(إلى هناء الاسطى…)
تكفي مقاعدنا الخشبية المستطيلة لاثنتين أو ثلاثة حسب امتلاء الفصل، أقدامها معدنية، أدراجها فارغة ومفتوحة مستعدة لالتهام أي شيء.. حقائب، كراسات، أوراق، حتى الفضلات، وأحيانا المكان المناسب لتدفئة أيادينا في الشتاء. لا تُهجر المقاعد إلا حين تعرج عرجا بائنا أو تنكسر فترمى في آخر الساحة.
أجلس في المقعد الأوسط المقابل واللصيق بطاولة المعلمة، أراقب كل حركاتها، منتبهة لها على الدوام، فيما تجلس “بهلولة” خلفي مباشرة، تنظر في فراغ الفصل ما بين السقف والباب، لا تزعج أحدا سوى المعلمة التي تكيل لها كلمات قاسية بدءاً من اسمها أو تعاقبها لعدم انتباهها وسرحانها الدائم.
– المفروض سموك مهبولة مش بهلولة.
لكن بهلولة لم تتغير أو قد تكون بلا قدرة على جمع شتات نفسها والتركيز، ما أن تنظر المعلمة صوبها وهي تحشد كلماتها لقذفها بها، ألتفتُ نحوها محاولة تنبيهها فأجدها تحلم بعينيها الصفراوين ورأسها المائل، لا تنتبه لالتفاتتي وما أصدره من جلبة.
في مواجهة توبيخ المعلمة تكتفي بهلولة بتنكيس رأسها، ثم تعاود سرحانها.
لم أسألها قط عما يذهب بعقلها بعيدا عنا.. وقد لا يكون هناك من سألها إلا بغرض تعنيفها كما تفعل المعلمة. لا تنجز بهلولة واجباتها وتتعلل بأعباء البيت..
– يا أبلة كنت نصوبن أمس.
فتزفر المعلمة وتتنهد..
أما في حصة الرياضة، كانت بهلولة أفضلنا بلا منازع، تحصد الترتيب الأول في العدو. حين تصل حاجز النهاية تنحني أمامنا وهي تلهث مبتسمة كما العداءات العالميات.
كلما حل موعد الاستراحة، تقترب بهلولة منيّ، تقف إلى جواري تراقبني باستحياء وأنا أهم بإخراج إفطاري من حقيبتي. عادة ما يكون إفطاري سندوتش من التونة المخلوطة بالهريسة مع شرائح الطماطم وحبات الزيتون السوداء الجافة التي تعدها أمي في كل مواسم الزيتون، وتضعها في برطمانات زجاجية مغمورة بزيت الزيتون.
تفرك بهلولة يديها وتتسع ابتسامتها وتثرثر…
– شن خبزتك اليوم؟
– تن وهريسة
– أمك دارتها؟
تتكرر أسئلتها كل ظهيرة.
لا أسأل بهلولة عن خبزها، ذلك أنه في بواكير الأيام الدراسية قايضتني بخبزها، فسلمتها خبزي وفرت به كشحنة كهرباء، واكتشفت لاحقا أن خبزها فارغ إلا من “لحسة” زيت مخلوط بطماطم معجون.
في اليوم التالي حاولت معي مجددا بأسلوب أكثر لطفا…
– خبزتك أمس مليحة بكل، من دارها؟
– أمي…
رأيت لعابها يكاد أن يسيل.. وابتسامتها أكثر امتدادا، وعينيها أشد لمعانا.
كنت قد قررت ألا أسلمها خبزي، لكن حبة زيتون أفلتت منه وكادت أن تسقط أرضا لولا أن مدت بهلولة يدها ببراعة وتمكنت منها، نظرت إليّ بزهو وأفرجت عن يدها نحوي. حينها لم يبق لي إلا أن أقسم خبزي بيننا نصفين، لتفر مجددا كالبرق.
توقفت بهلولة عن محاولة المقايضة بخبزها، وأصبحت قسمة الخبز بيننا عادة يومية، حتى جاء يوم وأحضرت خبزاً بشرائح الجبن مع قطع الطماطم والزيتون، فتحت بهلولة نصف الرغيف بعد أن قسمته وناولتها إياه كالعادة وقالت باستغراب،
– شن هذا؟
– جبنة.
– مانعرفهاش هذه، جبنتنا البقرة اللي تضحك…
وضحكت، ثم غادرت بسرعة. وحين استؤنفت الحصة، مالت نحوي ووشوشت في أذني…
– قولي لأمك نبوا التن.. جبنتكم صامتة ما عجبتنيش.
