طيوب عربية

تسألني الحانات

من أعمال التشكيلي العراقي سعد علي

وسط ظلام كثيف
أرتاد ضجيج الحانات
أقتات ….
صخب الأطفال يملأ السّاحات
صمت الكنائس يهزّ المرتفعات
تستولي الرّاهبات
على طيور تراقب تلك الشّرفات
تستجدي النّساء خيولا تطوي تلك البحيرات
تختزل صهيل القطار
يشقّ تلك المسافات
أكحّل جفوني بعطر في تلك الغابات
أقبّل ساعتك يأخذها نعاس في الحانات
أشاهد
تلك شبابيك ملطّخة بالذّكريات
أجلس على الأرائك مفعمة بالأمنيات
أقرأ ما تركت من روايات
أقرع طبول الكنائس
ترتدي التّمائم
تستقبل الحمائم
ترقص في تلك الشّرفات
أبحث عن أجمل الرّاهبات في المرتفعات
يرتفع الجبل كالنّهد فوق الحانات
ينتهي خرير المياه في النّهر في تلك المنحدرات
تسلقت كلّ البدايات
ما أشدّ وقع تلك النّهايات
أسير
نحو سماء أخرى
نحو أرض أخرى
ما أجمل سقوط الأمطار فوق الحانات
تغسل تلك الأدباش منشورة كالذكريات
فجرا
تسلّل عاشقان تحت رذاذ الأمطار
خرجا في الأزقّة بين الأحياء
ما أجمل النّعاس تحت خيول الأحلام
تعدو بين تلك الأسوار
يأخذني دبيب النّمل في الطّرقات
إلى عروس تجلس وسط الحانات
تقرأ الكفّ
تصنع الخبز
تضفر تمائم للعشّاق
يمرّ قطار العرائس مساء
يترك على نهديك أو فوق شفتيك
صفيرا كالرّياح
أنينا كالصراخ
نبيذا كالشراب
يترك العابرون على خديك عويلا كالنّواح
أسمع تلك الأغنيات
تمرّ تلك الأمسيات شاحبة
أخذها نعاس الكنائس في الصباح
هجم عليها هؤلاء الأطفال
يسمعون القصص والحكايات
تلتقي العين بالعين
وسط هدير الأمواج
يذوب الكتف في الكتف
وسط هديل الحمام
تمرّ أسراب النّوارس مثل النّساء
يخلعن خواتمهنّ في الماء
يتركن بصماتهنّ في السّماء
هناك
تجلس أسراب من العوانس في المنعطفات
هنا
تتخاصم تلك الفتيات اللّواتي خرجن دون عنوان
يسقط نظراتهنّ مثل حبّات الرمّان
تنحني الغابات
تغرق الذّكريات في مياه الأنهار
يركض الأطفال وراء الأزهار
تسرق الأطيار خبز الحانات
يتسلّق الشّعراء قصائد فوق سطوح الحانات
ينحني النّخل من شدّة الشّوق والانتظار
تبحث إحداهنّ عن بقايا السّجائر في قمم الجبال
تقرأ بشغف جرائد الصباح
تترشّف قهوة في المساء
تصعد حبيبتي بين النّهدين قمّة فوق جبلين
تبحث عن عشّين فوق شجرتين نائيّتين
ارتدت النّساء ثيابا من ريش النعام
أسمع في الهضاب
ثرثرة الفتيات في الطّرقات
يتركن أجمل الأغنيات
تأخذني
وشوشة الذباب في الحانات كالأمنيات
يتجرّد النّخل من ملابسه في تلك الغابات
أعود فجرا من نزهة بريّة خاوي الوفاض
صفير الرّياح يدغدغ جدران البنايات
تنحني العمارات
اصفارت من الانتظار
أعطتني حبيبتي كلّ حروف النّداء
أسمع أصواتا في الجبال
حفيف الأشجار قرب الأنهار
أعطتني إحداهنّ كلّ أساورها فوق الهضاب
رأيتها تمشي بين الخدين حافية الأقدام
تزرع القصائد للشّعراء
تأخذني سجائر الحانات إلى أجمل الفتيات فوق الجبال
تأخذني جرائد الصباح إلى معبد العشّاق
تأخذني المجلات إلى أنين القطارات
أشاهد أسراب الطّيور في المرتفعات
أخذتني الحقائب إلى تلك المحطّات
بحثت عن مواعيد العشّاق
رأيتهم على عجل
يسرقون التّذاكر من الممرّات
تجلس الذكرى في محطّة القطارات
