طيوب عربية

عليكم أن تصدقوا… فالفن يكمن في التفاصيل أيضاً

مشهد من فيلم صالون هدى (الصورة: عن الشبكة)
مشهد من فيلم صالون هدى (الصورة: عن الشبكة)

ما إن يصل المشاهد إلى اللحظة الأخيرة من فيلم “صالون هدى” حتى يصيبه شعور بالارتياح والرضا، أو هكذا أتخيل أن يحدث، فقد حدث معي الشيء نفسه، المشهد الأخير “بيت قصيد” الفيلم على ما أقدّر. لذا فإنني بلا شكّ رأيته عملا إبداعيا متقنا، ذا إيقاع فنيّ هادئ، كأن الأمر يحدث كله همسا، وتناغم هذا مع خفوت في الإضاءة، هذا أيضا على ما أظن كان في خدمة أفكار الفيلم التي هي في الخلفية التي عبرت عنها الأحداث وأهمها، تعامل الرجال مع نسائهم، ونظرة المجتمع للمرأة، وعدم تصديقها، وستكون دائما بين خيارين أحلاهما مر شديد المرارة، بل هو الموت أو الموت.

في حادثة تورط أحد المقربين من رجال الثورة الفلسطينية الذي جنده الشاباك لاغتيال عمه، واكتشاف أمره، كان الحل والحكم عليه من المقاومة التي اكتشفت أمره؛ إما أن يموت خائنا أو يموت شهيدا، فاختار أن يموت شهيدا بعد أن قتل من جنده من الشاباك. قصة فيلم “صالون هدى” لها هذا النفق المسدود من الخيار. الموت أو الموت لا محالة. لكن المفاجأة كانت في النهاية غير المتوقعة بل كانت مدهشة ومفرحة، وتفتح طاقة أمل.

كان فيلم صالون هدى رائعاً ومؤثراً، والمشهد المقصود بالرجم والسب والشتائم والتنمر؛ “تعرية ريم في الصالون” هذا المشهد؛ رؤية فن لزيادة التأثير في المشاهد لتقدير حجم الكارثة. فمن سيتابع الفيلم سيكتشف ذلك. حتى تصل إلى ذروة التأثير في المشاهد لا يكفي التخيل. موضوع التخيل والاعتماد على طاقة التصور الذهنية ستكون ناجحة مع باقي الفتيات الذين لهن القصة ذاتها، لقد رأى المخرج أنه لا بد من هذه التفاصيل لإحداث رجة في هذا الوعي الزائف، حتى وإن كان الشيطانُ- وحي الفن- يكمن في هذه التفاصيل، فليكن، وأهلا وسهلا به!

خمس عشرة فتاة تم إسقاطهن بذات الطريقة، لهن صور كصورة ريم، فلو تم تركيب مشهد تصوير ريم مع الجميع سندرك حجم الكارثة، ولن نتعاطف مع سعيد القزّاز عندما أعدمته المقاومة حرقا الذي لم يكن أكثر من “موديل” لتنفيذ مخطط الإسقاط.

سعيد كان أيضا عاريا تماما في المشهد مع ريم ومع غيرها من الفتيات الضحايا، لم يتحدث عنه أحد من الذين هاجموا الفيلم وطاقم العمل، تلاشى جسده وعورته وراء ضوء عورة ريم وجسدها. نفاق مجتمعي من الطراز “الوسخ” أيضا، فالمجتمع “المثالي” الخائف على عرض الفتاة، يغض الطرف عن عورة “سعيد” التي كانت أكثر وضوحا من جسد ريم، مع أن العورة هي عورة، من ناحيتين فنية وشرعية، لكن هؤلاء يتسامحون مع رؤية عجيزة سعيد و”ذكره” لكنهم لم يتسامحوا مع رؤية أرداف ريم وفرجها ونهديها، حتى بيان “اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين” الذي أدان فيه الفيلم دافع عن شرف “المرأة الفلسطينية”، ونسي شرف “الرجل الفلسطيني”، هذا البيان صدى آخر لما يفكر به الناس والغوغائيون ولا يحمل أي بعد تنويري، إنما كان راكبا الموجة، مثله في ذلك مثل كل المؤسسات الرسمية التي أصبحت مقودة للشارع وضجة الناس على الفيسبوك. فالاتحاد يذم مع الذين يذمون، ويطبل مع المطبلين، أصبح الفكر الشعبوي هو الذي يقود المؤسسة بدلا من أن تقود المؤسسة الناس، وتحسّن من تفكيرهم وطريقة تعاملهم مع الأمور والقضايا الحساسة، إننا نشهد تراجعا ورجعية ليس لها حدود بل إنها تردٍ بعيد عما يطمح إليه المثقف التنويري.

كل الذين في الفيلم تخلوا عن ريم التي كانت بالفعل ضحية، حتى يوسف الذي يدعي حبها، وهذه أيضا فكرة خلفية من أفكار الفيلم التي يجب أن ينتبه لها “الرجال المثاليون”. لم تتفاجأ ريم من ردة فعل زوجها فهي على يقين مسبق من موقفه. لذلك كان مبررا جدا انتحار “صفاء” إحدى ضحايا “صالون هدى”، ومحاولة انتحار ريم الفاشلة كانت مبررة عندما سُدت كل الطرق في وجهها، حتى وهي تتصل بموسى كان اتصالها مبررا ومقنعا، فهي كالغريق الذي يبحث عن قشة لإنقاذه، لكنها لم تضحِ بزوجها عندما ساومها موسى من أجل خروجها فلم تعطِه أية معلومات عنه لفتح ملف لها. بالمقابل زوجها يوسف سيتخلى عنها ويهرب بطفلته “لينا”، ويتركها تواجه مصيرا أسود وحدها دون أي حام أو نصير أو مساند. لقد تحول إلى “ذكر” سلبي جدا فلم ينطق بكلمة واحدة.