لذا حرصت على ألا يكون خبزي إلا بالتونة، وكلما ألحت أمي في أن تنوع خبزي أرفض.
ذات يوم فوجئت بخبزي محشي بزبدة الفول السوداني مع العسل، بينما تقف بهلولة تنتظر إلى جواري وهي تفرك يديها، حشرت خبزي في قاع حقيبتي وادعيت بأنني نسيت رغيفي…
– إمالا خلي نجيب خبزتي.. قالتها بهلولة بامتعاض.
همت بقسمة رغيفها، لكنني رفضت وابتعدت عنها…
– غير خودي.. خيرك ما تحبيش خبزة أمي؟
ترددت.. ثم استجبت، وطلبت منها الجزء السفلي للرغيف…
– أعطيني “القعمورة”…
وكانت لي.
ما إن غادرت، تناولت نصف رغيفي بسرعة.
عند عودتي إلى البيت، استفسرت أمي مستغربة عن عدم الانتهاء من خبزي كعادتي، وقالت تخاطب نفسها مستسلمة، لن أعطيها إلا تونة بعد اليوم.
تفتخر أمي بي أمام إخوتي بأنني الوحيدة التي تنهي خبزها…
– ما شاء الله على بنيتي عمرها ما روحت بخبزتها مش زيكم.
أشعر بحرج وتحمر وجنتاي وأنسحب من حضرتها.
لم تعد بهلولة تفر مني بعد أن تحصل على نصف رغيفي، بل باتت تجلس إلى جواري وهي تحرك ساقيها أو تحرر كعبيها من حذائها، أو تقف بمحاذاتي وهي تلف حول نفسها. تذكرني بهلولة بالراقصة التي تختبئ داخل صندوق أمي الخشبي تدور برتابة على ذات الموسيقى حين يكشف عنها، أو اللعبة التي أدير مفتاحها ثم أتركها تقفز حتى تفرغ شحنتها فتهمد. لكن بهلولة لا تهدأ حتى حين تجلس في مقعدها، تحك قدميها بالأرضية أو تمدد وتسحب ساقيها أو تعبث بأدواتها أو تدير رأسها أو تشرد بذهنها بعيدا وتحلم.
– تعرفي علاش سموني بهلولة؟
تفاجأت، بينما كنا نتناول رغيفنا معا…
لم تنتظر إجابتي واسترسلت…
– كل بنت تجيبها أمي تموت، أنا بس اللي عشت تعرفي علاش؟ على خاطر سمتني بهلولة.. كان هذا راهو لحقت خواتي. وقهقهت…
سعدت كثيرا بأنها افصحت لي عن سرها، تمنيت أن تذيعه على الملأ حتى يتوقفوا عن إهانتها باسمها…
شيئا فشيئا، أخذت بهلولة تفصح لي عما هو أعمق وأشد قتامة…
– خوتي راهو في عصابة القط الأسود…
وحين رأت الخوف يتخطى عينيّ ويمتد مع نظري، أمعنت بهلولة في سرد حلقات إخوتها والقط الأسود، حتى لاحقتني الكوابيس ليلاً وتجنبت تناول مشروب “الكيتي كات”.
وصفت لي بهلولة موقع بيتهم بالقرب من فرع مدرسة البنين الابتدائية التي يدرس بها أخي.
حكت لي بهلولة أنها تخاف الليل، وترتدي ملابس صوفية ثقيلة للنوم. وحين أبديت تعاطفي معها بسبب تعنيف المعلمة، أجابتني بابتسامة خجول أنها معتادة على ذلك فكل الكبار يشتمون بل ويضربون.
شعرت ببهلولة متوثبة للحديث، كظبي شارد تائه وسط جمع من البشر. تنتظر أن أسألها لتحكي، لكن كل ما فيها كان ناطقا، عيناها الصفراوان مليئتان حتى حوافهما، رموشها الثقيلة، اظفارها المتآكلة، أصابعها المنتفخة وكفا يديها الجافتين.. جوربها الفاقد للآستيك وحذائها المائل والواسع. كنت خائفة من معرفة المزيد.
فجأة، انقطعت بهلولة عن المدرسة. واضطررت بعدها إعادة حصة بهلولة من رغيفي، انشغلت أمي وعرضتني على الطبيب الذي بعد أن مسح على شعري قال إن وزني لم ينقص وأن لا قلق بشأن صحتي.
