د. عمر بن ناصر حبيب
في إطار سلطته على خطابه الشّعري المُنتج، بنى النّاص (المتكلّم) معمار نصّه على تقنية مهمّة ذات بعد واسع مثير في حقل تحليل الخطاب Discourse Analysis واللّسانيّات التّداوليّة Pragmatics، أراد من خلالها المواءمة بين عديدٍ من الأصوات؛ لتعميق الدّلالات المتوافقة والمتباينة، بغرض الظّفر بدلالات مكثّفة ذات بنية جمعيّة، تعبّر عن تيمة النّص وعتبته الرّئيسة، الأمر الذي يؤدّي إلى إثراء الفضاء الدّلالي للخطاب الشّعري بوجه عام. هذه التقنية ينعتها الأدب النّقدي بظاهرة (البوليفونيّة) تعدّد الأصوات Polyphony التي اشتهرت لدى العالم (باختين) بمصطلح: تعدّد الألحان، في إشارة إلى تشابهها بتعدّد الأنغام في الموسيقا.
فوفقًا لما ذهب إليه (باختين)، في إحدى مفاهيمه ذات الصّلة بفكرته عن الخطاب والحواريّة، الذي يشير فيه إلى اعتقاده بأنّ أي خطاب لغوي سواءً أكان منطوقًا أم مكتوبًا (ولو كان لا يتضمّن حوارًا) يسري وكأنّه تشكّل من خطابات لغويّة سابقة، ويحمل شيئًا من وحي بصمات نصوصٍ سابقة له، ويتنبّأ بناءً عليه بنصوصٍ لاحقة جديدة؛ فإنّ تعدّد الأصوات في النّص هو حالة من جملة الحالات الحواريّة التي تبني النّص المُنتج Dialogism.
وفي هذا الشّأن يميّز (باختين) بين مستويين من الخطاب ذي الأصوات المتعدّدة: مستوى يتّخذ من التّفاعل بين متحاوريْن أو أكثر في إطار جدالي خارجي (ديالوجي) أساسًا له، ومستوى حواري باطني أحادي في إطار (مونولوجي) أساسه راوٍ واحد، ويراه بعض النّقّاد بأنّه المستوى الذي يتّسم فعليًّا بتعدّد الأصوات (جاسم، وحسن، 2021).
وتظل هذه المسألة جداليّة بين النّقّاد، تتوقّف على تباين قراءاتهم لطروحات العالم باختين، وتأويلاتهم الذّاتيّة لرؤاه حول بنية الرّواية، التي جاءت تحديدًا مع دراساته لبعض الأعمال الرّوائيّة لديستويفسكي، وأيًّا كان من أمر؛ فإنّنا نرى ملامح واضحة لأنماط من البوليفونيّة، يمكن توظيفها في كلا المستوييْن. “فالحوار أو الدّيالوغ البوليفوني، هو بمثابة حوار مباشر خارجي، يستلزم تعدّد الشخصيّات، واختلاف المواقف والأفكار، وتصارع الأيديولوجيّات، وفي المقابل يتمّ الحديث عن الحوار الدّاخلي (المونولوج) والحوار الصّامت الدّال على الصّمت والسّكون والحذف والإضمار“ (حمداوي، 2015).
وعلى الرّغم من أنّ باختين يقصر رؤيته بحضور البوليفونيّة في الرّواية بالذّات؛ لتضمّنها عديد الشّخوص الواقعيّة والمتخيّلة، الذين هم وراء نموّ الأحداث وديناميّتها، ومن ثم تخلّق عالم رحب من تعدّد الأصوات والرّؤى والأفكار، وتشابك توجّهاتها وتداخلها، بين توافقها وتباينها على نحو متضافر، واعتقاده (في الوقت نفسه) بانتفاء هذا الحضور البوليفوني في النّص الشّعري؛ ذلك لأنّه رهين الذّات الشّاعرة، ويستبطن رؤاها الأحاديّة؛ فإنّنا نذهب مع آراء بعض النّقّاد الذين تجاوزوا بأبحاثهم العديدة حول هذه الظّاهرة، حصر أفكار باختين حول جنس أدبي بعينه؛ فأقرّوا بتوظيف التعدّدية الصوتيّة في النّص الشّعري عبر تحوّلاته الزمنيّة، منذ القدم وحتّى وقتنا الحاضر.
