عيون تصوب سهام القلب على لوحة رسمتها ريح القبلي، شفاه تقبض على جمر الكلام، أصابع تنحت اسمها على أرغفة الخبز وعلى كرات البازين، أظافر تحك جلد الذكرى، أصوات ضاعت في أفعوانية الصمت وطفل نابت في رحم أمنية.
ليبيا في عيون شعرائها تتسلل إلى قصائدهم، متنكرة بثياب طفلة عابثة أو صبية جامحة أو امرأة لعوب أو جدة تحسم كل أمر عظيم بنظرة من عينيها الحكيمتين اللتين تصابان بالعمى عندما يتعلق الأمر بإخراج ثديها من متكئه المريح بين طيات ردائها الملون ليلتقطه فم طفلها الجائع. جدتنا الأولى لم تنظر يومًا إلى ثدييها على أنهما عورة، وفعل الإرضاع لم يكن عندها يومًا خطيئة.
في مارس الذي يؤثثه الشعر وتؤنثه الأمهات والطفلات ننفض شيئًا من غبار الأيام عن بعض ما قيل في ليبيا، وعنها، أو لنقل ما كتب في ليبيا وعنها، يقول جاك دريدا: «ما لا يمكن قوله لا ينبغي السكوت عنه ويكفي أن يكتب»، والليبيون كثيرًا ما تحايلوا على واقعهم بالكتابة المراوغة عندما عز الكلام.
في قصيدته «بلد الطيوب» كان الشاعر الكبير علي صدقي عبدالقادر مباشرًا في مشاعره، وكتب رسالة واضحة الملامح لبلاده فجعلها موطئًا لأقدام الشمس، ونثر الحب والأشعار والياسمين في دروبها، صنع مناديلا ونوافذ من نهارها الضاج بالحياة ورصّع ليلها بالأغنيات، هي طفلة الدنيا حينًا وأما من رحمها يطلع النهار حينًا آخر:
بلدي وما بلدي سوى حقق الطيوب
ومواقع الأقدام للشمس اللعوب
أيام كانت طفلة الدنيا الطروب
فالحب والأشعار في بلدي دروب
والياسمين يكاد من وله يذوب ولا يتوب
الناس في بلدي يحيكون النهار
حبًا مناديلا وشباكًا لدار
والفل يروي كل ألعاب الصغار
إلى آخر القصيدة العابقة برائحة الفل والياسمين، الأنيقة مثل خزانة فساتين طفلة مدللة، أنسنة للشمس التي نبتت لها أقدام وللسماء التي تتدلى من أذنها البيوت الشاهقة مثل أقراط وتجسيد للنهار الذي صار محسوسا حد حياكته مناديلًا ونوافذ.
ليبيا والشعر
عندما نشد الخيط الواصل بين ليبيا والشعر تتجلى في الأفق عبارة لها ثقل قصيدة «وقف عليها الحب»، عبارة تحمل من الروحانية والحزم ما يكفي ليسند جبلا من كلام فالحب سماء شاسعة والوقف استبداد لذيذ، غير أن الراحل الكبير خليفة التليسي لم يكتف بها بل استهل قصيدته العمودية ببيان كل الحالات الكثيرة والمختلفة التي لن تؤثر على جعله الحب حكرًا عليها:
وقف عليها الحب شدت قيدنا أم أطلقت للكون فينا مشاعرا
وقف عليها الحب ساقط نخلها رطبًا جنيًا أم حشيفًا ضامرا
وقف عليها الحب أمطر غيمها أم شح أم نسيت حبيبا ذاكرا
وقف عليها الحب كرمى عينها تحلو منازلة الخطوب حواسرا
وقف عليها الحب تنظم عقدنا ركبا توحد خطوة وخواطرا
وفي نقلة رشيقة من الكل الجامع إلى أجزائه التي يتكون منها نسيجه الساحر كان الجميع في الصورة:
فنظمت منها مشاعري وخواطري ورفعتها طوقا تأرج عاطرا
للهادمين قيودها والرافعين بنودها والناشرين بشائرا
للزارعين حقولها ومروجها والناسجين لها رداء فاخرا
لم يغب عن هذه الصورة شيوخها وفتيانها ونساؤها، لتكون الخاتمة وصفا لجمالها الأخاذ ووعدًا أبديًّا بمنح الوفاء.
غزل بالمطلق وحب لا مشروط جسدته قصيدة التليسي إذا، اهتمام بالمرئي والمحسوس من تضاريس وبشر وحجر، أنسنة لبلاد وجعلها أنثى بشعر فاحم وجبين منير، أما القافية والوزن فقد تكفلا بإنجاز مهمة أخرى تمثلت في رسم الكلمات بشكل يوحي بمثالية الصورة التي أراد الشاعر أن يدخلها في الإطار الذي صنعه بدوره.
