(السفنُ الراحلةُ على موج اليابسة الخضراء
حملت كفني ورمادي
فتمطت أشرعة الحزن البيضاء
تنعي موتي ورحيلي
أتركُ صحراءَ البدو
وأهازيجَ الشعراءِ الطبالين
وأموتُ على سكينِ النقادِ المأجورين
لكني أنقى معبودٍ مجبولٍ من الطين
الوطنُ المغلولُ أنقى من وجهِ المحبوبة
لو خطرت عاريةَ النهدين)
هكذا استهل الشاعر الراحل جيلاني طريبشان قصيدته “البراءة” حين كتبها منذ عقود بعيدة، وكأني بالأديب الراحل كامل عراب يعلنها الآن ويذيعها على الملاء بصوته المتدفق قوة ورصانة ووثوقاً من مقر سكناه الجديد. ذاك المسكن الآخير الذي رحل اليه، وحل به في مثل هذا اليوم منذ عام مضى عن عمر يقارب ثمانين حولاً، تاركاً الكثير من الإرث الفكري والمنتوج الأدبي الذي سيحفظه التاريخ، ويشهد به على إبداعه طوال سنين تجاوزت نصف قرن من العطاء.
فالأديب الراحل كامل عراب ولد بمدينة الرجبان سنة 1935 وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة غريان، ثم انطلق في حياته العملية بالعمل مذيعاً بالإذاعة الليبية عقب الاستقلال، حيث يعتبر أحد المؤسسين لها، ثم معداً ومقدماً للعديد من البرامج الثقافية والأدبية منها “أجنحة الكلام” و”طابت أوقاتكم” على سبيل المثال لا الحصر. وبكل همة وحضور فاعل أسهم الأديب الراحل كامل عراب في إثراء المشهد الصحفي والأدبي بالعديد من المقالات والدراسات النقدية التي أبرز فيها قدراته وإمكانياته فحقق حضوراً لافتاً ومميزاً. وبالإضافة إلى ذلك تولى العديد من المسؤوليات والمهام الإدارية، وأصدر مجموعةً من الكتب التي جمع فيها بعض دراساته ومقالاته المنشورة بالصحف والمجلات الليبية والعربية، وهو يعترف في مقدمة كتابه (بدون مراوغة) بفقدان الكثير من كتاباته وأعماله حيث يقول (.. فما أكثر النصوص التي ضاعت ولم أعثر لها على أثر حتى الآن، وما أكثر النصوص التي فرطت فيها بعد إلقائها لسبب أو لآخر…).
فما أحوجنا الآن إلى إسداء خدمة جليلة للأديب المستريح في قبره وذلك بالبحث عمّا ضاع من انتاجه والسعي لتجميع أعماله ونصوصه المفقودة، لأنني على يقين وثقة بأنها ستكشف جوانب أخرى مهمة في مسيرته الشخصية وتضيف للمشهد الأدبي والصحفي عامةً. وللتأكيد على قيمة أعمال الأديب الراحل كامل عراب وأهمية كتاباته أقتبس بعض ما سطره في مقال له بعنوان (كلام جرايد) ونشره في كتابه (بنكهة الأدب أحياناً) يوجه فيه نقداً لاذعاً وقوياً بكل جرأة وشجاعة حيث كتب يقول (.. “الحكومة” التي لا تلقي بالاً لما يكتب في الصحافة ولا تعيره أي اهتمام، هي إما أن تكون حكومة جاهلة، بمعنى أنها لا تقرأ ولا تكتب، وبالتالي لا تدري ما يثار أو يكتب على صفحات الجرائد، وإما أنها تكون حكومة حاقدة أو ساخطة أو مستبدة، وهي في هذه الحالة أيضاً لا يحرك ما يكتب في الصحف شعرة من رأسها الناشف، والذي قد يكون بشعر ولكنه بدون شعور).