ولعلّ حضورها البيّن قد كان مع بزوغ فجر قصيدة النّثر غير المقطّعة، التي مثّلها بعض شعراء الغرب، أمثال: بودلير، ورامبو، ومالارميه،… وغيرهم. ورأينا عمق تجلّياتها في ما عُرف في الوسط الإبداعي الشعري، بالقصيدة السّرديّة التعبيريّة. “والسّرد المقصود هنا ليس الحكائي القصصي، فهو سردٌ مانع للسّرد، جاء بقصد الإيحاء والرّمز، والخيال الطّاغي، واللّغة العذبة، والانزياحات اللّغويّة العظيمة، وتعمّد الإبهار.
أمّا مفهوم التعبيريّة، فمأخوذ من المدرسة التعبيريّة، التي تتحدّث عن العواطف، والمشاعر المتأجّجة، والأحاسيس المرهفة، أي التي تتحدّث عن الآلام العظيمة والمشاعر العميقة، وما تثيره الأحداث والأشياء في الذّات الإنسانيّة.. فهي شكل لقصيدة، تسترسل في فقراتها النّصيّة المتلاحقة والمتراصّة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة، لا تعتمد وضع الفراغات بين فقراتها..” (عبد الله، 2020).
وبقراءة النّص: “طغيان لمزاج الرّؤى” يكشف لنا المقطع الأوّل النّاص/ الشّاعر يتوارى خلف ضمير المتكلّم (أنا) متمثّلًا في (الصّوت الأوّل) ليخاطب الطرف الثّاني ذاته المُضمرة المتماهية بوجوده، مستخدمًا فعل المضارع (أُحبّني)؛ ليبرز استمرار الثّقة المتعالية بنفسه وديمومتها، فيخلق ثنائيّة صوتيّة طرفاها طرفا العمليّة الاتّصاليّة: المرسل (المتكلّم/ الشّاعر) والمستقبل (الذات/ المُضمرة) التي تمثّل (الصّوت الثّاني) المستتر وراء وجود (كُلياني) يتوحّد فيه الشّاعر بذاته. وقد تعمّد النّاص بهذا الاستهلال، الولوج منذ البدء في حواريّة تعدّدية مع ذاته والآخرين (الصّوت الثّالث = أصوات متعدّدة)، تدفع بالمتلقّي أن يكون في عمق النّص، بتدرّج تفاعلي يمكّنه من قطف معانٍ ودلالات لا نهائيّة، تتنامى كلّما تشابكت الأصوات، وتداخلت أنغامها في فضاء النّص، والهدف العريض للشّاعر دائمًا، هو محاولة إغناء الفضاء الدّلالي لخطابه:”أُحبّني هكذا/ معتدًّا بأنايَ العميقة في التبسيط/ كخيال صعلوك/ لا ألوي على ترف التّأويل/ كنبيٍّ صودِرت آياته/ من حلق الرّؤى“.
