قصة

زناقي طرابلس

من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه
من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه

السادسة والنصف صباح.

أستقيظ كل يوم في هذا التوقيت، كي أتمكن من اللحاق على سفنز كوشة الصفار قبل الذهاب للعمل. كنت أقطن مع جدي في زنقة باي بنغازي، وأركض بين الأزقة لاحقا رائحة السفنز بالدحي من أيادي عمي بشير، أتناوله بكل شراهة وأذهب إلى عملي في بريد ميدان الجزائر.

كنت أحمل معي في الحقيبة مكاتيب تحوي مشاعراً تارة وأشواقا تارة أخرى ودموعا وأحزانا، وربما أخبارا مفرحة في بعض الأحيان، كان البعض ينتظرني على أحر من الجمر، والبعض الآخر لا يهتم بتاتاً حتى لمروري، كنت أهوى نسائم طرابلس وأعشق سماع نوري كمال حين يغني:

فكرتينا يا زهرة الياسمين

فكرتينا في بسمته وأيام من ماضينا

وفريد الأطرش:

الحياة حلوة بس نفهمها

الحياة غنوة ما احلى أنغامها

كانت حقبة الراديو شيئا عظيما، حيث كان جدي من أوائل من امتلكوا راديو في مطلع الخمسينات فقد كان يخبئه وكأنه كنز كبير، ويستمع له وكأنه هناك من سيسرقه ولا يجعل أمي تجلس بجانبه عند سماعه، فكان يعتقد أن المذيع سيسمع صوت أمي حين تقول يا حاج سالم الطاسة واتية، فقد كانت الظهيرة بجانب أمي وصواني الكعك ورائحة براد الشاهي المركرك فوق الجمر الأحب إلى قلبي.

وفي سياق الهدرزة (الحديث) تطرقت أمي إلى أنني أصبحت شاباً ولدي مهنة، وحان الوقت أن تختار لي عروساً شابة تكمل نصف ديني، فأولاد عمومتي من جيلي جميعهم أصبحوا أباء وسبقوني إلى عش الزوجية. بنت اللا نورية والباي عمر، غزالة تستاهل التخليلة والخلال بشنبيره، وبنت عز ومن باب بحر ما عندك ماتقول فيها، وراهي متعلمة كيف ما تبي أنت شن قولك.

وبسبب العادات والتقاليد والتربية، فكان كلام الأهل أوامر تنفذ فلا تستطيع الرد إلا (بالقول قولك والشور شور سيدي)،

كان أخي عادل يدرس الحقوق في مصر ليصبح أفوكاتو، يدافع عن حقوق المظلومين فهذا حلم أبي الذي يسعى لتحقيقه، ويرسل المكاتيب ويغيب بالأشهر، إلا إننا كنا ننتظر خبر انتهائه من دراسته بفارغ الصبر.

وتمت خطبتي لابنة الباي عمر الأستاذة جميلة، وكانت اسما على مسمى، متحصلة على دبلوم معلمات من معهد المعلمات في دمشق، وكانت على قدر من العلم والثقافة، وزوجة مثالية بالنسبة لي. كان لقاءنا الأول بعد الخطبة في جردينة الغزالة فهي تعشق هذا المكان، كنا نتحدث عن كل شيء ونتناقش كثيرا حول التاريخ فلدي معلومات كثيرة بقدر ما درست هي، قصصت عليها حكايا الصحراء التي كان يرويها جدي عن الطوارق وحياتهم الوعرة عما غاديت وجبال أكاكوس.

بعد مرور شهرين، قرر عادل زيارتنا للمرة الأولى منذ رحيله، وقررت أمي ألا تفوت الفرصة لاستدعاء الخطابة للحديث عن العرائس اللواتي في حوزتها للزواج. كان أبي قد سبقها واشترى زبون كاط للعريس الجديد وقالي لي أنت الحبل على الجرار عمك الحاج علي يراجي فيك يأخذ القياسات وازيتلك لون الباشوات، واني خديت معرقة وفرملة لالاجا.

وضعوه تحت الأمر الواقع قبل أن يتهرب، قال استاحشت جنان النوار، وقالاريا دي بونو، وكوشة الصفار.. وحمام درغوت، وباب بحر، والزاوية الكبيرة، وجامع ميزران، نبي ندير الفاتحة فيه ونبي مولد وسهاري مألوف.. الله الله واني نبي كسوة لولدي يتحاكوا بيها باب بحر كلها، حاضر يا للا فاطمة كله يحضر حتى الزكار يضرب ليل نهار.

وصار عرس تحاكوا بيه باب بحر وقالو اللا فاطمة دارت هكي في عرس أمالا في عرس السلطان شن بدير.

كنت قد اشتقت إلى جميلة فقررت المرور لرؤياها فنحن على موعد مع الغروب، وبانت عليا من شق الروشن وأعطتني مكتوبا قالت:

بوفرملة حمراء تقول عقيقه

حير منامي ودارلي الشهيقة

كانت تعشق البوقالات الطرابلسية وتسمعني دائما منها، هذه المرة كنت شحيحا أكثر منها فقررت القول لا الكتابة، قست على قدها القفطان زنزاري وقلت لها يا بنت الحسب والنسب امتى نحوزك في داري وتصبحي في يوم مبارك أم صغاري.

مقالات ذات علاقة

الكواكبي

عوض الشاعري

ليس كل من يأتي من إنكلترا يحبُ “الروك أند رول”

مهند سليمان

فزّاعة

عبدالسلام سنان

تعليق واحد

خالد 18 مايو, 2024 at 23:38

جميل

رد

اترك تعليق