الطيوب
يحل تاريخ اليوم ليُذكرنا بمرور عام على رحيل أحد قامات الحركة الثقافية والأدبية في ليبيا الراحل “يوسف الشريف” الذي داهمته المنيّة إثر تعرّضه للإصابة بفيروس كورونا المستجد ليفقد الوسط الأدبي رائدا للقصة القصيرة وعلما من أعلام أدب الطفل لتمتد تجربته مع الحياة والأدب والفكر أكثر من نصف قرن من الزمن، فالراحل من مواليد عام 1938م نشأ وترعرع في زقاق الباز أحد أزقة مدينة طرابلس القديمة تشرّب من قيم المدينة الحضرية وهو ال1ي تنحدر جذوره من واحة ودان بوسط الصحراء الليبية، تحسس خطواته الإبداعية الأولى مع ميلاد مجموعته القصصية( الجدار) التي ركز في متنه على الهم الاجتماعي وتطلعات جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وقد تحصلت مجموعته على جائزة الفنون والآداب عام 1968م وأتبعها باصدار قصصي ثان بعنوان (الأقدام العارية) عام 1975م.
الطفل رهان يوسف الشريف
وجد الأديب الراحل ضالته في كتابة قصص الأطفال ليُسخّر رسالته وأدواته الإبداعية في خدمة الطفل محاولا زرع بذور الأمل في بيادر أرضه البكر عبر إصداره لعدد من المجموعات القصصية والموسوعات والترجمة بالإضافة للمعجم المُيسّر للأطفال الذي لم يرى النور حتى يومنا هذا، رهان الأديب الراحل على الطفل اختصر الكثير من المسافات والتعب واللهاث خلف سراب تقويم سلوكيات الكبار فإنما الطفل يشكل قبس أمل وشمعة تتقد بملامح الغد.
المسيرة المهنية
تبوأ الراحل عدد من المهام والمناصب الوظيفية والإدارية في الإذاعة والإعلام فشغل منصب المدير العام للإذاعة عام 1969م وتقلّد لفترة محدودة حقيبة وزارة الإعلام عام 2013م، ولديه رصيد كبير في مجال إعداد البرامج الإذاعية وتجربة ثرية في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة وتولى رئاسة تحرير عدد من الصحف والمطبوعات، في عام 2013م على هامش فاعليات معرض طرابلس الدولي للكتاب أطلق الجزء الأول من سيرته الذاتية المعنون بـ(الأيام الجنوبية) يرصد فيها عمله كمدرِّس في منطقة ونزريك جنوب ليبيا وما لبث أن تمم سيرته بالجزء الثاني المعنون بـ(الخلاصة) وأرادها عصارة لمسيرته الإبداعية والمهنية المحمّلة بزخم التساؤلات ورياضة التأمل مفتشا عن المزيد من مصادر العطش لرهق المعرفة وطرق الوصول الآمن إليها.
الشاعرة أميلة النيهوم : كانت صدمة فقده فاجعة وموجعة
وفي إطار سنوية الأديب الراحل شاركت الشاعرة “أميلة النيهوم” متحدثة عن تجربتها الإنسانية والإبداعية مع الراحل قائلة : بابا سافو الجميل “يوسف الشريف” وطن الطفولة وبهجتها أحببته منذ ولدت كنت أحبو وألهو بقصصه الفاخرة الزاخرة بأحبارها الباهرة وتلاوينها الرائعة وأفضّلها على الدمىٰ ومنها علّمني بابا الحروف وعشقت القراءة والقلم وأدمنت رائحة الكتب وأصبحت عطري المفضّل.. أحببته بكل حرف قرأته له كان نبراسا متوهج الضياء في روحي وأيقونة محبة وعطاء في قلبي وفي أوجِ محنة مرضي ويأسي قيّضه الله ليكون حياة أخرى لي دعَم حرفي وسنَد ضعفي زرع الأمل والتفاؤل في روحي رغم محنة المرض والفقد والغربة أحيا حلم بابا رحمه الله في طباعة ديواني ألحَّ أن أقاوم بالكتابة وأحقق حلم الديوان ظلّ عدّة أشهر يواكب معي تجميعه وتجهيزه وتنسيقه وينصحني ويوجّهني ويوبّخني ويهدّدني ويدعمني وكتب لي مُقدّمة غير تقليديّة وهو الذي لا يحبّذ المقدمات.. ورغم العوائق الصحيّة لي وله والمشاكل التقنيّة العديدة التي واجهتني والتأخير الذي أغضبه خاصة بعدما يئِس من كثرة مماطلة وتسويف وتأخّر طباعة معجمه الذي وضع فيه عصارة روحه وفكره ليكون من أبرز المنجزات الإنسانية لعالم الطفولة كان هاجسه الأكبر ووصيته الإسراع في إنجاز ديواني والمشاركة به في مهرجان القاهرة الدولي للكتاب ويقول لي : ” إنّ الوقت ليس لصالحنا لابدّ أنْ يتحقق الحلم”.. كتب لي آخر كلماته : “أنا مُتعب اكتبي لي حجاب” أرسلت له نص “جمرة لؤلؤة العيد” فانبهر به وكتب آخر كلماته لي : “يا مولي أنت تعيدين صياغة الكون، عندما يتعاظم فيضان الحنين. “….
