كتبت هذا البحث منذ سنوات استجابة لطلب بعض المشرفين على ندوة للاحتفال بالأستاذ خليفة التِّلِّيسي بمناسبة صدور كتابه النفيس، أقيمت في بنغازي سنة 2002، فلم يُقبل لأن يُلقى في الندوة، ووعدوا أن يُنشَر في الكتاب الجامع أوراق الندوة، ثم لم يُقبل لأن يجعل في هذا الكتاب أيضًا. ومن فضل الله أنه نشر بعد ذلك ثلاث مرات: في مجلة “جذور” الصادرة عن النادي الأدبي الثقافي بجدة سنة 2003، ثم في مجلة “رحاب المعرفة” الصادرة بتونس سنة 2006، ثم في “مجلة كلية الدعوة الإسلامية” الصادرة في طرابلس سنة 2008. والحمد لله رب العالمين.
* * *
* الصحاح
وضع الجوهري، أبو نصر، إسماعيل بن حَمَّاد، المتوفى في حدود الأربعمائة – كتابه: تاج اللغة، وصِحَاح العربية، الشهير بالصِّحَاح، فكان فتحاً في تأليف المعجمات، بصغر حجمه إذا ما قيس إلى ما سبقه، والتزامه الصحيح، وتيسيره ووضوحه، وسهولة طريقته، إذ بناه على الحرف الأخير من المادة، وهي طريقة لم يَسبق إليها معجم له شهرته وصحته وقبول الناس له، حتى فخر هو بذلك في مقدمته، فقال:”أما بعد، فإني قد أودعت هذا الكتاب ما صحّ عندي من هذه اللغة التي شرّف الله منزلتها، وجعل علم الدين والدنيا منوطاً بمعرفتها، على ترتيب لم أُسبق إليه، وتهذيب لم أُغلب عليه”. ( الصحاح 1/33. وانظر مناقشة ناشره لمن نَسب السبق في هذا إلى غير الجوهري، في مقدمة الجزء الأول منه ).
واتخاذه الحرف الأخير باباً مردّه إلى أن فاء الكلمة وعينها تتقدمها حروف الزيادة، نحو: أَفْعَلَ، وانفعل، واستفعل، وتفاعل، واللام لا يتأخر بعدها شيء، إلاَّ أن يكون تضعيفاً من جنسها ( انظر مقدمة الصحاح 122 ) فالبناء على اللام إذاً أسهل في البحث.
ولم يخل الصِّحَاح من مؤاخذات أخذت عليه، كما لا يخلو عمل إنساني منها، وأشهرها ما فيه من تصحيف، حتى عقد السيوطي في مزهره له فصلاً قال فيه: ” ذِكْر ما أُخذ على صاحب الصحاح من التصحيف ” ( المزهر 2/196، وانظر: المعجم العربي لحسين نصار 2/393 )، ثم ما فاته من الصحيح، وقد أُلِّفت كتب في تكملته والاستدراك عليه.
* القاموس
وجاء الفيروزباذي، أبو طاهر، محمد بن يعقوب، المتوفى سنة 817 أو 816، فألّف معجمه القاموس المحيط، وأراد به مضاهاة الصحاح، ونسْخ شهرته، وقال في مقدمته: ” ولما رأيت إقبال الناس على صحاح الجوهري – وهو جدير بذلك، غير أنه فاته نصف اللغة أو أكثر، إما بإهمال المادة، أو بترك المعاني الغريبة النادّة – أردت أن يظهر للناظر بادئ بدء فضل كتابي هذا عليه، فكتبت بالحمرة المادة المهملة لديه، وفي سائر التراكيب تتضح المزية بالتوجه إليه، ولم أذكر ذلك إشاعةً للمفاخر، بل إذاعةً لقول الشاعر: كم ترك الأول للآخر… ثم إني نبّهت فيه على أشياء ركب فيها الجوهري – رحمه الله – خلاف الصواب، غير طاعن فيه، ولا قاصد تنديداً له، وإزراءً عليه، وغضّاً منه، بل استيضاحاً للصواب، واسترباحاً للثواب… واختصصت كتاب الجوهري من بين الكتب اللغوية، مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة، والأغلاط الفاضحة، لتداوله واشتهاره بخصوصه، واعتماد المدرِّسين على نقوله ونصوصه ” ( القاموس 1/3 – 4 )
وقد اشتهر كتاب القاموس حقّاً، وصار مرجعاً متداولاً، حتى إنه في العصر الأخير أُطلق اسم القاموس على كل معجم، وقال فيه القائل ( هذا الشعر في شرح الشيخ نصر الهوريني لديباجة القاموس المنشور في أوله، ص33 ـ 34 ):
مذ مدّ مـجد الدين في أيامه.. من بعض أبحر علمه القاموسا
ذهبت صحاح الجوهري كأنها .. سحر المدائن حين ألقى موسى
وردَّ عليه الآخر بقوله:
من قال: قد بطلت صحاح الجوهري.. لَمَّا أتـى القاموس – فهو المفتري
قلت: اسمه القاموس، وهو البحر، إن.. يفخر فمعظم فخره بالجوهر(ي)
ولكنه بقيت للصحاح مزاياه التي ذُكرت ولم ينزل من مكانته التي وضعه العلماء فيها.