إلى الشاعر الراحل جيلاني طريبشان ورؤية من زاوية أخرى شكلًا ومضمونًا هذه المرة، فقد اختفت القافية وأخذت معها المعاني المباشرة والمفردات الجلية لتحل محلها مشاعر متضاربة سكبت سطلًا من الألوان على لوحة كانت واضحة الخطوط بسيطة الملامح لتعيد رسمها من جديد.
في ديوانه «مكابدات» قال طريبشان:
«ما الذي فعلته بك الريح؟
أصافحك الآن يا سيدي عائدًا للوطن
للطفولة والمرح البدوي الجميل
تاركًا لك يا صاحبي الشرق والغرب»
للوهلة الأولى نجد الصورة النمطية للوطن «الطفولة والمرح» لكن النص كاملا يشتتنا ويعصف بمخيلتنا مثل ريح.
نصوص طريبشان عن الوطن لا ترسو بنا على مرفأ نعرفه، بل تحملنا على صفحة الماء وتتركنا عرضة لمد الكلمات وجزرها:
«يا وطني جرحي مفتوح
اضحك لي
أو قل لي كلمة حب»
إلى «المادّ قامته في وجه الريح» الراحل محمد الشلطامي الذي عمّد تجربته الشعرية برفض واعتقال وتمرد تسللوا جميعًا إلى نصوصه وعاثوا فيها جمالًا واختلافًا، فكان الوطن نجمة ورجفة وحبيبًا أسود العينين ووردة في قصيدته «أزهار الليل»:
«وتمنيت كثيرًا
أن أراك
نجمة يسطع في قنديلك الأخضر حب
ومواويل مضيئة
وتمنيت كثيرًا عندما دفأت في قلبي
يديك
لو تصير الكلمة
دمعة في غمرة الشوق إليك»
المرئي واللامرئي
نجمة ومواويل مضيئة وقنديل أخضر وكلمة قد نكون خمناها عندما تمنى الشاعر أن تكون دمعة في غمرة شوق فتخرج من العين آخذة معها عبئًا وهمًا كبيرَين.
وفي زهد جلي بالأرض وكل ما عليها حلق الشاعر بعيدًا ساندًا صوره بمفردات راوحت بين المرئي واللامرئي، ثم ركضٌ وهربٌ وسجنٌ ومحكمة وكادحون يُقتلون باسم الكادحين وحزن ينبت عوسجًا في وجنة الشمس:
«وطني…
يا رجفة الموال في ليل القرى
يا حبيبي الأسود العينين لو أن الثري
أحرفا كنت القصيدة
وأنا غنيتك الأحلام أبكيك فأبكي
وردة تنمو على الأهداب في الليل الحزين
ثم تذوي بين أيدي التافهين
وطني يا وطني
يا صليبي قبل أن أخلق حرفًا في قصيدة
بيننا ظلت قوافيك العنيدة
والشعارات البعيدة
وأنا أركض خلف الفجر من سجن لسجن
لأرى عينيك في كل شفق
مرة أهرب من وجهي وألفًا أحترق
خلفي البحر وقدامي جحيم والطرق
صادرتها المحكمة
أممت في أول الليل وبيعت في الصباح
ما الذي أملكه يا قمري
كادح أقتل باسم الكادحين
حينما أبكيك إن غنيت أبكي
لوعة الحزن الذي ينبتنا
عوسجًا في وجنة الشمس وذلا وخطايا
نحن ما مددنا قاماتنا
أبدا في وجه الريح»
مفتاح العماري
إلى الشاعر مفتاح العماري وطزاجة الشعر في نصه العظيم، في ديوانه «السلطانة» كتب عنوانًا يكشف شيئًا مما أراد العماري أن يقوله عن ليبيا:
«من يتذوق اللوتس من غير الليبيين
ينسى وطنه الأصلي..
تقول الأوذيسا»
أما الليبي فيعتبر ليبيا اسمًا يؤوي قارة بأسرها ويراها شمسًا رغم قرني الدم والمديح، مذاق النحاس قد يبعدنا عن الشمس كذلك يفعل الريح والنار وهما قد يرتكبان معًا فعل التأجيج، أما فاكهة الأساطير فتلك التفاتة أخرى تشبه تلويحة الأوديسا في هذا النص:
«ليبيا اسم قبيلة صغيرة
يأوي قارة بأسرها
هي قرص شمس
بين قرنين
من دم ومديح.
أيها النقاش
رد لها سفر الاسم
ومذاق النحاس
إنها ربة ريح وأم نار
هذه المطروحة
كطبق من فاكهة الأساطير..
