محمد دربي
1
الزقاق خالٍ ومظلمٌ، لا يرتوي من أهازيج الأرواح، خالٍ من المشاة في صفوٍ جميل، ليلهُ يشاكس النبأ اليقين، مغمورٌ بغمائمٍ تنثال مزخرفة على الطين.. منذ قليل كانت النجومم باهتات ترتعش تشكو من نصال السحائب خانعةً لكنّها مستبشرة، الليل يؤنس الرؤى وأغنية تناثرت في الريح بطيفها تناجي جفون حسان الحي وهي نشوانةٌ.. في هدأة ظلامٍ تبيحُ أشواقاً حبيساتٍ للصبايا الحالمات بوحَ قيثاراتٍ عطشى لأحلى لمليحات العرائس.. الليل يرنو المؤنس يسري، ينشر أكمامه في يُسرٍ، يسير في الأزقة هوناً ويتخلل معارجه القدسية، أما الغمائم فتغسل بلطفها شبابيكهن.. ليلٌ كأنه قادمٌ من ضواحي المدينة ومن الظنون، رذاذ المطر يستعد للنزال والنزول، يؤوب متعباً ترهقه شهقة الريح.. فليس غير باب السماء المفتوح سيتسلل منه في غفلةٍ قمرٌ بجماله الأزلي، قمرٌ يغيب خلف الغمائم.. الزقاق يرنو لنقطة ضوء من كتب الليل وابتهالات النساء وبقايا دفء البخور.. الزقاق تكسوه غلالة الدجى المُترنم، يخفي الزقاق ما أظهره الدجى المخاتل أما عيونه فمهمومة تشتهي الغيم، تصبو للضوء الغائب وحكايا الأفق البعيد وشغف الشرفات.
2
عند منتصف الليل إلا قليله خرج حردوب من الحانة والغمائم بكامل زينتها تنثر حلو الكلام القادم من رحاب السحائب البريئة.. يحوص ثملاً مدندّناٍ، في الزقاق مترنحاً.. كعادته، كان عائداً إلى حوشه، عاد مُتعباً بعد أنْ قضى وقتاً طويلاً بحانة ” ديميتري” العامرة بالمسرات.. قضى وقته مترعاً بكؤؤوس مزامير لجة الليل وسكون المساء، ومن بين أغاني المساء سيغني، عاد من حانة اللهو ومناسك الراح كما يسميها، يشعل الاسم في رأسه معركة في الفؤاد فيّدندن: ” يا فؤادي لا تسل أين الهوى “.
3
خرج من الحانة سكراناً مترنحاً يمنة ويسرى ، يقف لحظة ويبتسم ، يهتزّ حول نفسه ، ما الفرق بينه وبين صدى المدينة ، يعيش في هذه المدينة وزاده بعض آمال قليلة معلقة في الفضاء ، تطلع إلى الزقاق المظلم ، دخل الزقاق كأنما لم يبصر الزقاق من قبلٍ ، غول الظلام قد ألقى عباءته الداجية على أسوار المدينة وتسلل إلى الحجرات الدافئة ، تمايلت الريح انكساراً لغربة السكران في المدينة ، تمايلت شوقاً لشوق النوافذ ، يترنحُ تحت خيط الظلام ، ملابسة متهدلة ، قديمة رثة، شعره أشعث يتهدل من بين جابني شنته العتيقة ، شنةٌ من الضجر نالت ضربات الدهر منها ، حافي القدمين، الليل يراقبه في سكون المدينة وفي عينيه بريق محفور في مرآة غيم السنين ، يراقبه الليل بفوضاه البهيج وهو يغفو غير مكترثاً بسكرانٍ يترنح تحت أسرار الغمائم ، ظلام جهم فوق الطين يلامسه في كلّ ثانية.
4
أدرك أنّه ينصت لهذيان صوته الداخلي ولبطش الظلام المُعنى: ” هل رأى الحب سكارى”.. عبقٌ فاتنٌ من الشرفات يتصاعد في الزقاق وفي رأسه.