شباك التذاكر مغلق منذ ساعات
محلات الملابس فارغة من العشّاق
يأخذ بائع الجرائد كلّ الأخبار
يلعب مع براءة الأطفال
دبيب النّمل يصنع أغنيات في الصّباح
نبيذ النخل يسقي الواحات
تترك حبيبتي
ضجيجا حلوا في الغابات
يأخذني
صخب الأطفال يبيعون الحلوى في محطة القطارات
يستولي رعد الطّائرة على براءة الأطفال
يضحكون حزنا وسط محطّة الطائرات
يبيعون الفواكه الجافّة للعشّاق
أسمع
صهيل جواد في المرتفعات
يشقّ مياه النّهر في ساعات
يشرب طائر اللّيل من مياه النّهر في الجبال
ينقر الشّحرور الخبز اليابس في الصّحراء
أفاق النّهد النّائم في الظلماء
تعرّت ذات النهدين وسط النّهرين
نقرت شفتيها تحلّقان مثل فراخ الحمام
بعد مرور القطار بساعات
يأخذ ذباب الحانات نشوتي في النّهار
أرتدي دفء القطارات
أختلي بالنّهدين في ظلام الحانات
أرهقني انتظار القطار عدّة ساعات
أرتدي بعد كأسين معطفك الرماديّ
أقتفي أثر نظرتين كالوردتين تائهتين
أسير تحت رذاذ النّشوة في الشّرفات
تسألني الحانات
أين ضجيج الأطفال
تسألني الأحلام شاحبة
أين حبيبتك؟
تسألني الشّوارع
أين مدينتك؟
أين شرفتك؟
هناك شمالا
تأخذني الكؤوس
ساجدة راكعة
ترى أين نشوتك؟
خلعت النّوافذ أدباشها
تجرّدت الكنائس من ملامحها
تحرّرت النّساء من شهوتها
تنمّرت السّماء
رفضت أن ترتدي فضّتها
تسلقت فستانها
عرفت في الرّصيف بصماتها
رسمت على الماء دميتها
تخلّت عن حقائبها
ترمّلت في حجرتها
رأيتها تسقي الأزهار في نزهتها
تنثر الأشعار في رحلتها
لم تتبرّج بزينتها
لم تخرج بحقائبها
لم أدخل إلى كنائسها
يتسلّل المجاز إلى حديقتها
كم في شفتيها من هضاب ومرتفعات؟
كم في عينيها من بحار وأنهار؟
كم في مشيتها متثاقلة على المنحدرات
من أغصان حان قطافها قبل فوات الأوان؟
أو من أحلام قبل خروج الأحلام؟
كم انثنى الغصن في المرتفعات؟
كم أردت تسلّق الأشجار؟
كم سقطت وراء الثّمار؟
هل أنت زهرة من أزهار القرنفل في تلك الجبال؟
كم قطف خديك من عاشق كئيب أواخر النّهار؟
هل أنت غصن من أغصان الخريف؟
تلك نخلة عاهرة تشقّ الطريق
تشرب النبيذ
ترقص الصّحراء بعد فراق
تغنّي السّماء بعد نزول الأمطار
أقترب من مضرب السّيفين
جاءت ذات الحاجبين
تقتل الجنّ
سوّل لها بارتكاب الإثم على الخدين
تطلب الحبّ
تنثر الحبّ
أغوتني ملأى الخدين قرب الغصنين
تمشي ببن النّهرين
تقرأ الشعر
تقطف الأزهار
أغواني التّمر الأصفر في النّخلتين
أغواني دبيب الرّمل على السّاقين
جاءت ملأى المكاحل
ترى أين المجامر؟
إحداهنّ جلست قرب المآذن
تطارد الطّيور قبل الغروب أوّل الغروب
تغازل الغيوم قبل ارتفاع العيون
خلعت الأشجار أغصان حزنها
تجرّدت الأقلام من أدباشها
غسلت العيون كحلها
تحرّرت الأحجار من آلهتها
اقترب العشّاق من ثمرتها
سقطت على الأرض بين الخدين
اصفارت فاكهتها
احمارت آلهتها
ارتفعت إلى السّماء بنهديها
اقتربت من النّهر
تثاءبت ذات النّهرين
تعرّت ذات الحاجبين
تخلّت ذات الجبلين على حمامتين برّيتين
انثنى العنقود
سقط التّمر على الخدّين الصحراويين
أصابتني بجرح أو جرحين
فاض النّهد
ارتوى الشّجر
ارتوى الحجر
رقصت ذات الشّرفتين
تلك فراشات استولت على أرض واقعة بين الخدين