ومن خلال مطالعة إصداراته نلاحظ أن الراحل كامل عراب يتميز بخصلة الوفاء، التي صارت نادرة في هذا الزمن، لأساتذته ومعلميه ولزملائه ورفاق رحلته الأدبية حيث نجده يخصص مقالة بعنوان (رحلوا وتركوا لنا الحسرة) للحديث عن أستاذه ومدير مدرسة غريان الابتدائية المركزية الشيخ الجليل محمد اللموشي رحمه الله، ومقالة أخرى بعنوان (سيدة في البال) عن علاقته الأخوية بالراحلة خديجة الجهمي وموقفها الصلب تنديداً بمنعه من السفر سنة 1960. ومقالات أخرى عديدة أفصح فيها عن علاقاته بالشاعر علي الرقيعي وعلي الفزاني وخليفة الفاخري وكامل المقهور وخليفة التليسي وسليمان كشلاف وبصورة خاصة الجيلاني طريبشان رحمهم الله جميعا.
وحتى إن اتسمت تلك المقالات بالتقريرية والخطابية فإنها تقدم لنا تلميحات يسيرة وشذرات قليلة من مشاعره الإنسانية وعلاقاته الودية بمعاصريه، إلا أن كتابة سيرته الذاتية كاملة ستمنحنا بلا شك إطلالة أعمق على تجاربه وخبراته التي هي بالتأكيد زاد معرفي يحتاجه كل شغوف بالأدب والنقد والإذاعة، للاستفادة مما تحتويه تلك السيرة من دروس وعبر. وكتابة بعض من سيرة الأديب الراحل كامل عراب في غياب شخصه أمر يبدو صعباً ولكنه ليس مستحيلاً بعد مراجعة أوراقه ومذكراته الخاصة ووثائقه الشخصية ومخطوطاته التي يحتفظ بها في مكتبته الزاخرة بصنوف العلم والمعرفة والأدب وهي مسئولية تضامنية بين أسرة الأديب الراحل والمؤسسات الثقافية الوطنية.
أما أبرز من كتب عن الفقيد الراحل كامل عراب فهو الأستاذ أمين مازن الذي نشر بتاريخ 25 يونيو 2009 يقول (… أوكد أن هذا الصديق أول من عرفت من نشطاء الفكر اليساري، إن صح التعبير، في قاعات نادي الشباب الليبي. وكان يومئذ قد خلع لتوه ملابس نائب العريف بقوة بوليس طرابلس وأمامه فرصة للعمل بمؤسسة التأمين الاجتماعي التي آلت إلى الدولة الليبية، إذ اجتاز الامتحان القاضي بتعيينه على الدرجة السادسة، إلا أنه عدل عن ذلك أمام ما لاح في الأفق من إمكانية العمل بالإذاعة التي تأسست في ذات الفترة …) ويواصل (.. انصرف كامل إلى الإذاعة وإلى مجلتها بالذات …. وأشهد، هنا أنني مدين له بمعرفة الكثير في إطار البدايات، إذ كان يومئذ على صلة بأبرز الأسماء الذين أذكر منهم الكثير من الراحلين أمثال علي الرقيعي وعلي بوزقية ومحمد مفتاح الدعيكي وعبد الحميد البكوش وكامل المقهور ثم عبدالله القويري إلى جانب يوسف وفاضل المسعودي…. وكان شديد الحماس للعمل المنظم، كثير التبرم من تردد البعض، وقد فهمت أنه تعرض لشيء من المضايقة في قوة بوليس طرابلس مما جعله كبير السرور عشية عودته حاملاً ما يفيد بقبول استقالته). ويضيف الأستاذ أمين مازن متحدثاً عن المرحوم كامل عراب (… كان هو يجمع بين المقالة والقصة. وكان نادي الشباب الليبي قد أجرى مسابقة القصة للكتاب الناشئين وقد تبين أنه ضمن الذين اشتركوا في تلك المسابقة ….وقد فاز كامل بالجائزة الأولى).