5
الزقاق يعرفه.. كان قد عرفه الزقاق المظلم، وقف، وقف حردوب حافي القدمين مترنحاً في مكانه، تقدم بخطوات غير ثابتة، متمايلة، مترنحة، زائغ البصر، يسأل نفسه في حيرة وقنوط: حسناً يا زقاق ويا ليل ويا جنة الرؤية ويا ايها الطين الطري، يا أيها النائمون في الليل البليل، أين الحوش أعني أين حوشنا؟ مشى خطوتين يحك رأسه مراتٍ صامتٍ، ساد في الزقاق صمت ثقيل، غول الصمت الذبول ألقى على النوافذ بظله الوضيء، ليس ثمة من كلمة سكران ٍ تبدد صمت الليل ودندنات مليحات العرائس الرهيفة عند السّحر.. انتضر برهة مترنحا في مكانه، بدت أنفاسه ثقيلة، كل نفسٍ يخرج مع عمقٍ بعيد.. قفزت المخاوف إلى عينيه.. فجأة خرج عليه كلب من اللا مكان، يلهث من العطش، كادت أن تطير سكرته من هول المفاجأة، تطلع إلى الكلب بعينين حمراوين، وقف في مكانه مترنحاً، لم يكن خائفاً، كان مستغرباً من أسرار الأرواح، الليل مازال يراقبه، الكلب يلهث يلهث في سعادة وعطشٍ، تنفس حردوب ملء رئتيه، تصبب العرق من وجه حردوب وهمس: عفريتٌ.
6
إقترب من الكلب دون أن يقول كلمة، حكّ رأسه مراراً، خمد لا يتحرك لا إلى الأمام ولا إلى الخلف.. وقع تحت سطوة صدمة المفاجأة، وقوع القمر تحت سطوة غيم السحائب، ثمّ قال في نفسه: ليس ايوا ليس.. حردوب ليس بحاجةٍ إلى أن يرى عفريتاً أو أن يفيق من انس نجمته الغراء، حردوب لا يخشى عفاريت دهاليز الروح، استحوذ عليه شعور جامح بالغيظ وجنونات الشّك.. حملق في الكلب، استولى قليلٌ من الخوف على وجهه ثم اهتز في مكانه.. سارع حردوب إلى الكلام مع الكلب، وبحدس السكران قال للكلب بكلمات سكرانة متقطعة: هل أنت كلبٌ أم عفريتٌ في صورة كلبٍ؟ أنت كلب، كلب، أليس كذلك، مش هكي؟ هه هكي وإلا مش هكي يا خويا، أنتَ كلب وإلا عفريت، يا مرح الليل إنّني في مأزق؟
7
أجاب الكلب صامتاً بلا مبالاة وهو يبتسم ابتسامة ساخرة.. لم يبال حردوب بابتسامة الكلب.. أطلق الكلب ضحكة خافتة ثم لهث ثم قال في سرّه: أنسيٌ ذائحٌ لا يحب العربدة، هذا لا يحمل إلى الإطمئنان أريد مخرجاً وماء ثم ضاف بهدوء الكلاب: رأي مستمد من خبرتي، أنا متعطشٍ للماء تعطش القاتل للدم.. لهث الكلب مرة أخرى وهو يتململ في مكانه يستمع لأنين الريح الخافت.. التفتَ حردوب إلى الكلب وأمره أنْ يبقى في مكانه، وكان أن فعل الكلب، اغتبط حردوب أحدٌ ما يطيع أوامره.. وأنطلق يدندن.. والسكرة في رأسه.
8
فَرِح حردوب وارتفعت معنوياته وانشرح صدره، أطلق ضحكة مجلجلة لا نفع منها، رمقه الكلب بفضول وحسرة.. هذه المرة رمقه بنظراتٍ مشفقة.. توقف حردوب عن الضحك، شرع يخاطب رفيق الزقاق بحماسة بائسة: القصة يا أيها الحيوان الأليف، صمتَ وهلة، ثمّ أضاف: أليف، هل أنت حيوان اليف، لا تستعجل الرحيل، يا لعنة السماء في هذا المساء؛ قد تعلمتُ أنّ العفريت لا يحب أن يظهر على صورة كلب، فأنت لا يمكن أن تكون من العفاريت، لا أعرف لماذا ولا أين ولا حتى متى، فقد قيل إنّ العفريت يفرح بأنْ يظهر على صورة إنسان من أبناء حواء وآدم ولكن هل أنت عفريت تظهر على صورة كلب؟ الكلب يلهث في مكانه، لم يجب الكلب، فضّل أنْ يبقى ساكتاً، لئلا يستثير السكران أكثر.