في الصّباح
كانت شاردة
تخاصمت مع نحلّتين
استولت على نظرتين
كانت تقرأ فنجان قهوتي
كانت تقول شعرا عن مجنون ليلى
خلع الفنجان بقايا خجلي
تحركت إحداهنّ مع غيوم في المساء
جاءت تودّعني
سرقت فنجاني
تسلقت جدراني
بحثت عن شفتين رقيقتين كالصّحراء فضّيتين
جلست على صخرتين عنيدتين كالسّماء بعيدتين
غير بعيد
دعتني أن أرفع ستائر حجرتها
دعتني أن أقتل سجائر تئنّ على طاولتها
دعتني أن أكتب شعرا عن قصّتها
قال الرّاوي:
حتّى شحرة العرائس
تعرفني
حتّى شجرة العصافير
تودّعني
مازالت تشرب من فنحاني
مازالت تحتفظ بوجهي
تحت نعاس الشّبابيك
وفي أيّام المطر
مازالت تحبّ أن تقطف من الشّجرة ثمرتين
مازالت تحبّ أن أفتح نافذتين ناعستين
هناك جنوبا
تسألني الغانية
أين شرفتك؟
أين قصّتك؟
أين غابتك؟
أين المصلّى؟
هناك….
أرى طاولتي شاحبة مثل أمطار الخريف
هناك….
أرى كأسي فارغة مثل جبل ضرير
أعود صباحا
أشرب نعاسي الثّقيل
أكحل طرف عيني برذاذ الأمطار في الخريف
أرى حرفي ينكسر مثل همزة وصل تصمد بين حرفين ساكنين
أرى غابتي مثل شحّاذ أعمى يشقّ الطّريق أوّل الطّريق
أرى غرفتي مثل بحر ساكن في الظّلام الدّامس
أرى مدينتي مثل شاعر كئيب أواخر الخريف
أرى حبيبتي مثل زهرة بريّة أوائل الرّبيع
أرى النّجوم تنتحر في السّماء أواخر الرّصيف
أرى الطيور تشرب النّبيذ أوائل الرّبيع
هناك بعد صلاة العيدين
رأيتك تخرج بين خريفين
ترافق أرملة بين زهرتين أو دمعتين
خلتها كانت تصلّي بين قبرين
تطلب الحبّ بين نهرين أو تحت نخلتين
فجأة
ألقت نظرة حان قطافها قبل منتهى الجبلين
فاض النّهر
طار النّهد
تعلّق الجبل
رأيت النّخلة تصلّي بعد ارتفاع النّهدين
تنقّبت بين فجرين
تحجّبت بعد صلاتين
انحنت بعد الراكعين
ارتفعت مع العراجين
نامت مع العاشقين
انتظرت مع المسافرين
ترقّبت كل المودّعين
مزّقت تذكرة السّفر إلى بلاد العفاريت
قبل قليل
تعلّق قلبي بذات النّهدين
يسقط التّمر ببن وقتين
قبل مغيب الشّمس
خرجت ذات الجبلين
تذرف دمعتين على الخدّين
لحظة بلحظة أو دمعة بدمعة
أضاعت طريق عودتها بين مدينتين أو حانتين
مضت في حال سبيليها
تنثر الورود
احمارت السّماء
سقطت دموع النّخل عند الغروب
ترهّب العشّاق في مجاري العيون
هناك شرقا
على مسافة طويلة بين نخلتين ناسكتين
تسلّل التّمر إلى فراشي
احتلّ تفاصيل حجرتي
جاءت النّحلة فجرا
تمتصّ نشوتي
قبل صعود نشوتي
قبل الفجر
اخذت غطائي
أخذت
بقايا نعاسي
بقايا كأسي
انطوت الرّموش على الخدّين
حطّ طائر بريّ فوق الصّخرتين
تذبل العيون آخر غروب كما تذبل الشّموع
لا أجد وشام حبيبتي
أضعت الطّريق
لا أجد مدينتي
تمرّ السّاعات سريعة
هناك جمع ذلك الرّاعي
كلّ أعشاب المراعي الصيفيّة
هنا وهناك
أقطف ما ترك العشّاق من تمر اصفار كالنّبيذ في الخريف
أجلس تحت ظلال النّخيل
أقترب من هؤلاء العبيد
يبحثون عن نشوة في الخريف
مرّ في الصّباح قطار العرائس
يحمل روحي قبل صعود روحي
ألم تستيقظ النّساء العوانس؟
رأيتهنّ
يقطعن أطراف أثوابهنّ
هنّ يجلسن في المحطّات
يقرأن الجرائد بانتباه
إحداهنّ أحرقت سيجارة في المساء
هنّ يحملن نشوتهنّ في الطّرقات
هنّ يقطعن نهودهنّ في الحانات
