سلسلة روّاد الإصلاح في ليبيا – 4
أسامة علي بن هامل
الصّوفي والمناضل الوطنيّ المثقف الإصلاحي الشيخ الأستاذ علي البكو، أحد رجال الاستقلال الليبي، العابد الذّاكر على قدم أسلافه أُولي العلم والولاية والصلاح.
هو سيدي الشيخ علي عبد السلام بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحفيظ بن إمحمد الأصفر بن الشيخ مفتاح “سواق الحجل” الفيتوري الإدريسي الحسني، مالكي المذهب أشعري العقيدة عروسي الطريقة.
وُلِد بمدينة زليتن، وبها أخذ علومه على يد أساتذتها وكبار علماءها منهم الشيخ محمد القط الورفلي، ولم يكتب عنه إلا شيخنا العلامة د. أحمد القطعاني في موسوعته ( أنظر الموسوعة ج 3 ص 276 ) وفي ثَبْته الكبير أوبة المهاجر وتوبة الهاجر ( أنظر الأوبة ج 1 ص 243 )، وحلاّه بــ”ولي الله الشهير ذي المفاخر والمآثر البركة ولي الله الشيخ سيدي علي البكو”، وذكر أنّه سلك الطريقة العروسية على يد أستاذه الشيخ سليمان البانية الذي “قربه ورباه بلفظه ولحظه وسقاه ونماه حتى صار من رجال عصره”، وبقى مختليا للعبادة والتأمل لمدة بلغت 16 عاما، وكان “من عادته ألا يجيب طارق داره كائنا من كان ، كثير التلاوة لكتاب الله الكريم ، وان دخل في عبادة من تلاوة أو ذكر يغيب عمن حوله”.
وفي تفاصيل حياته الأخرى يقول شيخنا القطعاني أنّه “رجل ربعة متماسك البنيان عاش حياته عزبا ولم يتزوج قط”، وأنّه ” رجل ضرب به المثل في بره لأمه عمار لبيوت الله وكان جل تردده على مسجد سيدي رحمه في زليتن، كثير الكرامات ضربت شهرته الآفاق فقلما تجد أحدا ممن أدركه من أهل المنطقة الغربية من ليبيا إلا ويروي عنه كرامة أو أكثر”.
ويضيف شيخنا القطعاني أن الشيخ البكو “ذو ثقافة عالية شغوف باقتناء الكتب حتى تكونت عنده مكتبة عامرة، يهوى مطالعة كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي ويحفظ منه الكثير ويحب قراءة كتاب الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ للشيخ أحمد بن المبارك ويقول: إن الذي لا يقرأ الإبريز الدنيا عنده كلها دريز أي لا قيمة لها حسب اللسان المحلي”.
ويلفت الشيخ القطعاني عن جانب آخر في حياة الشيخ البكو فيقول: “وطني له مساهمة في الحركة السياسية في عصره وكان على علاقة وطيدة بالوطني المناضل بشير السعداوي يتفق معه في كثير من الآراء ويأتيه من زليتن خصيصا للمشاركة في النشاطات السياسية ويلقي الكلمات والملاحظات حول ما يطرح من أمور وعندما شكل بشير السعداوي المؤتمر الإسلامي كان الشيخ علي البكو عضوا فيه “.
وتوفي الشيخ البكو وهو في العقد التاسع من عمره في 28 رجب 1373 هــ / 1/ 4 / 1954م، ودفن رحمه الله ورضي عنه في روضه المبارك مجاورا لروضة جده سيدي مفتاح سواق الحجل بمنطقة السبعة في زليتن غرب ليبيا، ويقام له مزار سنوي، سيوافق هذا العام يوم الجمعة المقبلة 1 أكتوبر 2021م.
وحظي سيدي علي بعناية خاصة من أخيه الأكبر الحاج عبد القادر الذي وجدتُ في وثيقة مؤرخة في 1313 هــ (1895م) أنّه كان يتولى الانفاق على “أهل الطائفة العروسية وحلقة الذكر وفقرائها في زاوية سيدي مفتاح”.
أما عن الذّاكرة المحليّة فهي تحتفظ باحترام وتقدير خاص لسيدي علي البكو، وتروي له عشرات الكرامات، لكن دوره الوطني ونضاله السياسي والجانب الثقافي في حياته كاد أن يختفي، ولذا حرصتُ على التركيز عليهما.
وتستدعينا هذه المكانة الخاصة للشيخ علي البكو والمعلومات التي أوردها الشيخ القطعاني عنه لمزيد البحث في عوامل شكّلت شخصيته، فاهتمامه بمطالعة كتاب المستطرف، وهو كتاب في نوادر النحاة والأمثال والغرائب والأشعار، لابدّ وأنّه تم في وسط أدبي أو بسبب تأثره بشخصية أدبية تمكنت من بناءه لحدّ شغفه بكتاب كالمستطرف يعرف أهل التخصّص الأدبي جيدا أنه يحتاج ذائقة أدبية عالية لفهم ما فيه، وقد يعيننا على فهم هذه الخلفية ما ذكره الشيخ القطعاني من أن الشيخ سليمان البانية حُفظت له “خمس قصائد صوفية غزيرة المادة المعرفية كلها فناء ومحو”، وقبل هذا لابدّ لمن يشغف بمثل هذه الكتب من درايته بآلات فهم الأدب والشعر كالنحو والصرف والبلاغة والعروض وفنون اللغة، وأرجح أنّه درَسها على يد أستاذه الشيخ محمد القُط الورفلي.
