بعد غيبة طويلة فكرت أن أذهب الى أبعد مركز أمنيّ ترابيّ حتّى أسجّل بلاغا حول غيابك المفاجئ عن بيتي، عن فراشي، عن شارع “الحبّ” الذي كنت أراك تسكن فيه كما تسكن تلك الأحلام الجميلة في ذلك العشّ؛ لم أسأل نفسي: لماذا اختارت تلك الحمامة البريّة تلك الشّجرة بالذّات؛ لماذا وضعت فراخها فوق تلك الشّجرة بالذّات دون غيرها من الأشجار؛ ترى من أعطاها الأمر بذلك؟ لماذا لم ترفض ذلك؟ لماذا استجابت إلى النّداء بسرعة قياسيّة؟ فجأة دون مبرّر مقنع لم أعد أراك من أعلى شرفتي؛ لم أعد أرى تلك الشّجرة العالية؛ لم أعد أرى الحمامة البريّة؛ بقي العشّ دون حمامة؛ دون حبّ ينتظر حمامة قمريّة أخرى تعطيه حبّا آخر.
لماذا تجاهلت علامة المرور “قف”؟ ألم تكن تلك العلامة وهي أمام بيتي العتيق ناصعة البياض؟ لا أعرف كم من شخص وقف احتراما لتلك العلامة؟ لا أعرف من اختار أن يضعها أمام بيتي أو أمام قدري؟ هي من حسن الحظّ وقد كتب عليها بخطّ غليظ “قف” تبدو علامة مميّزة في الطّريق وقد هجره المارّة بسبب الازدحام الكبير خاصّة في أوقات الذّروة؛ هي علامة مميّزة لأنّها تنبّهك إلى خطورة الحبّ في أوقات الذّروة؛ تحمل تلك العلامة وسط العلامة عدّة أسرار؛ أعتقد أنّها تحمل تفاصيل حبّ غامض أو قد تدلّ على صاحبه من قريب أو من بعيد؛ وقد ارتحت إليها كثيرا؛ هي تحسّ كما أحسّ وتشعر أحيانا بما لا أشعر به؛ هي مع الوقت صارت صديقتي و صندوق أسراري؛ ربّما هي علامة على وجود أنثى من عدمها عاشقة تنتظر حبّا ما أو ربّما وضعتها الأقدار هنا كي تدلّ على أكثر من علامة استفهام في حياتي داخل حياتي؛ هي علامة وسط علامة أخرى تثير كلّ عاشق مجنون خرج إلى موعد وهميّ مع حبّ وهميّ.؛ هي تثيره لأنّها تدعوه إلى الوقوف أمام اسمها المكتوب بحبر صينيّ وقد نبت الرّبيع على قبرها بعد طول انتظار؛ وقد لا تثيره لأنّه اعتاد أن يشاهدها كلّ يوم في نفس المكان وفي نفس الزّمان؛ هي تتكلّم ولا تتكلّم؛ هي كانت تحبّ و لا تعترف بأنّها مازلت تحبّ؛ ربّما إلى اليّوم ترفض التّصريح بحبّها لأنّها تسكن في الطّريق العام…هي تكره من يمرّ أمامها مرور الكرام؛ هي تكره من يزورها كانّه يزور الأموات في القبور.
