النقد

قراءة عجولة في قصيدة (أمي) للشاعرة نعيمة الزني

الشاعرة انعيمة الزني (الصورة: عن الشبكة)
الشاعرة انعيمة الزني (الصورة: عن الشبكة)

قصيدة أمي /2010م

للشاعرة: نعيمة عمر آل قطعاني/ نعيمة الزني

أمي

أين تغيبين،

وهل يوارى التراب شذى الزهرة؟

من سيدفئ ليلي الطويل؟

أم تراها غابت (خراريفك) الملونة؟

أين تغيبين؟

ومن يدثر طفولتي،

 وُيشعل ذاكرتي

(بغناوي العلم) ذات الشجون؟

وكيف أنام في أرجوحة الشتاء وحدي؟

ولماذا ينضج العنب بعدك؟ 

ويعدنا الحبق بأزهاره البيض

لمن يتنهد النعناع

في عشيات الصيف؟

قد لفَّنا الحزن،

أنا ومزروعاتك …عالمك الأخضر البديع

شجيرات الفلفل

وعطر الفيجل (شقيق روحك)

من سينثر الحَبّ للطيور

ويسقي القطط

(إخوتي الملونين)،

أمي، يا أسطورتي العذبة

أين تذهبين

أشمُّ رائحة خبزك

وتنورك وهجٌ

يُشعل الذاكرة بالحنين

هل يُوَارِي التراب الشذى …!؟

قراءة عجولة في قصيدة الشاعرة نعيمة عمر آل قطعاني 

كثيرة هي القصائد التي كتبت تتغنى بالأم، نصادفها في مناهجنا التعليمية، ونحفظها ونرددها، ونكبر لنقرأ قصائد من كل العصور محورها الأم.

في عام 2010م، شاركت الشاعرة نعيمة في أمسية شعرية على مسرح دار الكتاب في مدينة الزاوية على هامش مؤتمر المرأة، وصعدت نعيمة على خشبة المسرح وبشجو ألقت قصيدتها ولكن مع دفء الإلقاء كان ثمة توهج وقوة تنبض، وحين عودتنا لمدينة طرابلس دسّت في يدي ورقة وقالت: هذه القصيدة اللي كتبتها على أمي عالية (الله يرحمها)، ولم أر هذه القصيدة في صفحتها، ولم تعد تشير إليها، ولكنها تطالعني كلما بحثت في أوراقي، فأعيد قراءتها وأتذكرها (الشاعرة) وهي بشجوٍ وعنفوان تلقي قصيدتها:

أمي

أين تغيبين؟

سؤال بسيط، لكن الاستفهام هنا انكاري (استنكار ي)؛ أين تغيبين؟!

وبين الأسى والاستنكار ثمة طفلة تقرفص في ركن قصي، تستذكر وجها هو كل الدنيا بالنسبة لها، لذا هي في استنكارها عتب لهذي الأم، وتساؤل محموم (وهل يُوارِى التراب شذي الزهرة)؟؟

والشعرية في أبسط تعريف لها: خلق صورة جديدة، وأظن أن الشاعرة نعيمة هنا فعلت هذا ببساطة تدفق مشاعرها الصادقة: وهل يُوَارِي التراب شذي الزهرة؟

التراب قادر أن يمحو الزهرة’ أن يخفيها تحته، وأن تتحلل إلى عناصر وتعود لأمها الأرض، ولكن (هل يستطيع هذا التراب وربما تلا لًا من تراب، هل تقدر على أن تواري (شذى الزهرة)! أيّ روح دافقة بالمحبة استطاعت أن تأتي بهذه الصورة؟

وهل يواري التراب شذي الزهور؟

هذه القراءة الثانية تأخذ منحى، أو تأتي بدلاله للاستفهام غير القراءة الأولى، فالاستفهام هنا ليس للإنكار فقط بل تضيف إليه التحقيق او التأكيد اليقيني، أن كل تراب الارض لو وضعوه على تلك الزهرة (الأم)، لن يستطيع أن يواري أو أن يخفى ذاك الأريج الذي يضم إليه بنتا لا تجد الأمان والحرية إلا في قلب تلك الأم.

أستطيع أن أُسمّي هذه القصيدة بقصيدة التساؤلات، فمنذ سطرها الأول تبدأ باستفهام عن المكان (أين تغيبين؟ …) وتجيب عن هذا السؤال بسؤال: وهل يواري التراب شذى الزهرة؟ لتواصل الشدو بنشيدها المضمخ بالأسى باستفهام / سؤال جديد: مَنْ سيدفئ ليلي الطويل؟

ولتجيب بسؤال عن سؤالها: أم تُراها غابت خراريفك الملونة؟

كان صوت تلك الأم يرحل بتلك البنت الصغيرة في سفينة الحلم، مدثرة بيقين الأمل، تعيش في تلك الحكايات الملونة، تركب سفينة السندباد وترتدي ثوب الأميرة وتنام وذاك الصوت الحنون يطل بوجه مليء بالوشوم، وهكذا تنام البنت وهي تبحث عن سر الوشم، وتواصل البحث عن سر وجودها؛ وتعود إلى سؤالها المحموم بالشجن:

أين تغيبين؟

ومن يدثر طفولتي

ويشعل ذاكرتي (بغناوي العَلَمْ)؟

ذات الشجون …

وكأن بين الأم والبنت سر من الحزن المكتوم، حيث ذاك الشطر الموسوم بأغنية العَلَمْ، يحكي توجع روح وأنين قلب، لذا تواصل تلك البنت استدار العطف في تساؤلاتها المتكررة، وأسئلتها المعذبة:

وكيف أنام في أرجوحة الشتاء وحدي؟!