عندما تجد ركنا صغيرا دافئا في قلبٍ كبيرٍ غدقٍ يأويك ويحتويك ويُنسيك فقد أقرب الناس إليك تكون صدمة فقده فاجعة وموجعة أكثر…لذلك فجيعتي فيه لا حد لها بابا الشريف الحنون الذي عوّضني عن فاجعة فقد والدي رحمهما الله وجميع الأحباء.
الكاتب والناقد عبد الحكيم المالكي : يوسف الشريف يمثل الجيل التأسيسي وأفضل من يمثل الليبي الناصع البياض
ويتحدث الكاتب والناقد “عبد الحكيم المالكي” مستطردا : في سنة 2008.م أو 2009.م تقريبا كنت في المطار متوجها إلى مدينة بنغازي للمشاركة في احد النشاطات كنت فيما أذكر مع المرحومين صلاح عجينة وأبو القاسم المزداوي وكان ضمن المسافرين معنا المرحوم ا. يوسف الشريف (غفر الله له) وكان بطريقته المحببة في الحوار وأسلوبه الراقي يحدثني عن لقاء عملته قبل فترة في قناة ليبية حول تجربتي النقدية وتحدثت فيه عن كوني أميل للكتابة عن الأجيال الجديدة من الكتاب قال ا. يوسف ضاحكا كان اللقاء كله جميل إلا كلمة واحدة لم تعجبني وهي مسألة أنك تكتب عن الأجيال الجديدة فقط.
وأعلم أنه لا يتكلم عن نفسه ولكنه كان يتحدث عن جيل كتب في عديد المجالات وأبدع، جيل كتب في كافة الأنواع واشتغل في أغلب أساليب الإبداع، وكان محافظا على احترامه لذاته.
هذا الجيل التأسيسي في ليبيا لعل أفضل من يمثله الليبي الناصع البياض، أو الليبي الحقيقي: أ. يوسف الشريف.
لن أتحدث عن إبداعه في القصة الذي أوصله للحصول على الجوائز منذ يواكيره، ولن أتحدث عن منجزاته المميزة ليبيا عربيا في أدب وثقافة الطفل، كما إنني لن أتحدث عن عمله في مجال الإعلام في مجالات مختلفة ومتعددة لعل منها كونه مديرا للإذاعة الليبية في ازمنة قديمة، ولكن سأذكر موقف/ كلمة لهذا الرجل الشريف ناصع البياض ولعلها من أهم الكلمات التي قراتها في محبة ليبيا وتمثل في تصوري معيارا يجب على كل ليبي حقيقي أن يجعلها نبراسا له. هذه الكلمة التي حاكها عندما كتب قراراه بالاعتزال الذي نشره في بلد الطيوب بتاريخ 28. 8. 2019.م ونشرته كذلك السقيفة الليبية، هذا البيان الذي سأضعه باعتباره بمثابة خط يحدد مدى عمق ونصاعة المثقف، إذا كان له عمق أو نصاعة، لنتابع ما قاله المرحوم من كلمات كان لها أن تبقى في ذهني وستبقى بعونه تعالى لقوتها المعنوية ولدقتها وتميزها ولأنها تمثلني بالفعل وأزعم أنها ترجمت تصورات جيل كامل بعده أزعم أنني منهم بطموح أن يكون انحيازنا للوطن فقط، ترجمته في لحظة فارقة والحرب والاعتداء والتخوين قد شق صف الليبيين وزرع بينهم جحيمه، لنتابع ما قاله (غفر الله له) من كلمات دقيقة محكمة صائبة وفاعلة:
“استئذان للمغادرة
(عقيدتي منذ أن عرفت القراءة وعرفت الكتابة ومنذ ان نشرت في الصحف أول نص أدبي سنة 1959 أن الثقافة وطن، وأن الوطن لا يمكن أن يكون حقيقيا إلا بالجميع وليس لأحد أن يحتكر سؤال الوطن، وليس من حق احد أن بمنع الرأي الآخر، هكذا مضت الثمانون عاما من عمري، لم تأخذني أي عقيدة أخرى إلى حماها، لم أنضم لأي تنظيم مهما يكن شعاره أو رأبته، كما لم أكن منحازا لأي شخصية، الكل يطلب منك أن تمر للوطن من خلاله هو. كنت أنا والوطن فقط وجها لوجه، هكذا كنت وهكذا سأكون وهكذا عرفني الوسط الثقافي الليبي وعرفني المثقفون، ومن هذه العقيدة أشرعت فضائي هنا للجميع واعتبرت الجميع أصدقاء بمدلول الكلمة، لكن تبين فيما بعد أن عقيدتي لا فرصة لها للعيش في معترك أسئلة خارجة عن المنطق الوطني وخارجة حتى عن منطقها التاريخي.)
غفر الله وتقبله وقد ترك لنا خطا حقيقيا علينا – دائما- أن لا نحيد عنه. خط ليبيا الوطن الجامع. ليبيا التي أتصورها اكبر من كل فكرة ومن كل تصور جزئي محدود. ليبيا وطنا للمميز يوسف الشريف ولنا معه وبعده.