هند زيتوني (سوريا)
يقول هيراقليطس الفيلسوف اليوناني: التغيير هو الجوهر الأساسي، لا يخطو رجل في نفس النهر مرتين.
وقال بارمينيدس: “يبقى المرء على ما هو عليه”، وذلك إحدى النقاشات الأولى لمفهوم الصيرورة الفلسفي. والطريق إلى الأعلى أو إلى الأسفل هو نفسه. فهل يتغير المرء على مدى السنين، أو تتغير هويته أو انتماؤه؟ وخاصة إذا اضطر للعيش في بلد مغاير تماماً، لتقاليده التي اعتاد عليها، (التقاليد هنا التي تشمل كل شيء) بما يسمى في الغرب: The culture وهل يستطيع المحافظة على موروثه الثقيل الذي حمله على ظهره؟ وهو يحاول أن يحميه ويدافع عنه خوفاً من الوقوع في العولمة، والانجراف في بحر التغيير الهائج، لدرجة الانسلاخ من الهوية الأصلية. وهل تترك الثقافة الجديدة للجنسيات المتعددة القادمة من أقاصي الأرض أثرها في المنفى أو البلاد الجديدة التي هاجرت إليها؟
في هذا الوقت بالذات بعد ثورات الربيع العربي والهجرة المتوالية التي قامت بها تحديداً الكثير من الشعوب العربية، هرباً من الموت ومن ظلم حكامهم الطغاة، للبحث عن بقعة جديدة لتمنحهم الأمان والكرامة.
إن هوية الشخص لا تحددها البيانات المكتوبة في البطاقة الشخصية أو جواز السفر. ولا تحدد انتماءه إلى بلد معين. ولعلّ الظروف التي أحاطت بالمهاجرين، دفعتهم إلى الصراع من أجل الحفاظ على الهوية، ولكن هل نجحوا في هذا الأمر؟
وقد بيّن الكاتب اللبناني أمين معلوف المقيم في فرنسا في كتابه: (الهويات القاتلة): “بأنّ الهوية ليست أمراً فطرياً ولكن هو شيء موروث. وقد يكون للشخص أكثر من انتماء واحد. وتنوع الانتماء هو ما يصنع قيمة للفرد ويجعل من كل كائن، فرداً غير قابل للاستبدال. والهوية لا تعطى مرة واحدة وإلى الأبد، فهي تتشكل وتتحول على طول الوجود”، وكما يشير الكاتب إلى خطورة أن تختزل الهوية إلى انتماءٍ واحد، لأنها تصبح عندئذٍ هوية قاتلة! وتضع الرجال في موقف متعصب، ومتسلط، ومتحيّز”
وقد ذكر أحدهم بأن الخصوصيات في تعريف الهوية القومية لا تعني انعزالاً أو تناقضا. مع هويات أخرى. والهويات المتعددة للإنسان هي ليست خطوطاً متوازية، فلا تلتقي أبداً، بل هي كرسوم الدوائر التي يلتقي أكبرها مع أصغرها، ابتداء من العائلة وصولاً إلى وحدة الإنسانية.
وفي معظم الأحيان ينجذب كثير من الناس نحو مجموعات متشابهة التفكير، وهم يحملون معهم هويات دينية وعرقية، مختلفة، من أجل الشعور بالرضا والأمان. وقد يكون هناك صراع بسبب التنافر والاختلاف بين الرؤى، والأهداف، والمعتقدات.
يبقى انتماء الجيل الأول من المهاجرين العرب إلى بلدانهم الأصلية وتقاليدهم، أقوى بكثير، من الجيل الثاني. أما الأجيال الجديدة بشكل عام فإنها تسعى للانغماس في المجتمع الغربي، المتحرر، حيث يقوم البعض باعتناق الأسماء الأجنبية والاندفاع المحموم إلى تقليد الغرب في اللباس والمأكل والمشرب، وتبقى الهوية الدينية مذكرة بالاغتراب”.
في الولايات المتحدة الأمريكية أو ما يسمى بالبلاد العم سام التي تدعى بالوعاء المذاب أو The melting pot تنصهر هناك الحضارات، والأديان، والطقوس، والألوان والجنسيات المختلفة، وتؤلف نسيجًا واحداً يعيش تحت سماءٍ واحدة ويحكمها رئيس واحد. في بلد تمنح فيه الحرية والفرص للجميع. ما زالت تأتي الشعوب من جميع أنحاء العالم، تحمل معها ميراثها التي تريد المحافظة عليه بكل ما أوتيت من قوة. ويواجه المهاجرون العرب إلى البلاد الاوربية أو الأمريكية تحديات كثيرة وهي اختلاف العادات واللغة وأنماط الحياة الجديدة، فيصبح بين خيارين صعبين إما الانطواء، من أجل الحفاظ على لغته وطقوسه أو التخلي عن لغته وطقوسه ليعيش حالة الذوبان في هذا المجتمع الذي اختار أن يعيش على أرضه. ولذا يجنح العرب إلى التواصل مع بني جلدتهم ولغتهم، ويحاولون المحافظة على هويتهم وهوية أولادهم، عن طريق الانخراط في مدارس إسلامية خاصة. أو التعليم المنزلي عن طريق الانترنت.
