سرد

رواية: اليوم العالمي للكباب – 9 (الأخيرة)

رواية في الأدب الليبي الساخر

من أعمال التشكيلية مروة التومي

-9-

..  خرج (مصباح) من مكتب رئيس مؤسسة (حي على الثقافة) متفائلا ينتابه شعور بالسعادة والغبطة، خصوصا وأنه قد قدم شكوى ورقية مكتوبة وأرفقها بالمستندات الضامنة لحقوقه ضد التعدي على ملكيته الفكرية لصحيفة الأيام.

….خرج مصباح لينتقي سيارة أجرة تقله وحقائبه الي أحد الفنادق الصغيرة الواقعة بوسط العاصمة ، ولقد حدد الوجهة مسبقا، فكان اختياره لفندق أطلس هو الاختيار الأمثل، كون مكوثه بهذا الفندق سيمكنه من التمتع بمشاهدة أجواء العاصمة طرابلس، فترة أطول بحكم ما في جيبه من دينارات، فهذا الفندق الصغير يطل من زاوية ضيقة علي نادي المدينة الرياضي العريق، ويطل كذلك من زاوية أخري علي مدينة الملاهي الواقعة في الركن الخلفي لمعرض طرابلس الدولي ، وقريب جدا من مسرح الكشاف وإدارة المطابع، وسيتمكن من التنقل في كب ارجاء طرابلس بوسائل نقل شعبية رخيصة التكاليف.

جلس صامتا بجانبه سائق التاكسي الأنيق والذي كان منشغلا بقيادة مركبته بعيدا عن الازدحامات المرورية والتي لا مفر منها بدء من مقر مؤسسة (حي ع الثقافة) الواقع بحي دمشق وحتى شارع عمر المختار وسط البلد.

…حقيقة أن هناك مسارات كانت مغلقة ، بحكم هيبة وأهمية فندق ريكسوس حيث لم يستطع السائق المرور من أمامه، جراء هذا الإقفال، المتعمد من طرف حاملي السلاح لاحدي المجموعات الشبابية الاربعة المسلحة الواقعة ضمن نفوذهم المقسم بتراضي وفق خطة هؤلاء المسلحين الشباب المحكمة علي مدينة طرابلس وضواحيها، هذا الإغلاق اجبر سائق سيارة الاجرة علي تغيير مساره عديد المرات حتي تمكن من الوصول الي شارع المقريف والذي كان يسمي حقبة القذافي بشارع أول سبتمبر، تخليدا لتاريخ ثورة العقيد معمر ابومنيار القذافي، والتي وافقت ذاك التاريخ.

نحن الان أمام الساحة الخضراء كما اسموها اربعة عقود ونيف السبتمبريون والذين كانوا يتندرون احيانا بتسميتها بمربوعة الشراقة، الان أصبح اسمها ساحة الشهداء، وتغير الاسم بفعل الفبرايريون.

….. بانشغال مصباح بهذه الذكريات والتفاصيل ومصحوبة بزفرة عميقة خرجت من بين ثنايا قفصه الصدري تذكر مصباح أنه لطالما تجمعت الحشود بهذه الساحة وهتفت بهتافات حماسية تمجد وتناصر العقيد القذافي:

*زيد تحدا // زيد تحدا

نحن ارجالك وقت الشدة.

*طز طز في أمريكا //

الشعب الليبي عرف طريقه.

*طز مرة رابعة //

في أمريكا واللي تابعة.

* قررنا الحياة //

ع الخبزة والماء.

*زيد تحدا زيد//

يالصقر الوحيد.

….. لقد كانت تلك المشاهد التاريخية تمر في لب تفكير (مصباح) وهو بجانب سائق التاكسي والذي تعمد هو الاخر أن يجاري مصباح، وأن يطلق زفرة طويلة هو الاخر، ليعبر عن تذمره من هذا الازدحام الشديد ثم قال مخاطبا (مصباح):

أربعة واربعين عاما ونحن في مثل هذا الوضع!! لا تغيير يذكر في مخطط المدينة لتلافي هذا الازدحام اليومي!

…. نفس الشوارع ونفس هذا الازدحام الخانق كل يوم كل يوم.

وأضاف:

لقد أهمل القذافي بنظامه ولجانه التنفيذية ايجاد حلا لهذه الأزمة، والحل اراه بسيط وهو بناء عمارات تستخدم ك بركيتجوات (1).