هو مع مرور الوقت خارج الوقت المحدّد إلى تلك المشاعر نسي اسمها كما نسي مكان إقامتها بين تلك القبور الغارقة في نوم عميق؛ هي علامة معتادة إلى درجة غير معتادة؛ فعلا في حياتي الخاصّة جدا هناك أكثر من علامة تفرض على مستعمل الطّريق السّريعة أمام بيتي التّوقّف أو ربّما الوقوف أمام تلك الذكرى وسط الذكرى إلى الأبد؛ نعم أنا أمام علامة مميّزة تنبّهني إلى خطورة الإفراط في السّرعة؛ لا بدّ من تحديد سقف السّرعة؛ عفوا لا بدّ من تحديد سقف السّرعة داخل السّرعة القصوى في “شارع الحبّ” يتخلّله أكثر من حبّ من نظرة واحدة؛ شدّتني تلك العلامة و هي واقفة إلى الأبد كأنّها تنصح كلّ عاشق وقف إجلالا لها إلى الأبد أو وقف أثناء عودته من تلك الذكرى خائبا إلى الأبد… لا يجب عليك أن تتجاوز السّرعة المسموح بها وهي نظرة واحدة أو نظرتين في أقصى الحالات؛ هي تدعوك بحزم وعزم؛ انتبه إلى ذلك الاسم المعرفة وسط تلك الأسماء النّكرة أو المهجورة في تلك المقبرة المهجورة؛ لا يكفي أن تقرأ على اسمها أو قبرها سورة الفاتحة مرّة واحدة؛ لا يكفي أن تغرس فوق قبرها دمعة أو زهرة ثمّ تتخلّى عنها إلى الأبد؛ نعم لا يكفي أن تقرأ على قبرها دعاء الميّت؛ لا يكفي ان تقول لها: السّلام عليكم أيّها النّائمون أنتم السّابقون ونحن اللاّحقون؛ كما تشير ذات العلامة في طريق حياتي أو حياتك إلى أنّ الاتّجاه إلى اليسار إجباريّ؛ رغم ذلك خرقت أيّها العابر بسيّارتك في طريق الحبّ العذريّ ما تشير إليه تلك العلامة العاديّة إلى درجة غير عاديّة…أنت خرقت قاعدة ضروريّة وهي مراعاة الأولويّة؛ من أعطاك الأولويّة في الطّريق وأنت تختار عمدا الطّريق الذي يفضي إلى بيتي مباشرة؟ من أعطاك الأولويّة في غياب الأولويّة في الحياة أو في الحبّ؟ لم تعد الأولويّة إلى اليمين تهمّني؛ أعتقد أنّك بعد مرور الوقت أصبحت عاشقا متشدّدا تحمل في ذهنك عدّة أفكار يساريّة؛ حتّى مشيتك على الأرض أو نظرتك إلى السّماء في “شارع الحبّ” دون تحقيق حبّ يذكر؛ يغلب عليها الاتّجاه نحو اليسار؛ وقد أسعدني هذا الاتّجاه الفكريّ اليساريّ لأنّه يقودك إلى بيتي مباشرة؛ وهو بيت يقع بعد ذلك الرّصيف إلى اليسار؛ وقرب تلك الشّجرة فيها عشّ إلى اليمين.
وهكذا بعد كلّ حبّ أو كلّ علامة تدلّ على الحبّ قادتني علامة “قف” في اليسار إلى عدّة علامات مميّزة في حياتي وسط حياتي؛ نعم قادتني دون أن أشعر إلى حوادث مميّزة عشتها قبلك؛ بعدك؛ معك؛ وقد تكرّرت حوادث الطّريق؛ عفوا حوادث الحبّ الخطيرة أمام بيتي؛ منها ما هو قاتل؛ نعم وقد مات عدد كبير من الضّحايا في ذلك المنعرج الدّورانيّ على اليسار يقودك إلى أفكار من اليسار؛ حيث يقع بيتي؛ حيث تقع أفكاري بين اليمين المتشدّد واليسار المتسامح.