وفي خطابه المتعالي بالثّقة والاعتداد بالنّفس، الذي خالجه شيء من الشّجو الخفيف ضمن هذا المقطع، في معرض كشفه عن حقيقة ذاته وبراءتها وبساطتها؛ تُعمّق الجُملُ الشّعريّة شفافيّة الرّؤية، وبعدها الإنساني الذي يتّسم بالسّجيّة الفطريّة البسيطة، التي لا تحتاج معطياتها إلى تفسير. وجاء استخدامه: “خيال صعلوك”لزيادة توسيع الفضاء الدّلالي، مستفيدًا من الحضور البصري المصاحب لهذا التركيب، القابع في الذّات المتخيّلة، الذي عمّقها التّناص التّاريخي عبر صورة الصّعلوك، فشكّل صوتًا آخر مؤثّرًا في شبكة البنية المشهديّة الحواريّة، فضلًا عن البعد البلاغي المباشر القريب، الذي خرج بالتركيب عن دلالته اللّغوية المعجميّة، التي تشي بمعاني العوز والفقر، إلى دلالات أخرى تجسّد معاني البساطة بعمق. وعبر البنية التكراريّة التي وظّفها النّاص في هذا المقطع: كخيال صعلوك/ كنبيّ صودرت آياته، رأينا بعدًا إيقاعيًّا كان قد تشكّل مصاحبًا لتوالد المزيد من الدّلالات وإغنائها في فضاء النّص، ولعلّها أكثر البنى استخدامًا ممّا اعتدنا رؤيتها في النّصوص الحداثويّة.
ويتّجه الشّاعر ضمن هذا المقطع من نصّه؛ ليحاور بعض الشّخوص المتخلّقة، مع نمو الحدث النّصي:
(“هكذا ستمضي غريبًا”/ أقولها للشّاعر في ظلّي/ ظلّي المسكوب حسب توقيت الشّمس في البيداء/ لا بئر في جوفي لأحتفظ به/ سرّي في علانيتي كرابعة النّهار تحتها/ بقلبٍ واضح لا يدانيه شحم/ كلّ راءٍ مزاج رؤاه الطّاغية في الأنا) فيستخدم التناص الحواري الذي في أساسه “ينبني على التضمين، والاقتباس، والمعارضة، والاستشهاد، وتوظيف النّص الغائب، واستحضار كلام الغير نقلًا وتفاعلًا وحوارًا“ (الحيّاني، 2021).
وبذلك يتناص بوعي منه، عبر الجملة الشّعريّة التي رسمها بين قوسين صغيرين: “هكذا ستمضي غريبًا” مع الشّاعر (تيسير سبول) مضمّنًا هذه الجملة الشعريّة من آخر نصّ تركه الرّاحل بلا عنوان: “أنا يا صديقي/ أسير مع الوهم، أدري/ أُيمّم نحو تخوم النّهاية/ نبيًّا غريب الملامح أمضي، إلى غير غاية/ سأسقط لا بُدّ يملأ جوفي الظّلام/ نبيًّا قتيلًا وما فاه بعد بآية…“.
وهذا الصّوت الخفي الذي ولّده التّناص، واستدعته المخيّلة من بعيد، فتماهت به الذّات، وقد تعالق مع موقف حواري داخلي، طرفاه صوتا الذّات المجزوءة بين كائنيْن: أحدهما حقيقي، والآخر متخيّل (أقولها للشّاعر في ظلّي…) خرج بالنّص من رؤية ذاتيّة، عبّرت عمّا تعانيه الذّات من قلق واغتراب واضطرابات انفعاليّة، إلى نصّ ذي نزوع فكري وجودي، يحمل بذور تجربة إنسانيّة، منفتحة على معطيات الواقع وصراعاته، ومؤثّرات سياقاته الإدراكيّة المتعدّدة.
وهنا يجسّد الشّاعر ذلك التّشابه الكبير في التّوتّر النّفسي بينه والآخر، متجاوزًا حدود الرّؤية في النّظر إلى واقعه ومعطياته؛ فكما أنّ الرّاحل تيسير سبول”غريب كالأنبياء لم يُستمع لبشارته فكان سقوطًا ثقيلًا مدوّيًا، بعد أن امتلأ جوفه ظلامًا ممّا يرى، فلم تتحقّق نبوءته ببشارة الأمل لقومه، الذين أنكروا آماله وأحلامه” (عبد الرّفوع، 2020) فإنّ غربة شاعرنا الحمروني جاءت نتيجة القلق الوجداني الوجودي المصاحب للقلق الإبداعي الذي يعيشه، فعمّقا حالة الصّراع الباطني الذي تعانيه الذّات، ربّما بفعل شعورها بإخفاقاتها في إيصال رؤيتها العميقة للآخر؛ نتيجة سلبيّة متلقّيي رسالته الشّعريّة والثّقافيّة بوجه عام.