مصباح:

وهل القذافي كان غافلا، ولم يكن واعيا لما هي عليه حال العاصمة طرابلس وحال سكانها؟

وأضاف:

لالا

لا أعتقد، لقد كان القذافي ملما بكل كبيرة وصغيرة في هذه الدولة، ولذلك أهمل مسألة البناء والتشييد للأبراج التي تطلبون بنائها إسوة بما هو مشيد في دولة الامارات العربية.

هل تعلم أنه كان يعلم حتى بطبيعة سكان ليبيا العاشقة للتمظهر والتباهي، فهم يخرجون للشوارع والميادين بسياراتهم الجميلة والفارهة لا لشيء، ألا لكونهم يرغبون من اخرين أن يروهم يقودون تلك السيارات!

فهم يقودون بدون وجهة!، بدون هدف! بدون غاية!، فهل هو مغفل حتى يقوم ببناء هذه البركتجوات التي ذكرتها وترغبها كحلا للازدحامات؟

قطعا ستكون هذه البركيتجوات مهجورة الا من حمام النيسي أبوخط وابو خطين وابو ثلاثة خطوط (2).

والتي تطعمونها بساحة السرايا وتلتقطون الصور التذكارية معها، هذه الساحة التي تغيرون اسمها كما يحلو لكم بعد كل ثورة!

وأردف:

وسأزيدك من الشعر بيتا.

…. هل تعلم أن القذافي كان يعلم أن الموظفين بمكاتب المؤسسات الحكومية الواقعة في طوابق أرضية، يلعبون لعبة (الكارطة) (3) على أجهزة الحواسيب!؟

فاذا شيد مثل تلك الأبراج، فهؤلاء الموظفين، حتما سيقومون بتربية الطيور والعصافير في الطوابق العليا من تلك الابراج التي يتمني بنائها الليبيين.

 …في هذه اللحظات وصل (مصباح) الي الفندق المقصود ، فهبط من التاكسي مودعا ثم سارع بحجز غرفة، ليتمكن من خلالها المكوث مدة لا تقل عن اسبوعين الي حين الانتهاء من اقامة وتنفيذ مناسبة اليوم العالمي للكتاب.

.. ولج الغرفة، أطمأن على نظافة الفراش، توجه الي دورة المياه، ليطمئن على دف المياه عبر صنابير الحمام.

واخيرا سأنعم ببعض النوم.

قالها (مصباح) مخاطبا صورته التي تراءت له من خلال مرايا خزانة الثياب.

مصباح:

الحمدالله، فكل شيء سيمضي على ما يرام، فغدا سأتوجه على قدمي الي دار الفرجاني للطباعة والنشر، تلك الدار التاريخية، والتي ساهمت في نشر عديد الكتب القيمة لأميز الكتاب والمؤلفين، سأقوم بشراء عدد (200) نسخة من رواية جميلة لكاتب معتبر وسأوزعها مجانا على الحضور، وسأحتفي بمؤلفها يوم الثالث والعشرين من نيسان القادم تزامنا مع احتفالية اليوم العالمي للكتاب التي أقرتها جمعية الأمم المتحدة عبر إحدى منظماتها، الا وهي منظمة اليونسكو والتي أسست لهذه المناسبة بإقرارها لها عام 1995.

…. ستكون الرواية ممهورة بتوقيع المؤلف نفسه يوم الاحتفال، أتدرى لماذا سأقوم بفعل ذلك؟

الصورة:

كلا حقيقة أنا لا أعلم بما تفكر! يا مصباح، فأنا جد مرهق من جراء عناء السفر برا طيلة يوم كامل عبر طريق طويل متهالك يمتد من مدينة بنغازي الي هنا طرابلس.

مصباح:

سأشتري واوزع الرواية حتى تكون وسيلة لتحفيز دور النشر على طباعة مؤلفات الأدباء والمبدعين المتميزين.

وبالتالي سأخرج بالثقافة من المنظومة الاشتراكية الراكدة الي المنظومة الاستثمارية التي أحرص على تطبيقها منذ أن لمست جدوتها في تجربتي الصحفية حين مارست مهنة الصحافة من خلال صحيفة الايام.

 الصورة:

وهل سيتركك اخطبوط الادارة العميقة تفعل ذلك؟

…ها هم تلاعبوا بك وبصحيفتك، فأصدروا جسما موازيا لها وقضوا على حلمك وهو لازال في المهد!

هؤلاء يا مصباح لا يرغبون في إصدار صحيفة لتوعية الناس والنهوض بوعي المواطن!، هؤلاء لا هم لهم سوي تضخيم تكلفة كل عدد من إصدارات الصحيفة من خلال قرارات اجتمعوا عليها، واقروها في قوانين وبنود في لائحة تسمي استمارة انتاج.