ولم يسلم القاموس أيضاً من النقد والمؤاخذة مع ما فيه من المزايا، فمن المزايا زيادة مواده وألفاظه على ما في الصحاح، وذلك راجع إلى أصليه الكبيرين: المحكم والعباب، وانتظام شرحه للمواد بغير تفريق ولا تكرار، إلاَّ ما قلّ، والإيجاز في العبارة، وحذف شواهد القرآن والأشعار والأخبار وأسماء اللغويين، إذ كان قصده الاختصار.
ومن المؤاخذات: غموض عبارته من شدة الإيجاز، وإدخاله في المعجم ما ليس من وظيفته من الأعلام وشؤون الطب والمصطلحات، وأنه لم يفرّق بين الحقيقة والمجاز، ولم يميّز القوي من الضعيف في كثير من الأحيان، وإدخال المولّد والأعجمي ( انظر: التاج 1/100، والجاسوس 80، و132 و309، والمعجم العربي 2/594 – 596، ودراسات في القاموس المحيط 313 ).
* التاج
ودارت حول القاموس مكتبة تشرح أو تنقد أو تستدرك، وكان أعظم كتاب اتصل بالقاموس شرحه للزبيدي، أبي الفيض، محمد مرتضى، المولود سنة 1145هـ، المتوفى سنة 1205هـ شهيداً بالطاعون، الواسطي العراقي أصلاً، الهندي مولداً، الزبيدي تعلّماً وشهرةً، المصري وفاةً، الحنفي مذهباً، الأشعري عقيدةً، كما كان يصف نفسه في كثير من إجازاته ( فهرس الفهارس والأثبات 1/527 )، إلاَّ الوفاة، فما تدري نفس بأي أرض تموت.
ابتدأ تأليفه حوالي سنة 1174، بعد قدومه إلى مصر بسبعة أعوام، وسنّه إذ ذاك تسعة وعشرون عاماً، وأكمله سنة 1188، وقضى في تأليف جزئه الأول ستة أعوام وبضعة أشهر، وصنع طعاماً بعد إكماله هذا الجزء، وجمع طلاّب العلم، وشيوخ الوقت، وذلك في سنة 1181، وأطلعهم عليه، فاغتبطوا به، وشهدوا بسعة اطلاعه، وكتبوا عليه تقاريظهم نثراً ونظماً، وأكمل الأجزاء التسعة الباقية في سبعة أعوام وبضعة أشهر، فالجزء الأول منه ألّفه في شطر زمن تأليف الكتاب كله، ومكث في تأليف الكتاب أربعة عشر عاماً. وطلب الملوك وواقفو خزائن الكتب تحصيله، وبذلوا فيه الأموال ( تاريخ الجبرتي 4/142، ومقدمة عبدالستار فرّاج للطبعة الكويتية من التاج ).
وطُبع من التاج أولاً خمسة أجزاء بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1287هـ، ولم تكمله، ثم طُبع كاملاً في المطبعة الخيرية في عشرة أجزاء سنة 1307هـ.