وممّا يرويه الشيخ القطعاني عمّن لازم الشيخ البكو أنه كثيرا ما يتمثّل بهذه الأبيات، وهي للقاضي المرتضى الشهرزوي الموصلي :
يا ليل ما جئتكم زائرا *** إلا وجدت الأرض تطوى ليه
ولا ثنيت العزم عن بابكم *** إلا تعثرت بأذياليه
وعلى ما في تمثله بالبيتين من توجيه صوفي رائق لمعاني مثل هذه الأشعار السائرة، إلا أنّنا نلاحظ أمرا آخر يشير الى شدّة انتماءه الصوفي وهو اختياره لرواية خاصة بأهل التصوف لهذه الأبيات؛ إذ ترويها كتب الأدب بقافيتها المعروفة:
يا ليل ما جئتكم زائرا *** إلا وجدت الأرض تطوى لي
ولا ثنيت العزم عن بابكم *** إلا تعثرت بأذيالي
لكن الشيخ البكو اختار رواية صوفية خاصة للأبيات انفرد بها الامام عفيف الدين اليافعي في كتابه روض الرياحين، وهذا الاختيار نفهم منه أن كتاب روض الرياحين هم من الكتب التي احتوتها مكتبه الخاصة.
كما أن رأيه في كتاب الإبريز الذي رواه الشيخ القطعاني: “إن الذي لا يقرأ الإبريز الدنيا عنده كلها دريز” يعكس بشكل واضح أن جُلاسه من المثقفين والقُرّاء، وإلا ما فائدة أن يتحدّث عن كتاب الإبريز أو غيره من الكتب لجُلاسه إن كانوا من الأُمّيين!، كما أن كلامه عن الإبريز في غاية الدقة، فمن درس كتب التصوف يعرف أن كتاب الإبريز هو خلاصتها ويمكن أن يستغني به القارئ عن غيره من كتب التصوف، كما أنّنا عرفنا من خلال هذه الرواية أن كتاب الإبريز من الكتب التي حوتها مكتبه الخاصة التي تحوي كتبا أخرى عن التصوف قرأها بعمق حتى تمكن من الوصول الى هذه الخُلاصة.
أما عن الجانب السياسي فكُلّ ما تحفظه الذّاكرة المحليّة زيارة المناضل السياسي بشير السعداوي للشيخ البكو في خلوته، لكن الشيخ القطعاني يؤكد أن الصّلة بينهما تتجاوز لقاء واحدا، فالعلاقة بينهما وطيدة واستمرت حتى أنّها كانا يتفقان “في كثير من الآراء”، ويفيض في الإشادة بدوره قائلا : “وطني له مساهمة في الحركة السياسية في عصره وكان على علاقة وطيدة بالوطني المناضل بشير السعداوي يتفق معه في كثير من الآراء ويأتيه من زليتن خصيصا للمشاركة في النشاطات السياسية ويلقي الكلمات والملاحظات حول ما يطرح من أمور وعندما شكل بشير السعداوي المؤتمر كان الشيخ علي البكو عضوا فيه “، والشيخ القطعاني يقصد حزب المؤتمر الذي شكّله السعداوي عام 1948م.
وحدّثني الشيخ القطعاني أنّه رأى قُسيمة اشتراك خاصة بحزب المؤتمر عليها اسم الشيخ علي البكو، وهي عبارة عن وصل مقابل اشتراك مالي في الحزب، كما أنّني وثّقت شهادة أحد أبرز رجال حزب المؤتمر، وهو الأستاذ السائح فلفل (توفي عام 2015م) ومضمون شهادته أن السعداوي كان لا يقطع بأمر سياسي دون مشاركة صديقه الشيخ البكو فيه، بل حدّثني أنه كان في صحبة السعداوي في الكثير من زياراته للشيخ البكو التي تُعقد خلالها جلسات مغلقة لمداولة قضايا تحرير سياسة الوطن ومسألة الاستقلال وجهود الحزب فيها، ويعرف أهل زليتن أن الشيخ محمد غريبي والشيخ محمد الدوفاني، ممثلي حزب المؤتمر، هما من زوّار الشيخ البكو.