ولا هم لهم الي البقاء مع بعضهم البعض فقط ليتنعموا بخيرات البلاد ويظهرون كواجهة محترمة أمام الاجانب والمتابعين للثقافة الليبية فيعتقدونهم أهل الشأن الثقافي في ليبيا ولا أحد سواهم مختصا بالثقافة والاعلام.

مصباح:

لا عليك.. لا عليك

أنا سأقوم بواجبي، من واقع تربيتي وبحسب ما يمليه على ضميري وسأترك الباقي علي الله فهو حصني المنيع وعليه توكلت دائما وسأضل أتوكل.

….  ها هي الايام تمر تباعا في الاستعداد والتجهيز للاحتفالية حتى جاء

  اليوم المحدد عالميا لتنفيذ المشروع، لكن بعكس ما تم الإعلان عنه في وسائل الإعلام المختلفة حيث تم الإعلان عن إقامة مناسبة (اليوم العالمي للكتاب) ومحاضرة بالخصوص ـ فيتفاجأ أنه تحول إلى تنفيذ مناسبة أخري تحمل عنوان (اليوم العالمي للكباب)، وليشاهد كل اهتمامات الرئيس ومستشاريه الاربعة ومدير إدارة الترفيه والرقص، وميولات السكرتيرة الابرع. فقد رفعوا شعارات أشهي مطاعم الكباب والاسماك والمشاوي، بدلا من الشعارات المعززة لأهمية الكتاب والقراءة، وها هي رائحة الشواء تنتشر لتعبق المكان، لقد أقحموا كذلك فقرات موسيقية كفن المرسكاوي والزكرة والرقص الفلكلوري

.. هنا ترنح (مصباح) وكاد أن يسقط مغمي عليه دون أن يتفطن أحد من تلك الاجسام المتواجدة حول موائد الطعام والمتزاحمة بصحونهم مترقبين نضج المشويات لالتهامها!

…لكنه تماسك مرة أخري وأتجه الي منصة التقديم أو ما يعرف بمنصة الاحتفال، فلم يمهله أفراد الحراسة، ليجد (مصباح) نفسه متورطا في مشاجرة أخري، ليس ندا لهم فيها،

حيث كان يحمل على أكتاف حرس المؤسسة الثقافية، ويرمى به على الارض في كل مرة.

الي أن تم جرجرته الي خارج المؤسسة ليرموا به نهائيا وسط حقائبه وكتبه للتتبعثر اوراقه، عند البوابة.

وسط أصوات سحب أقسام بنادق الكلاشن كوف من طرف أفراد حراسة المؤسسة، الموجهة اليه، دار سريعا شريطا مختصرا لحياة مصباح، وكيف كان يؤدي اعمال البيت من جلب المقتضيات اليومية مع أفراد أسرته، وكيف سيرتبك عليهم الامر في حالة رحيله عنهم، فيجد (مصباح) نفسه في صورة بائسة، حزينا، متفحصا بنظارته الطبية ما كتب في لافتة المؤسسة متمتما بالعامية الليبية الدراجة محرفا مسمي المؤسسة (مؤسسة حي على الثقافة)

الي مسمي أخر:

(حيه علي أم الثقافة حيه).

وبدأ يهذي منشدا بعض الكلمات الشعرية:

(1)

انا جيت بروحي//

وفي دمي يجري//

 عشقك يا كتاب

القيتك يا روحي//

  فجأة متضبط //

 فردة(4)  هالباب.

(2)

كان أملي//

 تطوير ثقافة

كان حلمي //

 ننهض بالصحافة

لكن طردتني هالشلة //

من غير اسباب.

لملم ما يستطيع حمله من اشياء وابتعد مترنحا بشوارع بوسليم ويجول في باله كل ذكرياته التعليمية من مدارس وفصول واصدقاء وتفوق منشدا اغنية (حسين وزكية):

هات الشنطة تعال وريني//

ايش خذيت اليوم يا حسين

عارفك شاطر وتهنيني ديمة امذاكر درسك زين.

انتهت


هامش:

1-بركيتجوات: مستودعات تستخدم كموقف للسيارات

4- حمام النيسي: نوع من الحمام البري على اجنحته خطوط تختلف بعددها

3- الكارطة: لعبة الورق (الكوتشينة).

4- فردة: جاءت في هذا السياق بمعني أحد اجزاء الباب.

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (23)

أبو إسحاق الغدامسي

رواية ديجالون – الحلقة 10

المختار الجدال

بدأتُ أشكُ في وصول رسائلي إليكَ،، فأين تذهب رسائلي وكيف لي إعلامك؟؟

المشرف العام

اترك تعليق