وعنها ظهرت مصورة دار ليبيا للنشر والتوزيع في بنغازي سنة 1386هـ = 1966م. ثم تولّت وزارة الإرشاد في الكويت إخراجه في طبعة محقّقة تحقيقاً حديثاً أشرف عليها الأستاذ عبدالستار فرّاج، ثم آل الأمر إلى الأستاذ مصطفى حجازي ( معجم المطبوعات العربية 2/1727، وتاريخ نشر التراث للطناحي 44 و157 و170، والكتاب المطبوع بمصر في القرن التاسع عشر للطناجي أيضاً 88 و94). واحتُفل منذ سنوات بإكماله في أربعين جزءاً. وكانت مدة نشره سبعة أو ثمانية وثلاثين عاماً، من سنة 1385 إلى سنة 1423هـ، أي من سنة 1965 إلى سنة 2002م. ( نقد هذه الطبعة الأستاذ حمد الجاسر في مجلة العرب في سلسلة مقالات طويلة، ابتدأت في الجزء الخامس من السنة الخامسة سنة 1390هـ = 1971م، وأكثر ما عني به المواضع والأنساب؛ إذ كان متخصصاً فيهما).
ومزيّة التاج في المعجمات سعته، فهو أكبر معجم عربي، واستفادته من مراجع كثيرة سبقته من المعجمات وغيرها من كتب فروع التراث، وأنه سدّ ما في القاموس من خلل، وقوّم ما فيه من اعوجاج، فأضاف إليه كثيراً من المواد والصيغ والمعاني، في أصل المادة، وفي المستدرك الذي يجعله في آخرها، وبيـّن المصادر التي أخذ منها القاموس، وذكر الروايات المخالفة، وخلافات اللغويين، ووضح وكمّل، وأتى بالشواهد، وذكر اختلاف نسخ القاموس، ونسخ أصوله، وفيه زيادات واسعة من الضبط ليست في أصله. ونقد مادته، وتتبع منهجه وبيّن اختلاله في أحيان، وانتصر للجوهري حين رأى الحق معه، وتتبع تصحيف القاموس وخطأه واضطرابه في التفسير، وعني بالتنبيه على المجاز، وعلى أصول معاني المواد ومقاييسها.
وعيب التاج ما انتقل إليه من القاموس من أجل محافظته على عبارته من الفوائد الطبية والأعلام والمصطلحات، وهذه كلها ليست من مادة المعجم، وفقد الترابط في سياقه في بعض المواضع من أجل التزامه أيضاً بلفظ القاموس، ومن أجل تفريقه استدراكه عليه بين أوساط المواد وخواتيمها، وأنه لم يطلع على بعض المعجمات ومنها البارع لأبي علي القالي، وأنه أهمل ألفاظاً قليلة في اللسان، وألفاظاً أتى بها في شروحه ( انظر في مزايا التاج وعيوبه المعجم العربي 2/528 – 540. وأشار إلى أن له مقالاً في مجلة مجمع اللغة العربية بعنوان: فائت التاج ).
ويُضَمُّ إلى ذلك أن الزبيدي عوّل على الجمع، ولم يُعنَ كثيراً بالتحقيق، ونقل عن مخطوطات بعضها غير متقن، فوقع في أخطاء كثيرة ( مجلة العرب، السنة الخامسة 5/480 )، وأن مراجعه لم تكن حاضرة بين يديه في كل المدة الطويلة التي ألّف فيها الكتاب، فكان يرجع إلى نسخ مختلفة بعضها غير تام.
ولكنه بقي أوعبَ المعجمات، وجمهرةَ علومٍ واسعة من التراث العربي العريض.
* النفيس
1 – وأراد الأستاذ خليفة محمد التليسي الاكتفاء من التاج بالمتن اللغوي، وفَصْل هذا المتن عما في التاج من أمور خارجة عنه، فوضع كتابه الموسوم بالنفيس من كنوز القواميس، وبناه على الحرف الأول من المادة.