وفي قوله: “لا بئر في جوفي لأحتفظ به/ سرّي في علانيتي كرابعة النّهار تحتها/ بقلب واضح لا يُدانيه شحم”وكأنّه يغور في الحيّز المكاني للذّات المتوارية خلف الحجب؛ فيلقي بحواس جسده واستشعاراتها هناك، شاهدًا على تفجّر بعض تلك الفضاءات المبهمة، الموغلة في الجفاف والتّصحّر واحتجاب الرّؤى، وتأتي هذه التراكيب توكيدًا على وضوحه وجمال فطرته وصدق مشاعره…
وقد عمّق دلالات هذه القيم، بتوظيف نوع من البوليفونيّة الصّامتة المضمرة في ما تُسمّى (العبارات المسكوكة) وهنا يمثّلها “ارتباط البئر بالظّل والسّر” في إشارة للاستخداميْن المأثوريْن (سِرّك في بئر/ مثل البئر ظلُّه في وسطه) ودلالتهما الاحتجاب التّام عن مسمع ومرأى الجميع، وهذان الاستخدامان يضمران أصواتًا لا تُحصى، لشخوص بدت صورهم متخيّلة قابعة في الذّاكرة، ويمثّلها أيضًا التركيب التّراثي “رابعة النّهار” التي توحي لنا بأصوات كونيّة لا حصر لها تعيش تحتها.
وكلّها تعبّر عن نسق ثقافي لاجتماع بشري ينتمي إليه الشّاعر. “فالثّقافة توصف بأنّها بنية نصّيّة كبرى، والمُنتج النّصّي هو واقعة لسلوكات: لغويّة، أو معرفيّة، أو أدبيّة، ليست منعزلة عن البنية الثّقافيّة التي نشأت فيه” (حجازي، 2010).
ويأتي هذا النّص (طغيان لمزاج الرّؤى) شاهدًا على ذلك. “وهذه البنيات اللّغويّة ذات القوالب الثّابتة المستقرّة، لها وظائف: جماليّة، ونفسيّة، وأخلاقيّة، وتأثيريّة، وتناصّيّة.. ومن ثمّ تثير حسب (ميكائيل ريفاتير) ردود فعل جماليّة وخلقيّة وتأثيريّة في نفس القارئ لحظة تعرّفه عليها، وهي أيضًا تدخل في كثير من الأحيان في نسق بلاغي، مثل: التمثيل، أو الاستعارة، أو المبالغة، أو المفارقة (قاسم،1997).
وبهذا فإنّ تداخل هذي الأصوات، وشعريّة التّناص التي تعالقت بروح النّص، جعلت القارئ/المتلقّي يعيش تلك المساحات المشرقة بالإثارة، وما نتج عنها من تعدّد الرّؤى وتضافر تشابكاتها، التي تستثيره فتدفع به إلى أعماق النّص، محاولًا بناء دلالاته ومعانيه العديدة.
ويتعاظم شعور النّاص بالحسرة والإحباط ممّا تعيشه الذّات من صراعات باطنة، أملتها رؤى بعض المتلقّين، التي يراها تمارس فعل المصادرة لآرائه، والمحمولات الوجدانيّة والفلسفيّة التي تسبغ الفضاء الدّلالي لمنتجه النّصّي؛ فتطفح الآلام بداخله وتتلقّفها الكلمات: “كلّ راءٍ مزاجُ رؤاه الطّاعنة في الأنا“.. وهنا نراه يحاور متلقّيه بذكاء، بعيدًا عن المباشرة والحجاجيّة السّلبيّة، ويعمد في الجانب الأسلوبي، تبنّي الشّرط الحواري (الباختيني) بالتّحدّث مع الشّخوص وليس عنهم (الموسوي، 2022) محاكاةً لعمق البوليفونيّة، فيشير صوت الذّات ردًّا على أصوات الشّخوص المحاوِرة المشاركة، إلى أنّ لها رؤاها الخاصّة، التي تصوّر عالمها الدّاخلي، ولن تكون صورةً ممسوخة عن رؤى الآخرين، مستهجنًا بذلك “طغيان الرّؤية المزاجيّة الأنا (ويّة)” التي جعلتها الذّات الشّاعرة عتبة النّص وتيمته ومسرح حدثيّته.