تلك شهادة أحد مجايليه، أما بالنسبة لي فإن علاقتي بالأديب الراحل لم تتعمق بدرجة كبيرة ولم أتواصل معه بشكل مباشر إلا حين أعددتُ وقدمتُ برنامجي المرئي “المشهد الثقافي” الذي بث خلال الفترة من 12 أغسطس حتى 28 ديسمبر 2010 واستضاف كلاً من الشاعر عبدالمولى البغدادي والأديب أمين مازن والفنان علي العباني والقاص يوسف الشريف والمحامي جمعة عتيقة والقاصة عزة المقهور والأستاذة أسماء الأسطى وغيرهم. وكان المرحوم من ضمن قائمة ضيوفي حيث اتصلت به واتفقنا على موضوع الحوار وتحديد موعد التسجيل بالإذاعة إلا أن المرض المفاجيء الذي باغثه وسفره إلى الأردن للعلاج حال دون ذلك، ثم توقف “المشهد الثقافي” وتفجرت ثورة السابع عشر من فبراير.
وبعد الثورة كنا نلتقي في أمسيات المحاضرات الأسبوعية بمركز الجهاد أو في مقر صحيفة “البلاد” التي جاورته في الكتابة بها أسبوعياً لفترات قليلة متقطعة. وحين نشرتُ مقالتي “ليبيا والوطن في أشعار المرحوم عبدالحميد البكوش” بصحيفة “ميادين” وقدمتها بمركز الجهاد ذات أمسية خريفية كان سعيداً وممتناً لإبراز الجانب الشعري لدى السياسي الراحل عبدالحميد البكوش رئيس وزراء ليبيا الأسبق، واعترف لي بأنه لم يكن يعلم أن عبدالحميد البكوش له إصدارات شعرية غزيرة ودواوين عديدة وطلب مني نسخة من المقالة فسلمتها له وتركته يبحث عن دواوين عبدالحميد البكوش.
وحين علمتُ بخبر وفاته يوم السادس والعشرين من شهر فبراير 2013 نعيته على حائطي في موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” وشاطرني الكثيرون فقدانه من خلال تعليقاتهم منهم الصديق العزيز الإعلامي سمير جرناز الذي كتب (ظروف العمل الصحفي جمعتنا معاً لأشهر معدودة… كم كنتُ محظوظاً للتعرف عليه عن قرب. كم هو فادح رحيل إنسان في نبل الأستاذ كامل عراب… إعلامي من طراز رفيع يغادر في وقت أحوج ما نكون لحضوره…) وكذلك الصديق الصحفي الهادي شليق كتب (سنفقد كامل عراب كلما احتجنا إلى خطيب مفوه وكاتب متميز ومثقف رصين) أما الأستاذة امباركة عدالة فأكدت أن (الأستاذ كامل عراب شخصية إعلامية لا تتكرر) أما الأستاذ عبداللطيف الدجياني فكتب أبياتٍ من الشعر يقول فيها :
(عزائي فيك… هو أن لا يكون هناك عزاءْ
عزائي فيك… ليس صياحاً ولا نياحاً ولا بكاءْ
عزائي فيك… هو الصمتُ ولا شيء غير الصمتِ إذا غاب حليمٌ من الحلماءْ
عزائي فيك… هو الحبُ إذا حُكِمَ على الحبِّ بعدم البقاءْ
ما الدمع؟…. إذا ضمت الأرضُ رمزَ الوفاءْ
ما العزاء؟ْ… إذا فارقَ الدنيا كريمٌ من الكرماءْ
لاتبكوه!…. فعادةُ العربِ لا تبكي النُبلاءْ
ررحم الله الأستاذ كامل عراب … الكاتب الإنسان والأديب الناقد والصوت الإذاعي الدافيء الذي سيظل رمزاً من رموز ثقافتنا الوطنية التي نعتز بها… ونفخر.