ولكنه لم يرتبه ترتيباً حديثاً يسهّل مراجعته، ويجنبه التفريق والتكرار، كما رُتِّب المعجم الوسيط مثلاً الذي أخرجه مجمع اللغة العربية القاهري، فكان على نظام خاص، إذ قدّم فيه الأفعال على الأسماء، والمجرد على المزيد، واللازم على المتعدي، والثلاثي على الرباعي، والمعنى الحسّي على المعنى العقلي، والمعنى الحقيقي على المعنى المجازي، وكذا صنع في معجم ألفاظ القرآن الكريم. وذكر الأستاذ التليسي أنه كان في نيته أن يبوّب مادة التاج ويرتبها، وأنه قطع في ذلك شوطاً قصيراً، وأنه أدرك من بعد أنه جهد لا طائل وراءه، وأن الأجدى إخراج المادة اللغوية كما هي. والحقّ أن هذا الترتيب مفيد جدّاً؛ لأنه يسهّل الوصول إلى المقصود، ويجنب المعجم تشتيت المادة وتشعيثها والتكرار فيها، وصار منهجاً في صناعة المعجم معروفاً لا غنى عنه، وله قواعد وفروع وتفصيلات وخصائص تناسب الحجم والمؤلَّف لهم المعجم، يطول شرحها. وهو عمل يحتاج جهداً كبيراً وصبراً موصولاً مرهقاً. ولذلك أحسب أن الأستاذ لم يصب الحق حين قال: إن النتائج التي انتهى إليها في عمله لا تختلف عن النتائج التي انتهى إليها مؤلفو المعجمات في مطلع النهضة الحديثة وما تلاها إلى اليوم. ذلك أن المعجمات الحديثة قامت على تبويب المادة وترتيبها ترتيباً حديثاً، مع التهذيب والاختصار، وهو قد اقتصر على التهذيب والاختصار.
2 – من من أجل ذلك جاء عمل الأستاذ التليسي هذا مقصراً عن أن ينفع المتخصصين؛ لأن لهم غِنىً بالأصل، ومن الذي يترك الأصل إلى الفرع، إلاَّ إذا كان في الفرع زيادة ؟ وإن الباحث الجادّ ليستغني عن كتاب لسان العرب إلاَّ في التثبُّت والمراجعة واحتمال اختلاف النسخ بعد أن ظهرت أصوله كلها، وهن: التهذيب والمحكم والصحاح وحواشي ابن بري عليه والنهاية، ولم يبقَ إلاَّ بعض حواشي ابن بري. وجاء عمل الأستاذ التليسي أيضاً مقصّراً عن أن ينفع غير المتخصصين؛ لأنه كبير في حجمه، ثقيل في وزنه، غالٍ في ثمنه، والمعهود في الكتب الموضوعة لعامة المثقفين صغر الحجم، وخفة المحمل، وقلة الثمن، حتى تسهل مراجعتها، ويخف حملها، ويتيسّر اقتناؤها، وماذا يصنع غير المتخصص بكتاب ذي أربعة مجلدات، فاخرة التجليد، مصقولة الورق، إلاَّ أن تكون زينة في المكتبة، وتحفة في البيت، كما يفعله كثير من الناس ؟
وهذا ذكّرني بما أخذه الأستاذ حمد الجاسر على عمل وزارة الإرشاد الكويتية في التاج؛ إذ رأى أن الأَوْلى أن تتجه الهمم إلى المخطوطات التي لم تُنشر ولم تتيسّر للمطالعين ويُخشى عليها التلف والضياع، وتزيد إلى علمنا أشياء جديدة، ونصوصاً غائبة، أما بذل المال الكثير، والجهد الكبير، والزمن الطويل في كتاب هو في أيدي الناس، وليس مُعدّاً للمطالعة الكثيرة، ولكن للمراجعة، والاستفتاء في الحين بعد الحين، فهذا عمل فيما رأى كان غيره أَوْلى منه ( مجلة العرب، س5، 5/479 ).
قد يكون هذا عملاً شخصيّاً ينفع مؤلفه، ويزيد معرفته باللغة، ويوثـّق صلته بالتراث، كما ذكر ذلك وكرره في المقدمات مرات. ومن ذلك عبارة وقفت عندها، وهي قوله: إن هذا العمل لو لم يكن إلاَّ شاهداً له بأنه قرأ تاج العروس من الغلاف إلى الغلاف، لكفى ذلك فخراً واعتزازاً وشهادة على عظم صلته بالتراث العربي العظيم. وهذا غرض فيما بدا لي بمعزل عن مجد اللغة العربية وخدمتها كما عبر الأستاذ في وصفه لغاية من غايات العمل.