ووعدني صديقنا الصحافي الكبير سمير السعداوي، حفيد بشير السعداوي، بالبحث عن أي وثيقة تبرز تفاصيل دور الشيخ البكو في حزب المؤتمر، بعد أن أكد لي أن اسمه قد طرق سمعه أو رأى شيئا عنه في مدونات جده، لكن المنيّة عاجلته إذ توفي رحمه الله عام 2019م، وربما يجود بها الزمن ليحظى دوره النضالي السياسي بمزيد بحث وتفصيل، فلا أعتقد أنّ رجلا في حجم السعداوي يشرك الشيخ البكو في قضايا سياسية مصيرية إلا دليل على الثقل الذي كان يمثّله الشيخ البكو في الحزب، ومكانة كهذه تعني أنّه كان على دراية بمجريات الحياة السياسية المحلية والدولية.
لقد ساهم الشيخ علي البكو في جهود تحديد مصير ليبيا واستقلالها، هذه هي الحقيقة، وإن كُنّا نحتاج المزيد من البحث إلا أنّ الذي أردت قوله: هذا هو التصوف وهؤلاء هم رجاله روّاد الاصلاح في ليبيا، ردا لتُهم الدروشة والانعزال والسلبية، فالخلوات لا تُنجب إلا الرجال، وأكبر قادة الفكر ومحركي التاريخ كانوا من أرباب الخلوات، وأوّلهم وخيرهم وأفضلهم عند الله سيد الأكوان صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يتعبد الليالي ذوات العدد في غار حراء وخرج على الدنيا بحُلل الرضا التي نرفُل فيها الى اليوم وحتى قيام الساعة.
ولم يكن سيدي علي البكو استثناء في النضال الوطني، فكثير من قادة النضال السياسي كانوا من أرباب التصوف، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:
– شيخ الطريقة القادرية في زمانه سيدي علي الأمين سيالة (ت 1956م) أبرز أعضاء حزب الإصلاح، ومعه رفيقه وأخيه في الطريقة القادرية الشيخ جمال الدين الميلادي (ت 1963م).
– شيخ الطريقة العيساوية الصحفي الوطني الشيخ عبد الله بانون، أنشط أعضاء حزب جمعية الجامعة العثمانية الذي شارك بقوة من طرابلس في الضغط حزب الاتحاد والترقي وتضييق الخناق عليه ومنعه من الانقلاب على الخلافة الإسلامية في الآستانة، حتى استدعت قوة الضغط رئيس حزب الاتحاد والترقي مصطفى كمال اتاتورك المجيء الى طرابلس وعقد مناظرات مع رجال الحزب، وفي مقدمتهم الأستاذ عبد الله بانون، وحارب الحزب ومنهم الشيخ بانون.
– الشيخ الطاهر بك المريٌض أحد رجال الطريقة الساعدية المدنية من قيادات الحركة الوطنية أسس حزب الجبهة الوطنية المتحدة كرد على تصريحات وزير الخارجية البريطاني ارنست بيفن بشأن مشروع بيفن – سيفورزا لتقسيم ليبيا.
– الشيخ علي الفقيه حسن، القادري طريقة، مؤسس حزب الكتلة الوطنية الحرة، ومن أبزر نشطاء هذا الحزب سيدي الشيخ محمد بيوض، شيخ الطريقة العيساوية في وقته.
فقد شارك السادة الصوفية في النضال الوطني، وأسسوا الأحزاب السياسية وفي قلوبهم أحزاب البحر والبر للإمام الشاذلي، وأحزاب سيدي عبد السلام الأسمر، والحزب الكبير والصغير لسيدي بن عيسى، فهم مع الله وأيديهم لعمارة الأرض التي استخلفوا فيها، فنعم الخلفاء.
ومما أكرمني به شيخنا القطعاني أنّني سبّحت بسبحة سيدي علي البكو التي وصلته بالسند المتصل مقرونا بالمناولة من الشيخ محمد سويسي، والشيخ سويسي ناوله الشيخ الهاشمي إبراهيم المجريّ سبحة سيدي البكو، والشيخ المجريّ ناوله إيّاها الشيخ البكو، قال الشيخ القطعاني “وهي كما أسلفت عين سبحة الشيخ علي البكو رضي الله عنه وصلتنا بالمناولة وهي عندنا نتبرك بها” (أنظر أوبة المهاجر وتوبة الهاجر ج 1 ص 325).
وقبل أن أختم مقالتي أحب أن أنوه، جواب للعديد من الرسائل التي وصلتني وطلب فيها أصحابها منّي أن أكتب عن صلحاء آخرين، أنّني كتبت عن المصلحين لا الصالحين، وفرق كبير عندي بين الصالح والمصلح، فقد يختار الله من عباده من يجتبيه لقربه ويُشغله عن الخلق، لكن الشأن كل الشأن فيمن فرغ من اصلاح نفسه وتوجه الى اصلاح الخلق وقلبه معلق بالحق، ولعلّ هذه المقالات تكون درسا لقادة وساسة البلاد اليوم في معنى الإصلاح والسياسة والاقتصاد وبناء المجتمع.
* رئيس مركز العلامة الليبي أحمد القطعاني للثقافة والدراسات الصوفية
طرابلس – ليبيا / الخميس 28 سبتمبر 2021م.