ويتنامى الحدث النّصّي بحضور الشّخوص في الخطاب الشّعري في هذا المقطع؛ فتبرز الأصوات الجليّة والخفيّة المتداخلة مع صوت (الأنا) الذي صاحب استخدام الأفعال المضارعة في زمنيْ الحاضر والمستقبل القريب (سأحيا، أحمي، سأوافيه، سأُنعى، لتبكي، ستوقن) فشكّلت متواليّات سرديّة ذات ارتباط بالشّخوص، التي كانت وراء نمو أحداث النّص واستمراريّة تفاعلات الأصوات، وديناميّة توالد الدّلالات التي يسعى الشّاعر إلى حقنها في خطابه.
يقول الشّاعر: “سأحيا رغمًا عنّي/ أحمي قبّوعة رأسي العصيّة/ من عمود الهجيرة بخلّ مستحيل/ سأوافيه بلهاثي/ إلى أن يقف النّبض..” فتخاطب الذّات الجموع بقوّة الشّاعر الذي يسكنها؛ لإيقاظ مشاعر الإصرار والتّحدّي والأمل، على الحياة في ظلّ دنيا الفعل الإبداعي التي ارتضتها، أملًا بمتلقٍّ وفيّ مرتقب ما يزال غائبًا؛ ليحتضن رؤاها، ويثريها بفعل حضوره الواعي حتّى النّهاية، وبالرّجوع إلى استعارة إحدى العبارات المسكوكة من الأثر الشّعبي (قبّوعة رأسي) نشعر بفعلها النفساني التأثيري، الذي يدفع بنا وسط جموع من الأصوات المؤنسة، فتتشابك معها الأفكار والآراء، ونخرج من النّص بسلسلة من المعاني الواسعة.
وتستمر حركة ضمائر: المتكلّم، والمخاطب، والغائب، فتتجلى البوليفونيّة عبرها، باستشراف الذّات الشّاعرة مشهدها ما بعد الموت، مبرزةً مشاعر دراميّة قاتمة، تظلّلها آلام الحسرة والخيبة، التي تعبّر عن فداحة المأساة؛ فتبعث برسالتها الحزينة إلى الغائب المرتقب، الصّاحب الذي تتوق إليه:”سأُنعى إليك يا صاحبي/ بقروح طاعنة في الخيبات/ عن كثب من الصّدمة/ مشيّعًا دون قراءات التّأبين/ لتبكي وأنت ترى الدّرب دونك دوني..“.
وعبر هذا المشهد، كأنّ الذّاكرة الشّاعرة، تستعيد أطيافًا من رحلة (امرئ القيس) وصاحبه (عمرو بن قميئة/ عمرو الضّائع) إلى قيصر (ملك الرّوم) ليستعديه على قتلة أبيه من بني أسد واستعادة مُلكهم؛ حيث يمرّ أحد الأطياف أمام مرأى الشّاعر، الذي يخاطب فيه الأمير العربي صاحبه: “بكى صاحبي لمّا رأى الدّربَ دونه/ وأيقن أنّا لاحقانِ بقيصرا فقلت له: لا تَبْكِ عَينُك إنّما/ نُحاولُ مُلكًا أو نَموتَ فنُعذَرا…“.