3 – ولم يذكر لنا الأستاذ التليسي منهجه واضحاً في حذف ما حذفه واستغنى عنه من متن اللغة، إلاَّ كلاماً قال فيه: إنه أهمل ما أهملته الجماعة من ميّت الألفاظ ومهجورها. ولكن الموت والهجر يختلفان باختلاف الأعصار والأمصار وطبقات الناس. فإن كان كتابه يُعنى بطرائق أهل هذا العصر في التعبير، وحدود معجمه في الاستعمال، فذاك شأنه له منهجه، وتلك غاية لها سبيلها. وإن كان يُعنى بتفسير لغة العرب على مرّ العصور والدهور، وفي ألسنة أكابر الشعراء والكتـّاب، وأفواه عامة الناس، وسواد الخلق، فذاك أيضاً شأن له منهجه، وتلك غاية لها سبيلها. ولكنه لم يبيّن لنا شيئاً من ذلك، ولم يدلّنا على الميزان الذي وزن به الألفاظ والصيغ والاستعمالات، حتى نفى منها ما نفى، وأبقى ما أبقى، وقد ذكر في مقدمته أن غايته في الكتاب وضع المادة اللغوية خالصة أمام الدارسين، وهو قد حذف أشياء تفيد الدارسين في تفسير بيت جاهلي، أو حديث نبوي، أو مثل قديم، أو استعمال هجره الناس في أيامنا هذه. ويتصل بهذا أنه لم يبيّن لنا منهجه في إيراد الشواهد الشعرية، فقد رأيته يذكر بعضها، ويحذف بعضها، ولم أتبيّن الفرق بين ما ذكر وما حذف. ولم يذكر لنا أيضاً منهجه في رجوعه إلى المصادر الأخرى، وقد تبيّنت أنه اعتمد على اللسان فيما يشكل من ألفاظ التاج، وأكبر ظنّي أنه استعان ببعض أجزاء من الطبعة الكويتية للتاج؛ لأنه صحّح ألفاظاً كما صححتها تلك الطبعة. ولم أرَ فيه زيادة على ما في التاج.
4 – وقد رأيته في عمله حذف الضبط اللفظي بالنظائر في الأفعال والأسماء، من نحو قوله: من باب ضرب أو نصر، أو هذا اللفظ مثل سبب أو عنب، واكتفى بضبط القلم. وضبط القلم لا يسلم من سهو النقل، وأخطاء الطباعة، مع أن فيه تقصيراً؛ إذ المراد من تمثيل الفعل بفعل آخر الدلالة على حركة عين الماضي وعين المضارع، والأستاذ يذكر الماضي ويضبطه وحده ويُغفل المضارع. وسأذكر الأمثلة في هذا وما يأتي بعده من مادة واحدة، هي مادة ( ع ر ب ). وذلك مثل: عَرِب كفرح، إذا نَشِط، وعَرَب كضرب، بمعنى أكل، فقد حذف الفعلين الممثل بهما، ففاتت معرفة عين المضارع. ومثال التقصير في الأسماء أنه ذكر العُرْب، وهو الجيل المعروف من الناس، بضم فسكون، بضبط القلم، وفي الأصل أنه قُفْل وجَبَل، فليس في كتاب الأستاذ التليسي عَرَب كجبل في أول المادة حيث يشرح اللفظ ويُذكر ضبطه. ويحذف في أحيان الضبط بالحرف فيقصّر أيضاً. ومن ذلك أنه ذكر أن جمع عَرُوب – وهي المرأة المتحببة إلى زوجها – عُرُب، وفي الأصل أنه بضم فسكون وبضمتين.