وهنا يأتي دور العمل الجماعي المنظم لاحتضان اللاجئ وحمايته من التلاشي في المجتمع الغربي الجديد. وقد تكون الغربة أحياناً دافعاً جديداً للتمسك بالدين والعادات.
أما التحديات الإيجابية التي يواجهها اللاجئ وهي ممارسة السلوكيات الجديدة من المحافظة على المواعيد، واحترام قيمة الوقت، والأمانة، وممارسة القراءة واختيار النظام الغذائي الصحي و السليم، والمحافظة على النظافة والاعتناء بالصحة وممارسة الرياضة والمحافظة على صحة الجسم والأسنان. كل تلك العادات الجيدة هي سلوكيات يحث عليها المجتمع الغربي ضمن أساليب الحياة الجديدة. وتساعد الحكومات بإيصال الغذاء الصحي لجميع العائلات الفقيرة. لكن الأجيال الجديدة التي تعيش على هذه الأرض، وتدرس في المدارس، ثم تلتحق بالجامعات فتكتسب العلم والثقافة والعادات الجديدة، يجذبها البريق والحرية، وتسعى للانغماس في هذا المحيط. حيث يتعلم الفرد الاستقلالية الفردية، والخصوصية، منذ نعومة أظفاره. وفي معظم الأحيان يفضل الفرد الأمريكي أن يستقل بحياته، حيث يضطر للعمل الجزئي ومتابعة الدراسة في آن واحد.
في بلاد العم سام لا يدرس الدين أو التربية الدينية، كمادّة مثل بقية المواد في المدارس مطلقاً، ولكن تُدرّس إجمالاً كمادة للمعرفة والاطلاع. وكل فرد يحمل موروثه في رأسه. ولكن بإمكانه ممارسته في بيته أو معبده. أو حتى في الحدائق. الجاليات المسلمة تؤدي صلاة الجماعة أو صلاة العيد، في الأماكن العامة مثل الحدائق، حتى تكون أحياناً محمية بسيارات الشرطة، منعاً من حصول أي اعتداءات مما يسمونهم العنصريين أو Red neck ولكن تنوع الأديان قد يؤدي إلى انقسامات مجتمعية أحياناً، مما يؤدي إلى العنف والاضطراب، كما حدث بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، حيث عنّف بعض العنصريين أفراد الجالية الهندية من السيخ الذين يرتدون ما يسمى (بالتوربان) وألحقوا بهم الأذى، ظناً منهم أنهم مسلمون.
ويركز العديد من الأشخاص على جوانب مختلفة من هوياتهم بما في ذلك العرق، والدين والتوجه الجنسي، ولكن ما نجده في النهاية أن تلك الوجوه الغريبة والسحنات المختلفة تنصهر إجمالاً في منظومة رائعة، مرتبة، لها حقوقها وواجباتها بغض النظر عن معتقداتها وجنسيتها. ويحصل فيها التزاوج والاندماج. ويقومون بالعطاء والإنجازات المهمة والاختراعات، فهناك أطباء سوريون بارعون وعلماء ومكتشفون من العراق، ومصريون يعملون في وكالة الفضاء ( NASA)، وأفراد بارعون من الهند يقومون بدور مهم ومسيطر في عالم التكنولوجيا. وفلسطينيون يدرسون في المدارس والجامعات ولهم كتب يستعان بها في الأبحاث. كما أن هناك بعض الكتاب المهمين الذين ترجمت كتبهم ودخلت المناهج الأمريكية مثل الكاتب غسان كنفاني ، ونجيب محفوظ الروائي المصري الذي قررت كتبه في المنهاج الأمريكي لتدرس في المدارس الثانوية الأمريكية. وكذلك هناك مبدعون من اليمن، ومن لبنان أمثال جبران خليل جبران الذي ترجمت كتبه الى اللغة الإنكليزية. وأذكر ثلاثة مبدعين مكتشفين وعلماء من الجزائر وقد تركوا أثراً عظيما في أمريكا من الاختراعات والأبحاث منهم (كمال تومي) الذي عمل في مجال الهندسة، وعالم الفيزياء المعروف (نور الدين ميكيليش)، (وبالقاسم حبّة) الملقب بالرجل الخارق. وهناك الكثير من الأفراد الذين جاؤوا وتركوا أثراً لا يمكن نسيانه.
من هذه النماذج التي ذكرتها وغيرها الكثير فإن الهوية الحضارية، الإنسانية، الأخلاقية تساعد على بناء الجسور مع الآخر، أما الانغلاق على الثقافة المحلية فهو معول هدم لا يصلح للاندماج أو التطور.