لقد “بكى صاحبه غربة الوطن والأهل والخوف من المجهول، وقد وجد حتفه يمشي بين يديه؛ بل إنّه يسير إليه بأقدامه، وأحسّ بهذا يوم رأى (الدّرب) أمامه، والدّرب يقال إنّه ممرّ مرصوف بالحجارة، يصل ما بين بلاد الشّام والرّوم، لا تؤثّر فيه عوامل الطّبيعة؛ ليكون العبور عليه ميسّرًا للمشاة والخيل صيفًا وشتاءً، فطفق الأمير يهدّئ من روع رفيق رحلته، ويمنّيه بالأماني المرتقبة، حينما يعود ملكًا سيّدًا على قومه”(جمعة، 2011).
وباستدعاء النّاص ذلك الحدث بشخوصه وتفاعلات أصواتهم من مرأى المخيّلة؛ ورؤية نفسه هناك بينهم، يحتضن صوته أصداء أصواتهم المتداخلة؛ يرسم خيبته المحزنة (في هذا النّص) بنهاية دراميّة مثيرة في مشهد جنائزي أخير، وقد ضاع في درب الوصول إلى مبتغاه (قيصرة الشّعر) الذي أمسى وهمًا بعيد المنال، تطابق فيه بوهم الأمير وصاحبه، في الوصول إلى قيصر الرّوم، فكان أن شُيّع دون دموع أو احتفاء.
ومن الواضح أنّ النّاص في هذا المقطع، يتوارى بوعي منه خلف المشهد التاريخي؛ فيوظّف أصواتًا مختزلة في الذّاكرة، منتخبة من حياة الصّحراء العربيّة وتفاعلات فرسانها وشخوصها؛ فيوسّع بذلك فضاءات البنية الحدثيّة للنّص، مستفيدًا من بوليفونيّة تلك الشّخوص، وما تزخر به من رؤى متعدّدة؛ لإثراء دلالات النّصّ، وخروج المتلقّي بفيض كثيف من المعاني.
ولا شكّ “أنّ حضور الشّخصيّات في الخطاب الشّعري، يكون بوصفها أيقونات تتضمّن مرجعيّات ثقافيّة أيديولوجيّة، يوظّفها الشّاعر من أجل إثراء جانبه الفنّي والدّلالي، فيستحضر شخصيّات تاريخيّة أو تراثيّة، وأحيانًا يستحضر شخصيّات واقعيّة؛ ليعبّر عن علاقته بهذه الشّخصيّات”(سعود وسعداوي، 2020، 68).
وفي اتّجاه آخر، هذه التّناصّيّة الحواريّة المقصودة التي تماهت بها الذّات، نقلت هذا المنتج الرّؤيوي من رتابة السّكون إلى أفق الانتظار والدّهشة؛ وذلك بكسر المتوقّع، والعبور بالجملة الشّعريّة إلى براحٍ رحب من اللامتوقّع.
وأخيرًا، يمكن القول إنّ هذا المُنتج بوحدته الكاملة، حواريّة تفاعليّة بين الرّموز المكتوبة بإشاريّتها، مع تجلّيات الفضاء البصري الذي تنتجه عبر نشاط المخيّلة؛ هذه الحواريّة موجّهة من لدن النّاص، وهو يمارس فعل الكتابة، فيتحاور فيه (أي النّص) مع بيئة إناسيّة (إنثروبولوجيّة) ببعديها الثّقافي والاجتماعي، بشخوصها وأنماط تفاعلاتهم البينيّة المختلفة، وبهذا يستحيل النّص المُنتج إلى وحدة بوليفونيّة نشطة مشحونة بطاقة صوتيّة عالية التّردّد، متساوقة مع معطيات الفعل الإنساني الجمعي وتفاعلات وجوده الحي، وتتوازى تلك الأصوات مع صوت المتلقّي، الذي يحاكي النّص بفعل القراءة والتّأويل، في رحلة بحثه عن دلالات ومعاني إشاريّة الرّموز المكتوبة، فيأنس بتلك الأصوات التي خلقها النّاص، ويتفاوض (صحبة حفريّاته السّطحيّة والعميقة) مع رؤاها المتعدّدة المتوافقة والمتباينة، التي يبديها في جسد النّص وأغواره، فيخرج بمنتجه الجديد، الذي يتّسم بنصّيّة عالية الثّراء بمستوييها المضموني واللّغوي الجمالي؛ فيتشكّل بذلك الخطاب الشّعري ذو الرّؤية الفلسفيّة الشّاملة، التي تعيد صياغة الواقع، ويؤثّث لها الشّاعر مستفيدًا من تعدّد الرّؤى سواءً أكانت متوافقة أم متنافرة، النّاتجة عن تعدّد الأنساق الثّقافيّة بوجه عام.