5 ـ وقد وجدته يحذف من التقييد والإيضاح والألفاظ ما لا يُستغنى عنه، وما لا يتضح وجه حذفه. ومن ذلك أن العَرَب الماء الكثير الصافي، وتكسر راؤه، فحذف زيادة: وهو الأكثر، أي كسر الراء، وحذف أنه يسمى العُرْبُب كقنفذ. ومن ذلك أنه قال: عَروبة: يوم الجمعة، يوم العروبة، هكذا بلا إيضاح، وفي الأصل: عروبة بلا لام، وباللام، كلتاهما ليوم الجمعة، وفي الصحاح: يوم العروبة، بالإضافة، فبيّن أنه يكون بغير إضافة، وتدخله اللام، وتفارقه، ويكون بالإضافة أيضاً، أما نص النفيس فلا يدل إلاَّ على أنه في غير الإضافة يكون بغير اللام. وحذف: عَرِب الرجل: أُتْخِم، وعَرِبت معدته: فسدت، ولم أدرِ وجه حذف هذا. وذكر قولهم: ما بالدار عريب ومُعْرِب، وحذف أنه لا يقال إلاَّ في النفي، وهذا قيد لا غنى عنه.
6 – ووجدت الاختصار فيه في أحيان يضيّع المقصود، أو يُخلّ بالسياق. نحو أنه حذف في المادة التي معنا قوله: قال أبو زيد الأنصاري، ثم أثبت لفظ: قال، بعد قليل، والمقصود أبو زيد. ومن ذلك أنه قال: والإعراب كالعِرابة: الجماع، والإعراب عند الأزواج، وهو ما يُستفحش من ألفاظ النكاح والجماع. وفي الأصل: والإعراب كالعرابة: الجماع، قال رؤبة يصف نساءً جمعن العفافَ عند الغرباء، والإعرابَ عند الأزواج، وهو ما يُستفحش من ألفاظ النكاح والجماع. فذكر قوله: والإعراب عند الأزواج، على أنه مبتدأ، وهو معطوف في سياق الأصل على لفظ العفاف، ولا معنى له في سياق النفيس لأن فيه تكراراً، وقد وضّح ذلك العطف في قوله: وهو.
7 – ومن عيب النفيس أنه يكرر عبارات مشياً وراء الأصل، وعذر صاحب التاج أنه ينقل عن مراجع مختلفة، ويذكر الشروح في أكثر من سياق، ويعيد ما ذكره في الشرح في المستدرك على القاموس، ليبيّن ما فاته وإن سبق ذكره في الشرح. ومن أقل القليل في حسن الاختصار تجنب التكرار. ومثال ذلك أنه كرر لفظ: أعرب بحجته؛ أي أفصح بها ولم يتّق أحداً. ولفظ: تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها، هذا مع أن التاج قال فيه: وقد ذكرناه.
8 – ووجدته التزم في الغالب حذف الأحاديث النبوية، مع أن حذفها ربما فوّت عليه فوائد. ومن ذلك أنه حذف حديث: فاقْدُروا قَدْرَ الجارية العَرِبة، ففاته لفظ العَرِبة مثل فَرِحة، وهي الحريصة على اللهو. وحذف حديث: الثيب تعرِّب عن نفسها، في رواية، وهو وإن ذكر عرّب الكلام تعريباً، بمعنى بيّنه، وعرّب عنه لسانه – قد فاته هذا الأسلوب، وهو عرّب عن نفسه، ووجدته في أحيان يذكر اللفظ الشاهد من الحديث، ولا يشير إلى أنه حديث، فقد أخلى كتابه من قوله: في الحديث، أو جاء في الحديث، فلا يعرف القارئ حقيقة العبارة المحصورة بين قوسين. هذا ولفظ حديث عندهم في أحيان يشمل أقوال الصحابة والتابعين، بل أقوال المشركين وغيرهم إذا كان في الحديث قصة أو حوار. وقد ذكر في المقدمة أنه حافظ محافظة صارمة على تفسير ألفاظ القرآن الكريم لتمكين الراغبين في فهم المصطلح الإسلامي من الرجوع إليه. أقول: وألفاظ الحديث النبوي أيضاً من ذلك.