9
.. أصيب حمدون بالرهبة والعجب، الكلام بينه وبين الكلب، تذكر فعلاً إنّ العفريت أحيانا يظهر على صورة إنسان، بينما ظلّ الكلب يلهث في مكانه طلباً لبعض الماء ليروي ظمأه العميق.. عطس حردوب من جانبٍ إلى جانبٍ، أحنى الكلب رأسه بإنكسار وتواضعاً لهامة حردوب الإنسية.. تطلع إليه وظل صامتاً ثم أيقظ الطين وهمس: من الطين جاء هذا المخلوق، عندها ضغط على أعصابه كي لاينبح. عرف الكلب أنّ بينه وبين حردوب فرقاً في وجهات النظر عندئذً لم ينبح وظلّ يستمع إلى أنين الأمواج البعيدة.
10
تعجب حردوب من فصاحته السكرانة وهو يخاطب الكلب، قال في نفسه: حاذر من العفاريت ولا تحاذر من الكلاب، فالكلب أوفى من الصديق، الصديق شطحة خيال والكلب أوفى في ساعات الضيق.. هزّ رأسه ببطء، حكّ رأسه بعصبية، وبكثير من التركيز حاول أن يضفي جواً من المرح والمزاح مع الكلب، شرع يحدثه عن العفاريت وعن عالمها الساحر المليء بالنيران والثعابين، لهث الكلب بلهجة متسائلة ولم يقل شيئاً وشرع يحدق في ضلفات النوافذ وغيوم صامتة تأتي من زحام السحائب.. تمتم حردوب أمام الكلب وقد بدا الفتور في صوته سائلاً: ايها الكلب المسافر هل رأيت يوماً عفريتاً في صورة إنسان؟ تأمل الكلب حردو بفضول وحدق في عينيه الحمرواين ومضى ساكناً في مكانه، لهث وقال في سرّه: لو شاء الله ما ظهر لي هذا الأُنسي، أعني هذا السكران المتسكع تحت نور المصابيح.
11
إقترب حردوب من الكلب وزفر بعمق ثم قال بعد صمتٍ: مسني الجنون، أيها الليل أيتها الشبابيك، لو مرة في العمر أريد أن أفهم وحسب، كيف أتحدث مع مخلوق لا يفهمني في آواخر الليل؟ أبصر رأس الكلب يعلو ويهبط ثم يعلو كما لو أنّه يهتزّ على صوت مجرودة مُفعمة بالضفائر الأندلسية يطرب لها السكارى في الطرقات الخاوية.. أحسّ بأنّ قليل من الريح تهب وتزمزم محملة بغبار رائحة بخور الصندل الندي هائمةً بلا صوتٍ.. طنين أفكاره يعلو، يحلم بكؤوس المدامة، يهتز بشنته العنقرية، قرّر أن يقترب أكثر من الكلب.. مرّت لحظات سريعة من الوقت.. بدا له وجه الكلب مخيفاً.. أعدّ السكران عدته.. همد حردوب بغتة فبدا وكأن الكلب صار عملاقاً هائلاً من عمالقة خمسين ألف ليلة وليلة، أجراسٌ من جفاف غزت مخيلته.
12
فنّص الكلب فيه، فنص في الكلب، بخور الصندل يبتعد كالسمك، وقفا متجمدان لا يتحركان، وقف حردوب كالشبح، قال للكلب: أنا أُفنص فيك وأنت تفنّص فيّ، فكيف إذن يمكنك أن تفهمني أم كيف يمكنني أنا أفهمك أيها المخلوق العجيب، أأنت غريب الديار كغربتي؟ لقد طيّرتَ كؤوس الراح من رأسي وضاع زمني مني! لا سامحك الله ولا غفر لك.. الكلب يفنص لا يبالي بكلام السكران أحسّ كأنه طفل بريء.. جنّ الظلام، والليل يتلو من قصائده حكاية للنجوم عن السكارى، ويبقى يهيب به أنْ يسترق السمع للقصيد.