نصّ”طغيان لمزاج الرّؤى“
أحِبُّنِي هكذا
معتدًّا بأنايَ العميقة في التبسيط
كخيال صعلوك
لا ألوي على ترف التأويل
كنبيٍّ صودِرت آياته
من حلق الرؤى
“هكذا ستمضي غريبًا”
أقولها للشاعر في ظلي
ظلي المسكوب حسب توقيت عقارب الشمس في البيداء
لا بئر في جوفي لأحتفظ به
سرّي في علانيتي كرابعة النهار تحتها
بقلبٍ واضحٍ لا يُدانيه شحم
كل راءٍ مزاج رؤاه الطاغية في الأنا
سأحيا رغمًا عني
أحمي قبّوعة رأسي العصيِّة
من عمود الهجيرة بخِلٍّ مستحيل
سأوافيه بلهاثي
إلى أن يقف النبض
فأُنعى إليك يا صاحبي
بقروحٍ طاعنةٍ في الخيبات
عن كَثَبٍ من الصدمة
مُشيَّعًا دون قراءات التأبين
لتبكي وأنت ترى الدرب دونك دوني
وستوقن بلحاقكَ بوهم
قيصرة الشعر
فتذكّرني
بدمعةٍ يتيمةٍ
بلا رثاء
ودّان، 10 كانون الثاني 2022م
السقيفة_الليبية، 4 أبريل 2022
قائمة بالمراجع:
– جاسم، عبّاس وحسن، سهام (2018). ظاهرة تعدّد الأصوات في النّص الشّعري العراقي. مستلّ بتاريخ: مارس، 2022.27 من: academia edu.com.http://www
– جمعة، حسين (2011). رحلة امرئ القيس إلى القسطنطينيّة بين الواقع والخيال. مُستلّ بتاريخ: مارس، 2022.29 من: http:// www.startimes.com
– حجازي، سمير (2010). المنهج العلمي في تناول النّص. القاهرة: طيبة للنّشر والتّوزيع.
– حمداوي، جميل (2015). أنواع المقاربات البوليفونيّة. مُستلّ بتاريخ: فبراير، 13. 2022 من: http://www.alukah.com
– الحيّاني، محمود (2021). ميكانزمات الإبداع وبوليفونيّة الملكة الشّعريّة، قراءة في نصوص ملتقى قصيدة النثر العربيّة. جريدة عالم الثّقافة.
– سعود، نور الهدى وسعداوي، زينب (2020). شعريّة السّرد في ديوان”لا شيء يحدث لا أحد يجيء”لعلي جعفر الحلّاق. رسالة ماجستير غير منشورة، الجزائر: جامعة الشّهيد حمه لخضر الوادي.
– عبد الرّفوع، خليل (2020). أنا يا صديقي: نهايات شاعر وانكسارات مفكّر. مُستلّ بتاريخ: فبراير، 2022.15 من :http://www.addastor.com
– عبد الله، كريم (2020). البوليفونيّة وتعدّد الأصوات. الحوار المتمدّن، المحور: الأدب والفن، العدد، 6502.
– قاسم، سيزا (1977). روايات عربيّة: قراءات مقارنة. الدّار البيضاء: شركة الرّابطة.