إشارة ترتدي قوس قزح
سلة عصافير
على ظهر غيمة سخية
حلقة مفاتيح
تلمع تحت الماء»
وما جدوى المفاتيح إذا لم تكن رهن أصابعنا؟
أما نحن، طباعنا، صفاتنا، وبعض عاداتنا قد تظهر على صفحة بعض السطور:
«عندنا قمر
من خزف الروح
وثياب منسوجة
من وبر الفصول
عندنا نبال
ورماح لا تجبن.
ليبيا:
وجهة نظر أخيرة للتوق..
ومقر آمن لعش النسر.»
في مهب الحزن حينًا والحب أحيانًا يقف ما يكتبه الشاعر سالم العوكلي عن ليبيا، ليعطينا شعورًا بأنه سعيد بهذه العلاقة القوية بشكل جعله يتجاهل شيئًا من قبح -دون أن ينسى ذكره- ويتشبث بالتفاصيل الصغيرة حيث تكمن سعادة بطعم الحنين، قال العوكلي في قصيدة بعنوان «ليبيا»:
«أنا المازوخي سليلك
الوالغ في لهيب فلفلك الحار
تملئينني خوفا.. وأحبك،
تطفئين الضوء قبل اكتمال قصيدتي وأحبك،
ترشين الملح على جرحي وأحبك،
تملئين كأسي بنقيع الجوارب وأحبك،
تقايضين الخردة بسلفيوم باتوس كله.. وأحبك
تصبغين بالحبر الأخضر إبهامي وأحبك.
هنا تمامًا في هذا الركن تتصارع المشاعر كلها في حضرة الحب، ولمحة من أخضر لا أعرف كيف راوغت القضبان وتجاوزتها، أيضًا عادات ليبية وطباع وطقوس مختلفة ترقد في ثنايا النص، حب عظيم مع وخزة من ألم:
«أنتِ
لمعان الورق الأصفر على حجر السفوح،
رائحة الشاي الثقيل في شهوة الجمر
نوم الأطفال خارج الأسرة في أي ركن
هذيان اللون على أرضية المرسم
نخالة الأقلام في جيوب التلاميذ البازغين كل صبح،
حكايا جدتي،
وضحك التين في وجه الخريف.
لستِ أنت إلا أنا..
المقاتل فيك أظافر القبلي،
البار بقسوتك..
كل الوالجين غرفة نومك آبائي،
وكل من حطوا على شاطئك سلالتي.
ليبيا
لست أنا إلا أنت
تسلقين الحجر في مطبخي
وأحبك
يحرمون فيك عيد الحب
وأحبك.
يدور أيضًا الشاعر عمر الكدي في فلك الحب، لكن هناك ما يقابله هذه المرة «بلاد تحبها وتزدريك»، فتتحول ليبيا عند الكدي إلى طعنة مؤجلة وإلى قدر أخير، وإلى لوزة عارية في مهب رياح خريف:
«ليبيا لوزة في الخريف
أزهارها عوانس الربيع
دائمًا يباغتها المطر عارية
تهزها الريح عارية
واللوزة العارية لا تصلح
للأعشاش والطيور.
أشتمها مثلما أشتم
حظي الأحمق
أسبها مثلما أسب عاهتي المستديمة
وأترفق بها مثلما أترفق
بعجوز تعبر الطريق».
تشريح رحيم
في النص أيضًا تشريح رحيم للمجتمع الليبي بنسائه ورجاله وفتيانه وفتياته والأصدقاء أيضًا:
«أحب أصدقائي الرائعين
الذين يهدهدون وحدتي
نتعاطى السخرية والشعر
ونتساند حتى لا نقع»
هذا الحب البسيط «بساطة قاحلة لا تنبت الغيرة» لم يكن كافيًا ليمنع سؤالًا مهمًّا:
«دليني كيف أحبك أكثر؟
وكيف أروض هذا الدلال الفج؟
وكيف لا أدوس ارتباكي في الشارع المزدحم؟
وأنتِ تتأبطين ذراعي
مثل امرأة عارية أو شديدة التحجب.»
إجابه هنا وحديث مع النفس بطعم الانكسار:
«لا شيء في البال أهبه لك
سوى عمري المبدد
الذي لم أحبه كما ينبغي
ولم أفصله كما أشتهي».
هذه هي ليبيا في عيون الشعر، لوتس بطعم الأساطير ولوز بطعم حكايا الجدات وقدر أخير ترصعه الأمنيات وتحرسه القلوب، ليبيا البدوية الشرسة، الفرس الجامحة، النخلة السامقة، الزيتونة الوارفة، حقق الطيوب، تواشيح الغناء، رائحة الشاي الثقيل في شهوة الجمر، ليبيا وجوهنا التائهة في المرايا وأسماؤنا الطالعة من فيافيها مثل عشبها البري.
بوابة الوسط | 21 مارس 2021