ينحاز الفيلم إلى الأفكار الإنسانية في أكثر من مشهد، وخاصة مشهد تحقيق المقاومة مع “هدى”، وفي إلقاء الضوء على مصير الضحايا ومعاناة أهالي الفتيات المسقطات، ومأساة هدى ذاتها وموقف أبنائها منها، كما أن الفيلم ينحاز إلى المقاومة وليس إلى “السلطة” وأجهزتها، فمن حقق مع هدى واكتشفها هو “المقاومة”، لم يشر الفيلم إلى وجود السلطة إطلاقا، على الرغم من أن زمن الأحداث هو عام “2002”- ذروة أحداث “انتفاضة الأقصى” المسلحة- في منطقة بيت لحم، ومأخوذ عن قصة حقيقية كما جاء في المعلومات التمهيدية.

فيلم صالون هدى
فيلم صالون هدى

قد يقول قائل إن أجهزة السلطة كانت معطلة في تلك الفترة، وعاد الاحتلال وسيطر على كل مناحي الحياة، إن هذا القول غير دقيق تماما، فقد تحول كثير من أبناء الأجهزة الأمنية إلى مقاومين، لكن السلطة- ككيان- لم تسقط حقيقة وظلت تمارس دورها أو جزءاً من دورها حتى بعد اغتيال رئيسها ياسر عرفات، أكملت مسيرتها وصارت أكثر سيطرة على هذا الشعب المقهور من احتلال بغيض وسلطة سيئة التصرفات والحكم غير الرشيد والفساد المستشري في لُبّها وأطرافها.

حذف السلطة من خلفية الأحداث والأفكار عمل ملهم، ورسالة أخرى ذات دلالة مهمة في رغبة التخلص من السلطة التي لم تقدم للشعب أي شيء يساعده على التخلص من الاحتلال. هذا الوعي الحقيقي كان مسيطرا لدى كاتب العمل على الأقل. إن لهذا المشهد نظيره في غزة على سبيل المثال، إذ تنشط شبكات المتعاونين مع الاحتلال في الحروب بل في كل وقت، لكن من يحقق ومن يصدر الأحكام هي الأجهزة الأمنية العاملة في القطاع المحاصر. غزة اليوم حالتها كحالة بيت لحم وكل مدن الضفة في عام 2002 إلا أن التصرف مختلف، فغزة جمعت الدورين، دور السلطة ودور المقاومة.

يبرهن الفيلم أن المقاومة وحدها من حمى ريم وأنقذها، والمشهد الأخير في الفيلم يزيد الإحساس بروعة تصرف المقاومة وحكمتها، وانفراج أسارير ريم كان رسالة بأهمية المقاومة التي هي النصير الوحيد وليس المقربين، نصيرة لريم التي أصبحت وحيدة، ونصيرة للشعب كله الذي أصبح وحيدا أيضا.

أحببت الفيلم جدا، وهو عمل إبداعي ورائع، ومن البدهي والطبيعي أن تثور ثائرة الناس عليه بسبب ذلك المشهد، لأنهم لا ينظرون إلا بسطحية وتفاهة ولا يفكرون إلا بفرج المرأة ونهديها، ويعتقدون أن كل بلاء الأمة في تلك الأعضاء، ونسوا روعة الفيلم وأفكاره، وفلسفته، والأفكار الغائرة في الوعي التي تحرك صانعي هذا المحتوى.

إن تنمر الناس على المخرج وعلى الممثلة تصرف أهوج، وأنا هنا لا أنصب نفسي للدفاع عن أحد، لكن تصرف الناس أو البعض منهم، ودفعهم ليصبح هناك رقابة على الأعمال الفنية لهو جريمة كبرى في حق الفن، وقتل للإبداع، وتسليم آخر منطقة حرية لنضعها في “حجر السلطة” التي لا تتوانى عن إيذائنا في كل أمر، وستصبح أداة رقابة قمعية على الأفكار كلها السياسية والاجتماعية والدينية، فقد قتلوا نزار بنات، وزجوا بكثير من المعارضين إلى المعتقلات، وكانوا عينا للمحتل على المقاومين، فيكفي غباء ولنفكر بإيجابية. إن لم يعجبكم الفن عليكم أن تثوروا ضد الواقع السياسي الذي هو أقذر من مشهد فني في فيلم على درجة عالية من الإتقان والإبداع. ولتقفوا ضد كل تلك الأفكار التي تدفع النساء إلى الانتحار بفعل كل التصرفات غير الإنسانية التي يعاملها به المجتمع، والذكور على وجه التحديد، مع أن الفيلم لا تحركه أفكار النسوية الضالة، وإنما معاناة النساء أكبر من الإسقاط للتعاون مع الاحتلال، ثمة مجتمع لا إنساني لن يتحرر ما دامت هذه الأفكار الرجعية متحكمة فيه، كما جاء على لسان هدى في إحدى جلسات التحقيق.

مقالات ذات علاقة

روز شوملي بين جدلية جبرا وفرس الغياب!

المشرف العام

فلسفة على ما فيش

المشرف العام

جائحة الخيل البائت

إشبيليا الجبوري (العراق)

اترك تعليق