13
دنى من الكلب فبدأ الكلب ينبح بصوتٍ عالٍ مخيفٍ ، التذمر ظاهر على وجه الكلب رغم الظلام ، حانت من الكلب إلتفاتة فرأى السكران يختلس نظرة غريبة إلى لسانه ، تباعد السكران مترنحا إلى الخلف وكاد أن يقع أرضاً ، جلس الكلب ومدى ذراعيه الأمامية فاتحاً فمه يمدّ لسانه لاهثاً وشرع يحدث نفسه بلغة أجداده وبلهجة غريبة : أنظر إلى هذا المخلوق العجيب ؛ من فصيلة الأنس وملامحها ، لا يبدو عليه أنّه من فصيلة الجن أو العفاريت ، يبدو أنّه طيب القلب مُتسامح ، أرجو ذلك ، سكرانٌ ولم يسقط ؛ يحتفظ بتوازنه ، يبدو أن أتعبتهُ أهوال السنين ، أمرٌ غريب يقال أنّ لسنين الإنسان أنيابٌ كأنياب الذئاب ، جائز ، وضعتك الأقدار في طريقي ، هيا قل أيّ شيء! .. إرتجف الكلب هلعاً ورغبة عطشى كلما أحس بقطر المطر ينقر رأسه.. وبعد لحظات من الحيرة والتعجب وقليل من ذهول عظيم مرتجفٍ هدأ الليل وبدأ يجمع نفسه في صمت معارجه الغيبية استعدادا للصباح.
14
هدأ السكران وقال بصوت خافت: أمكث في مكانك حيث أنت ٍسأجلب لك بعض الماء، كُن كالمقاتل بطلاً ولا تنسى اِسمُكَ، رقرقت عينا الكلب فرحاً، أحسّ بأنّه مقاتل يريد قضية.. غاب السكران برهة وعاد بكوز من الماء، لم يجد الكلب كما تركه جالساً، حكّ رأسه بعنفٍ أكثر من مرةٍ، ترنح وقال: أين ذهب هذا السبع المريب أخشى فُراقك؟ يبدو أنّ الكلب لم يفهمني. نحن قومٌ لم نتعلم لغة الحيوان وتاريخ الأمجاد السالفة، تجاهل التاريخ هو الجهل ذاته بالتاريخ، مملكة أشباحٍ وهميةٍ، نحن نقوم ندور على الفاضي ظناً أننا نفقه كل شيء.. حكّ رأسه بكل أصابعه مترنحاً مبتسما؛ ضاحكاً، وقال: لابد لي أن أتعلم من أين تعلمت الفصاحة تواً؟
15
صوّب السكران نظرة يائسة نحو الزقاق وفي لحظة من الإستغراب أحسّ بوطأة السكر.. وقف صامتاً يهبط صدره ويعلو، استعاد سيطرته على نفسه، وخطى خطوة ثم خطى خطوة ونظر مشدوهاً إلى الفراغ من حوله بعد فترة صمتٍ، حكّ رأسه، رفض أن ينطق بكلمة أخرآ.
حكّ راسه مرة أخرى بعصبية: ولكن كم عُمر هذا الكلب؟ هكذا سأل نفسه.
16
المطر يزداد هطولا وصمتٌ حفّ الزقاق إلا من رشرشة المطر، حينها سمع طلق رصاصٍ من طرق النار، أفاق من سكرته وقفل إلى المكان الذي صدر منه الصوت، وجد الكلب طريحاً فوق الطين المحزون، تمتم: ٍسأسله عن عمره! إقترب من الكلب وتيقن أن الكلب قد مات رمياً بالرصاص، ساعة وداعٍ في هدأة الرصاص وصمت الزمن، زمنٌ ضاع مني، حين ينزل الغيم الأزقة تنام والحانة تنام وحده السكران في الليل لا يعرف النوم وكلب لا يعرف أيّ فصيلة من المخلوقات خلدته قتيلاٌ فيطوي الكتاب، توقف المطر عن النزول إلا من قطر خفيف وبينما كان حردوب عائداً متحيراً إلى بيته قال بصوت عالٍ: حقاً ما اسم هذا المطر الغريب؟ وكم كان عمر الكلب حين قًتل ومن قتله وسط الخرائب؟ وفي لحظة من عودة هذيانه هتف به هاتف أن يغني وهو يهفو إلى خيال صبايا الشرفات: “. يا طير يا مروح على حوشك، ليه بتنوح وانت مروح “.
17
أغلب الظن أنّ حردوب وصل البيت، لم يخادع نفسه، ظل يترنح، شرع يرتجف، همس بغضبٍ: لست المقتول ولا القاتل، ولكن إنْ كتمتُ فستقبل عليَّ أمواج الخوف والغدر.. ظهر له عفريت الكلب على صورة عفريت وناداه باسمه: يا حردوب أنت تحيا في شرود وفي أحلامك الجميلة ستعرف أنّ ظلام الزقاق يبيع وفاء الإنسان للريح، لكن لتفرح فالحياة تسري.