كنت قلقة على بهلولة، وحزينة لأن أحد لم يسأل عنها أو يستفسر عن غيابها المفاجئ، حتى مقعدها سرعان ما امتلأ بتلميذة أخرى.
هكذا قررت أن أزور بيتها. تذكرت وصفها البسيط…
– حوشنا مقابل المدرسة الابتدائية الفرع.
قالتها وهي تضع كفيها متقابلين كدرفتي باب مفتوحتين.
طلبت من أخي أن يرشدني إلى مدرسته، وافق شرط أن اتبعه وأحافظ على مسافة تضمن أننا نبدو غرباء. يلتفت أخي بين الحين والآخر ليتأكد من أنني أحترم المسافة بيننا، وكلما خالفت الشرط، حرك لي يده من خلفه بأن أبتعد بينما يتظاهر بالحديث مع رفاقه.
كانت المدرسة مؤقتة، افتتحت على عجل لتخفيف اكتظاظ مبنى المدرسة الأصلي وأطلق عليها “المدرسة الفرع”. هي أقرب إلى بيتنا المطل على الجادة الرئيسية من مدرستي، إذ يكفي أن أقطع الطريق المحاذ للسوق نحو منحدر تكبحه أعمدة كورنيش البحر ثم أتوغل في زقاق ترابي ليظهر مبنى قديم من دور واحد من الطوب الأحمر، بابه ضيق متآكل لا يسمح إلا بمرور منفرد.
كان أخي آخر من دخل من الباب الأخضر دون أن يلتفت إليّ، المفاجأة أنه لم يكن يقابل المدرسة سوى تلة من التراب. توغلت قليلا في الزقاق، وما شجعني أنني رأيت سورا قديما ولمحت بابا خشبيا ضيقا مرتفعا عن مستوى الزقاق مثبتا في السور بإهمال. فوجئت بالباب مفتوحا في ذلك الصباح الشتوي الباكر، وبشيء من الحذر أطللت برأسي فوجدت ساحة واسعة بأرضية اسمنتية غير مستوية عارية تطل عليها السماء، وَجلتُ، لكنني بقيت أمام باب البيت مترددة بين النداء على بهلولة أو الطرق عليه. ظهرت فجأة من احدى الغرف المطلة على الساحة سيدة حافية في ثوب طويل فضفاض وشعرها مهمل تحت غطاء رأس ملفوف كيفما اتفق، يتغلغل الإرهاق على صفحة وجهها وهي تجرجر بطاطين وترمي بها على الأرض. رفعت رأسها وصوبت عينيها نحوي، لكنها استمرت في عملها، وأنا في مكاني أراقبها وانتظر أن تتجه نحوي وتستفسر عن سبب وجودي. حركتها المكررة ووجهها القلق المتعب ونظرتها الكسيرة كبلت لساني واشتد دبيب الخوف في قلبي، لكنها ظلت على حالها وبقيت أنتظر.
شيئا فشيئا تحولت نظراتها اللامبالية إلى نظرات مشوبة بالعداء، حينها تذكرت قصص عصابة القط الأسود، فتراجعت، فإذ بها تدنو باتجاهي بخطوات عصبية، وفي موقف دفاعي بادرتها…
– ننشد على بهلولة.. أنا معاها في المدرسة.
تسمرت المرأة في مكانها، ورأيت جسدها يرتعش غضبا، وأجابتني وهي تحرك يدها نحو الأعلى…
– بهلولة مشت.. مشت.. مشت…
وكأنها بحركة يدها تلك تعلن عن فرارها.
ثم وجهت سبابتها نحوي وصاحت بي…
– ماعاش تجي هنا… سمعتي؟
استدرت سريعا وهرعت نحو المدرسة الفرع، ثم إلى الطريق الرئيسي المتجه نحو مدرستي وشعرت بأنني عدت إلى العالم الذي أعرف، السيارات والمارة والمباني والمتاجر والسوق وهو يستعد لاستقبال رواده، كنت أرتعد خوفا ولم اهدأ إلا حين عدت إلى البيت وارتميت في أحضان أمي وبكيت.
طوقتني أمي بذراعيها ومسحت على رأسي وهي تسأل…
– من زعلك اليوم.. قوليلي؟
لم أجرؤ على سرد ما حدث، كنت خائفة من أن تعلم بأني لم أكمل رغيفي طوال الأشهر الماضية.
لكن بكائي كان أشد لأنني اكتشفت لأول مرة لماذا كان رغيف بهلولة فارغا.
لندن، 22 مارس 2022