصد التليسي وأنه ينعى غياب الشعرية في نثر القصة الستيني الليبي الممثل بحضور ب. الهاشمي الذي لم يلقِ قصته واكتفى بالتنظيم، وأ. ب. الفقيه الذي ألقى قصته “الرجل الذي لم يشاهد في حياته نهراً” ببلاغة ساذجة ومصطنعة و ي. الشريف الذي ألقى قصة “ليلة الدُخلة” واصفاً فظاظة الحدث بلغة الخشونة. كنا وقتها نقرأ بلهفة كل جمعة في صحيفة الأسبوع الثقافي “كرّاسات أدبية” المقالات التي كان يكرّسها الناقد الكبير في معرفة شعريات قص ورواية الواقعية النقدية لكتاب الغرب في القرن الـ 19 وبدايات الـ 20، الفرنسيين كـ “فلوبير ، وموبسان، والروسي تشيخوف، والإيطالي برانديلو أولئك الذين ترجم قصصهم في مؤلفه “ليلة عيد الميلاد” و “قصص إيطالية”.
في عام 1975 قفز الكاتب يوسف الشريف فوق “الجدار” بمجموعته القصصية الستينية “الأقدام العارية” مجموعته القصصية السبعينية الثانية، القفزة كما بين م. ف. صالح في قراءته النافذة “البصر قبل الصوت” تجاوزت المشهد القصصي في الجدار بكامله. أي البيئة السردية، وأنماط الشخصية القصصية، والأجواء الروحية والنفسية، وحتى أسلوب القص ولغته التي طالب ي. القويري، الكاتب الواعد ي. الشريف بالقفز عليها. فالبيئة القصصية في قصص مجموعة الجدار حتى “الجدار” بدأت تغادر عوالمها باتجاه مكاتب الشركات في “الأقدام العارية” والمكاتب الرسمية ودهاليز الاستجواب. كما بدأت تنسلخ عن منطقية العلاقات “الزماـ كانية” الواقعية، وعقلانبتها الفجة باتجاه الرمز والأسطورة.
بعد الأقدام العارية، قفز الشريف جدار القص الأدبي، إلى جنان الطفولة النوستالجي، منخرطاً في كتابة قصصه للأطفال، والترجمة، والبحث النظري، والإصدار المعجمي. وبالتوازي مع هذا الانهمام ظل يكتب القصة بلغة مابعد الجدار التي تجلّت بوضوح في مجموعتيه القصصيتين: “هذا كل شئ” وقبلها “ضمير الغائب“ نقرأها بالتقييم النقدي لـ م. ف. صالح بأن:ماكنا نظنه ونعتبره واقعياً في قصص “الجدار”، وواقعيا ترميزياً في قصص”الأقدام العارية”، صار في قصص”ضمير الغائب”كابوسيا وفانتازيا، بل الخيالي الذي يسود عالمها هو الأكثر واقعية. هذا التحول في الرؤية الفكرية والفنية انعكس على البيئة القصصية، بحيث لم يعُد “الزما ـ كان” الموضوعي كخلفية، وإطار خارجي للحدث، والموقف، وحركة الشخوص؛ بل الصوت الداخلي “الصامت”حيث تهيمن على القص لغة المنولوغ، والحلم، والتداعي الذاتي الذي يصل إلى حدود الهذيان“.
يوسف الشريف يراني للمرّة الأولى في تذكار علي الرقيعي الشاعر الستيني مجايله، وجاره في حيّ الظهرة بمقطع الحجر، وبعدها في فشلوم. المكان منصة سينما الودان والزمان 1991. والحدث مداخلتي التي لم تكن مبرمجة في الاحتفالية متكلماً في شعرية “الأشواق الصغيرة” الديوان الذي سبق موت الشاعر الفاجع عام 1966.
بداية التسعينات، بعد انفراج في المشهد الثقافي بخروج الكتاب المسجونيين عام 1988 نط الشريف بخفة عصفور البوخضير في سواني المنشية على جدار الابتعاد والانكفاء على الذات ليلتحم مرة ثانية بالموضوع عبر رئاسته لتحرير مجلة اتحاد الكتاب الليبين “الفصول الأربعة“ التي لحقت بنشر مقالتي الرقيعي “شاعر الأغنية” فيها قبل سفري شتاء 1992إلى ألمانيا مبتعثاً لاستكمال دراستي العليا في الفلسفة، لأعود 24 ديسمبر 1999 في زيارة مطولة لليبيا قاربت العام. وبوساطة من الشاعر ع. الطويبي نسجت صداقة مع يوسف الشريف كاتب قصص الجدار باستعادة العالم القصصي القديم مكاناً وزماناً شخوصاً وأحداثاً وأجواءً ليس كتابة بأسلوب القصة بل سرداً للسيرة الذاتية. فقد انتهز مناسبة بلوغه عامه الستين، ليتكلم عن سيرته في حوار مكتوب جواباً لأسئلة الكاتب الصحفي أ. الفيتوري نشره ضمن دراسات وكلمات التكريم الأخرى، في كتاب “جدل القيد والورد”. هذا الحوار الطويل عكفت على قراءته بعناية فائقة، وأخذته معي عائداً لألمانيا سنة 2000، وكنت أعلم يقيناً أنه سيكون الخُطاطة لسيرتيه اللاحقتين التأريخ لـ “الرحلة الجنوبية”وهو ـ مازال تلميذا ثانوياً ـ يسافر معلماً مؤقتاً في فزان، و”الخُلاصة” وهي ليست خلاصة سيرة بين ميلاد وموت، بل خلاصة الأسئلة والكلمات، التي تقصد أو لم يتقصد مخالفتها للسير بأنها لم تعبر بالأحداث والوقائع والتواريخ، بل هي خلاصة ماتبقى من حياة كانت دائما تحمل نقيضها في ذاتها.