يرفعن الأعلام في البحر
يقصدن الكنائس في الصّباح
هنّ يبحثن عن نشوتهنّ
صباحا
مساء
تحمل تلك العربات حزني
يطوي القطار فراشي
يترك دخانا أبيض كالسّحاب
امضي السّاعات وحدي
أحرق المسافات وحدي
حتّى السيجارة ترفض تفاصيل حزني
حتّى جرائد الصّباح لا تحمل اسمي
يشقّ القطار تلك الغابات الكثيفة
يخترق تلك الحانات المغلقة
هجمت الطّيور على فراشي
أخذت نشوتي
دمّرت حانتي
هي شاحبة دون كأس ونبيذ وجليس
حطّ الغراب بجناحيه على نوافذها
قلت: صباح الخير
يا طائر الحانات
يا طائر المسافات
اقتربت من عشّ فوق سطوح الحانات
اقتربت من جرح فوق سطوح المنازل
يختزل الغراب ما بقي من الصلوات
يقترب…يبتعد مثل الذّكريات
غير بعيد
تحتجب النّساء في شرفتك
إحداهنّ مثل راهبات الكنيسة
تعبد القمر والنّجوم
تشرب النبيذ
تسرد القصص
عن هؤلاء العاشقين
تقترب العرائس من جدران غرفتك
تحمل السّتائر بصمات وجهك
تحتويني تجاعيد وجهك الأسمر
في حديقتك ظلام كثيف
يستهويني ضجيج في الحانات
يدغدغني التّمر في النّخيل
في حانتك خريف ثقيل
في نخلتك سحر خفيف
أتسلّل خلسة أسوار المدينة العتيقة
أقترب من أضواء باهتة
لا أعرف منتهى الأزقة الضيّقة
فجأة
انتبهت إلى سكران يتسلق النّوافذ فجرا
تسقط النّوافذ كالأعلام في البحر
شدّني غناء السكران يتمايل في السّاحات
كانت
فارغة
شاحبة
نائمة
خلت أنّه كان
يسرق نشوتي أو منتهى نشوتي
لم أستسلم له
قاومت نداءه القريب
تركت ياء النّداء ثقبا في غرفتي
تسلّلت إلى فراشي الصّباحيّ
أعطتني إحداهنّ نشوة قبل صعود النشوة
تركت في غرفتي شميما حلوا
أرتخي في فراشي
أستقبل رائحة الزّعتر والشّيح والإكليل
أراك تتسلّل من ثقب جانبيّ
تترك على فراشي أكثر من جرح بنفسجيّ
تترك في شرفتي أكثر من عسل بعليّ
تختنق حجرتي ببقايا سجائرك
تلك كانت كلّ ذكرياتي معك
كم مرّ على الرّصيف من عاشق؟
كم مرّ الرّبيع من هناك؟
كم رأيتك هنا…وهناك؟
تسقي القبور
تلاطف الورود
أبحث عن طيورك في السّماء
ابحث عن خبزك فوق القبور في المساء
تركتك
فوق القبور
تنام مع الورود
تعترضني رائحة البخور
أقرأ في صمت شعرا
يتحدّث عن جمال النّساء
حين يتمايلن في مشيتهن بين القبور
حين يتبرّجن
حين ينثرن الورود
قطعت إحداهنّ صلاتي
قالت: اقرأ
قلت: ما أنا بقارئ
قالت: أقرأ باسم ربّك فاطر السّماوات والأرض
بكت إحداهنّ تحت نخلة يتساقط منها تمر كثيف
أردت تسلّق النّخلة
قالت: حرام لمسها
أغواني التّمر الأصفر يسقط من عينيها
خشيت عصيان ربّي
رفعت عنها بصري
جلست فوق جبل ضرير
حاصرتني بين نخلتين قرب جبلين
أغوتني تطير فوق شجرة العصافير
قالت: الحق أن استطعت
ستجدني بعد سقوط مغربين
قلت: أخشى الممرّات الضيّقة بين القبور
قد قطعت عهدا على نفسي
وقد تبت إلى نفسي
لا أريد معصية ربّي
قذفتني بتمرتين أو نظرتين
فهمت أنها عاشقة من لحظتين
تحبّ الجلوس بين جبلين
تطلب الحبّ بين نخلتين..

مقالات ذات علاقة

المسيحيّة والإسلام في ظلّ العولمة

المشرف العام

أدب الطفل وتجربة الكتابة التاريخية

حسين عبروس (الجزائر)

الفنانة والنحاتة سميرة دباح: عملي يمتد إلى مختلف الفنون الجميلة

المشرف العام

اترك تعليق