9 – ووجدت فيه أخطاء لم أدرِ أترجع إلى الطباعة أم إلى النقل، وكتابُ لغةٍ كهذا يكثر فيه الضبط وتتشابه الألفاظ والصيغ وتتزاحم – كان يحتاج مزيداً من التصحيح والعناية والتتبّع، بل مزيداً من السعة في الطباعة، إذ رأيت المادة مرسلة بغير تفصيل في الفقرات يميّز المعاني، ويبيّن سياق الكلام، وتغيّر الأغراض. ومن قصور الطباعة أنها لم تظهر المدة على الألف، فالتبست بعض الألفاظ مثل: هيآتهم. ومن أخطاء الطباعة أو النقل: تزوج بالعروب، اسم للمرأة المتحجبة إلى زوجها، والصواب: المتحببة. ومنها: فأما العروب فجمع عروب، والصواب فأما العُرُب فجمع عريب. ومنها: والتعريب تمريض العَرَب، ضبطه بفتحتين، والأصل: تمريض العَرِب كفَرِح. وبعض الأخطاء في التاج ينتقل إلى النفيس، نحو: تعريب الاسم الأعجمي أن يتفوه به العرب على منهاجها، وأعربته العرب وعرّبته إذا تفوه به العرب على منهاجها، وذلك في موضعين، وهو بيّن الخطأ؛ لأنه أنـّث الضمير في منهاجها، فحقه أن يؤنث الفعل في تتفوه وتفوهت، وقد جاء في أول المادة أن لفظ العرب مؤنث.
10 – ولم يكن من المناسب أن تخلو مقدمة الكتاب من أن يطلب واضعه من أهل العلم أن يسدّدوه، وأن يهدوا إليه ما قد يكون قصّر فيه، أو غَفَل عنه، وأن يرشدوه إلى ما يرونه سبيلاً إلى الارتقاء بالعمل، والتقدم به إلى الإحسان والإتقان، فما يخلو عمل من تقصير، ومواضع تقتحمها العين. أو تَنِدّ عن الخاطر، خاصة في عمل كبير الحجم، هو معجم يُراد له أن يحوي صفوة المتن اللغوي. وجعل الأستاذ مكان ذلك أن وصف عمله بأنه لو قامت به مؤسسة رسمية لأنفقت عليه الآلاف ولأسست له اللجان. أقول: المعهود أن تؤسس اللجان، وتقوم المؤسسات، على تأليف أو تحقيق، لا على اختصار كتاب.
والله أعلم بالصواب.
________________________________
المراجع:
• تاج العروس، من جواهر القاموس، لمحمد بن محمد الزَّبيدي (1205هـ)، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1307هـ. وطبعة وزارة الإرشاد، تحقيق جماعة، بدءاً من 1385هـ/1965م.
• تاج الْجَبَرْتي = عجائب الآثار، في التراجم والأخبار، لعبدالرحمن بن حسن الجَبَرْتي (1237هـ)، تحقيق جماعة، لجنة البيان العربي، القاهرة، 1965م.
• تاريخ نشر التراث (مدخل إلى)، لمحمود الطناجي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1405هـ/1984م.
• الجاسوس، على القاموس، لأحمد فارس الشدياق (1304هـ)، مطبعة الجوائب، القسطنطينية، 1299هـ.
• دراسات في القاموس المحيط، لمحمد مصطفى رضوان، الجامعة الليبية، بنغازي. 1393هـ/1973م.
• الصحاح، لإسماعيل بن حماد الجوهري (حدود الأربعمائة)، تحقيق أحمد عبدالغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، 1407هـ/1987م.
• فهرس الفهارس والأثبات، ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، لعبد الحي بن عبدالكبير الكتاني (1382هـ)، بعناية إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1402هـ/1982م.
• القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروزباذي (817 أو 816هـ)، بولاق، القاهرة، 1289هـ.
• الكتاب المطبوع بمصر في القرن التاسع عشر، لمحمود الطناحي، دار الهلال، القاهرة، 416هـ/1996م. ضمن سلسلة كتاب الهلال.
• مجلة العرب، صاحبها حمد الجاسر.
• المزهر، لعبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، (911هـ)، تحقيق جماعة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1361هـ.
• المعجم العربي، نشأته وتطوره، لحسين نصار، دار مصر، القاهرة، ط2، 1968م.
• معجم المطبوعات العربية والمعرّبة، ليوسف سركيس، مطبعة سركيس، القاهرة، 1346هـ/1928م.
• مقدمة الصحاح، لأحمد عبدالغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، 1407هـ/ 1928م.
• النفيس، من كنوز القواميس، لخليفة محمد التلّيسي، الدار العربية للكتاب، طرابلس / تونس، 2001م.