ثمة استفهام وتعجب، وصورة مفعمة بالتألق (أرجوحة الشتاء) … ليس فصل شتاء، هو أرجوحة. حيث تتكئ تلك الصغيرة بدلال والأم تؤرجحها بحكايات تسافر بها إلى مدن عاشقة، الناس فيها سواسية، وكل حكايات العشق تنتهي بالبهجة، لذا سيكون هذا الاستفهام:

وكيف أنام ……؟!

لتواصل الركض في غابة الأسئلة التي لا تجد إجابة لها، او هي تعرف إجابتها، لكنها تواصل بعناد طفلة مدللة تكرارها:

لماذا ينضج العنب بعدك؟

هنا تتحول الأم من مجرد أم حنونة تملأ حياة الطفلة وجودا حقيقيا، إلى آلهة أو روح الطبيعة التي تلمس بأصابعها النبيلة جذور النباتات فتورق، والشاعرة هنا تختار (العنب)، وكأن خمر اً تنضح وتتدفق في كأسٍ تتقاسمه الأم والبنت، نخب الأنثى التي اختارت كينونتها ووشمت قلب البنت (بغناوة عَلَم) سرا مكنونا بينهما.

ويتواصل اندلاق الأسئلة، أسئلة تبحث عن إجابة تعرفها، لكن روح الطفلة تأبى الاعتراف بها، والملفت أن الطبيعة هنا حاضرة في مسميات النباتات التي تذكرها الشاعرة بحنين الطفلة: لماذا ينضج العنب بعدك؟

هي لا تعاتب الأم بل تعاتب شجرة العنب، كيف تمنح الألق لثمراتها وينتشر السكر في مذاقها، بينما تلك التي كانت تطوف مثل قديسة تحرس حرما قد غابت؟

لماذا …..  هو سؤال مجروح تنفثه روح بنت لا تتذوق خمر العنب إلاّ بذاك الحضور الوارف، حضور امرأة اختصرت معنى الحياة في حنانها:

ويَعِدُ الحبق بأزهاره البيض؟

لمن يتنهد النعناع في عشيات الصيف؟

أسئلة منهمرة مثل سيل، من طفلة لا تصدق هذا الغياب، لذا تتساءل: عن السر الذي يجعل العنب ينضج، وأزهار الحبق البيض تتفتح وتخبر بحكايا العشق وتعد باللقاء، وثالثة الأثافي هذا النعناع وأريجه الذي يعبق فيغدو المساء إشارة استفهام تبحث في (غناوة علم) عن عاشق يتنهد، تلك البنت لا تصدق أن كل هذا يحدث وهي الأم / الأرض، تغيب؟

لكنها في لحظة سهوٍ تصدق هذا الغياب، وكأنها تعتذر بالنيابة عن العنب الذي ينضج وازهار الحبق وتنهد النعناع:

قَدْ لفّنا الحزن

 أنا ومزروعاتك..

عالمك الأخضر البديع..

شجيرات الفلفل

وعطر الفيجل.. شقيق روحك..

إذا هذه الطفلة تحاول الاعتذار لهذه الأم، هل تظنين أن ثمة فرح بعد غيابك، هذه أنا يا أمي مسكونة بالحزن وحتى ما زرعت يداك، وتظل تسمي هذه النباتات الأثيرة (شجيرات الفلفل) و(عطر الفيجل)، هذه النبتة التي لها قداسة في المأثور الشعبي الليبي، لتفيض من جديد بأسئلتها، أسئلة تعمّق بها صورة الأم / الآلهة، هذه التي تفيض على الكائنات بالحنو والعطاء:

مَنْ سينثر الحَبَّ للطيور

ويسقي القطط (إخوتي الملونين)

 والشاعرة هنا لا تضع علامة الاستفهام أو التعجب، كأن هذا الفعل طبيعي، لذا القطط (إخوتي الملونين) إشارة لتماهي هذي الطفلة مع كل دالاّت الأم، هذه الأم التي وحدها تمنح الطفلة يقين الوجود. وتواصل الشاعرة شجوها وشدوها:

أمي يا أسطورتي العذبة

أين تذهبين

أشمُّ رائحة خبزك

وتنورك وهجٌ يشعل

الذاكرة بالحنين.

دون استفهام وتعجب، لأن يقين الغياب تأكد، تواصل الحديث لهذي الحاضرة في غيابها: أمي يا أسطورتي العذبة..

الأسطورة عادة تشي بالفخامة، لكن هنا ثمة صفة العذوبة تجعلها هذي البنت صنوا لهذي الأم / الأسطورة ويأتي الاستفهام _ اليقين: أين تذهبين..

لا تستنكر ولا تستفهم، هي تيقنت ولكن هي تلك البنت التي تعودت دفء الحضور وحنو الفخامة، وهذا الشعور الحقيقي بوجود متحقق رغم الغياب:

أين تذهبين

أشم رائحة خبزك

وتنورك وهجٌ

يشعل الذاكرة بالحنين …..

ليلة 3 فبراير 2022م

الساعة 1:29

مقالات ذات علاقة

دفقات شعرية

ناصر سالم المقرحي

عن التجديد في شعر أُمَيْلَة النيهوم، أقول: حنين البهجة شعر.. أنين اللهفة لمعانُهُ..

نورالدين سعيد

النفيس للأستاذ خليفة التليسي

محمد خليل الزروق

اترك تعليق