فكّرت أن أسجّل أكثر من شكوى إلى النّيابة العموميّة حول ملابسات اختفائك أو هروبك أو عزوفك عن زيارتي إلى بيتي الواقع قرب شجرة العصافير؛ أنت خرجت دون إذن منّي، دون تفويض رسميّ، خرجت دون استئذان من قلبي؛ لماذا طرقت بابي بسرعة ثمّ اختفيت بسرعة؟ هو باب عتيق يدلّ على حبّ عتيق؛ يتضمّن الباب بقايا من فسيفساء عريقة تعود إلى العهد القديم؛ تدلّ بأشكالها وألوانها على مجد عربيّ قديم؛ يتضمّن الباب العتيق جنودا يرفعون السّلاح ضدّ كلّ من يفكّر أن يحتلّ بيتي؛ كيف استطعت أيّها الحبّ أن تخرج دون أن يراك هؤلاء الجنود؟ كيف اخترقت كلّ الحرّاس؟ يخترق الحبّ العتيق في قلبي كلّ الجنود؛ كلّ الحراس؛ كما يخترق أيضا كلّ السّلاح؛ صار الوضع بعد خروجك من حجرتي خارج السّيطرة؛ لا أستطيع معه تحقيق السّيطرة؛ حين خرجت لماذا لم تفكّر في العودة؟ وحين عدت لماذا قرّرت أن تخرج إلى الأبد؟ كأنّك تبحث عن حبّ أزليّ إلى الأبد؛ أنت خرجت عن بيتي؛ لم تتبن أفكاري وسط أفكاري؛ نعم خرجت عن قواعد المرور الصّارمة أمام بيتي؛ نعم خرجت عن قواعد العروض في أشعاري؛ لماذا اخترت البحر الطّويل؟ يا ليت شعري، أنت تركت القوافي دون أن تجد القوافي؛ تركت الأطلال دون أن تجد الأطلال.
أنت تركت دياري دون أن تجد دياري؛ أنت تركت فراشي دون حبّ يبحث عن تحقيق الحبّ؛ أنت تركت شجرة العصافير؛ أنت من أخذ العصا في؛ نعم أخذت بيتي…سيجارتي…مقلمتي… تركت حرّاسي يطاردون حرّاسي، نعم تركت جنودي يواجهون جنودي؟ اخترق جيش من الجنود قلعتي؛ لم يجدوا أمام أبوابي مقاومة تذكر؛ انسحب آخر جنديّ؛ ألقى سلاحه؛ استسلم؛ رفض أن يدافع عن قصري، فتح لهم أبواب قلعتي؛ أخذني فضولي كي أشاهد من بعيد ما حدث داخل أسواري؛ سألت أحد جنودك: كيف اخترقت الباب الحديديّ؟ لماذا كسّرت زجاج نافذتي في تلك الشّرفة التي تطلّ على تلك الذكرى داخل الذكرى؟ لماذا تركت فراشي يخاطب فراشي؟ لماذا تركتني دون غطاء أبحث عن غطاء؟ لماذا أعطيتني أحلاما وسط أحلام لا تدلّ على أحلامك في الصّباح؟ ليس من حقّك أن تقرّر متى يجب أن تخرج من حجرتي وسط أعماق حجرتي؟ متى يجب أن تخرج من أحلامي وسط أضغاث من أحلامي؟ متى يجب أن تخرج من فراشي وسط فراشي؟ من أعطاك الإذن بالخروج من ذلك القصر الجمهوريّ؟ دون سبب عدت ولم تعد. دون سبب واضح خرجت ولم تخرج دون سبب واضح تركتني….هجرتني؛ صرت أبحث عن سبب مقنع غير مقنع يدفعك إلى أن تغادر حديقة القصر الملكيّ؛ أنت غادرت دون إنذار مسبق بضرورة إخلاء البيت العتيق من الحبّ العتيق؛ أو إخلاء الفراش داخل فراشي من العطر الملوكيّ؛ لم أطالبك أبدا عن طريق عدل منفّذ بضرورة فسخ عقد الايجار أو عقد الاحتلال؛ أنت محتلّ مغتصب وأنا لم أرفض احتلالك أرضي رغم أنّ كلّ الشعوب المقهورة رفضت الاحتلال وقاومته؛ لم أرفض تلك النّوايا التّوسعيّة؛ أعرف أنّك توغّلت في فراشي شرقا وغربا؛ أعرف أنّك تجاهلت كلّ الحدود المرسومة بيننا حسب العادات والتّقاليد؛ أعرف ذلك ولكن أحاول أن أتجاهل ذلك الاحتلال؛ أعرف أنّك محتلّ خرق كلّ قرارات الأمم المتحدة؛ أنا باركت احتلالك لأرضي ثمّ بيتي؛ وأخيرا غرفة نومي؛ بالمقابل أنت من وعدني بتحقيق الحريّة والسّلام فوق أرضي؛ نعم وعدتني وأنت تقود السيّارة بسرعة جنونيّة دون أن تكترث إلى علامة “قف” في شارع العصافير بإرساء امبراطوريّة عظمى لها أطماع توسعيّة؛ لماذا هجرت العصافير بيتي؟ لم أعد أسمعها تغني بكلّ حريّة؛ هل أعلمتها بضرورة الانسحاب قبل ان تعلن قرار اندلاع الحرب؛ أو الدّخول في حرب طويلة وهميّة مع عدو وهميّ؛ لقد فهمت العصافير ضمنيّا أنّ من طلائع أهدافك احتلال كلّ أرض سكن فيها عاشق عذريّ؛ حدودها مترامية الأطراف شرقا إلى البحر وغربا إلى الصّحراء؛ تبدأ حدودها الوهميّة من الشّجرة في الجنوب وتنتهي إلى العشّ في الشّمال أمام بيتي العربيّ؛ ألا تنقصنا الحريّة؟ ألا ينقصنا الحبّ؟ ألم يكن العقد بيننا شفويّا؟ ألم يكن الوعد بالحبّ بيننا شفويّا؟ لا يهمّني ما تخلّد بذمّتك من أقساط ذلك الإيجار أو الاحتلال الوهميّ؛ نعم لم أطالبك بفسخ عقد كتبناه بحضور شاهدين: أنا وأنت؛ لم تعط تلك العصفورة حقّها في الحياة قبل أن تخرج من بيتي أو حياتي؛ لم تعلم صاحبة البيت أنّك ستخرج دون علمها أو استشارتها ان اقتضى الأمر ذلك؛ لقد تجاهلت حتّى مدّة إنذار بشهر من تاريخ الحبّ….لم يصلني إعلام بالحبّ أو بضرورة فسخ عقد الحبّ الشّفوي بيننا؛ انت اختارت موعد المغادرة أو موعد الحرب قبل تحديد موعد المغادرة أو موعد الحرب بشهر؛ وقد رفضت تلك المدّة كما رفضت موعد الحرب؛ ولكنّي في حياتي الوهميّة لم أرفض يوما موعدا مع حبّ وهميّ؛ لم أفكّر خلال تلك المدّة الوهميّة وهي مدّة قصيرة جدا في مدّة الحبّ وسط آخر حبّ وهي مدّة طويلة جدا؛ هل أصبح الحبّ أو أوّل حبّ داخل آخر حبّ وسط الحبّ الوهميّ يقترن بالاحتلال الوهميّ وسط الاحتلال الفعليّ؟ هل وراء كل حبّ قصير أطماع توسعيّة كبيرة على المدى البعيد؟ لماذا قرّرت أن تحتلّ أرضي في ساعة متأخرة من اللّيل؟ لماذا نفّذت الهجوم البريّ في ساعة متأخّرة قبل صعود النّشوة؟ لماذا نفّذت الهجوم الجويّ في ساعة مبكّرة بعد خروج الرّوح من الجسد؟ لماذا أغلق جنودك كلّ المنافذ البريّة والبحريّة التي تفضي إلى مملكتي؟ لماذا أعدموا جنودي؟ لماذا تفنّنوا في تعذيبي؟ لماذا لم يأخذوني رهينة بين يديك؟ لماذا أطلقوا سراحي بسرعة فائقة بعد انتهاء الغزو أو الاجتياح بساعة أو ساعتين من الحبّ أو العذاب؟ لماذا اعترفوا بأنّي أسيرة ولم يعترفوا بأنّي عاشقة رهينة؟ لماذا عاملوني معاملة الأسير ولم يعاملوني معاملة العشيق؟
حسب القانون الدّوليّ يطلق الأسير مباشرة بعد انتهاء العمليّات العسكريّة وحسب القانون القبليّ يحرم العاشق بعد التّغزّل بمعشوقته من دخول أرضها الخضراء إلى الأبد؛ بعد انتهاء الحرب أو نتائج الحبّ الكارثيّة من نظرة أو نظرتين تذكرت علامة “قف” قرب بيتي حيث شجرة العصافير؛ سألتها غاضبة عن قرارات اتّخذتها دولة الاحتلال في حقّي الشخصيّ؛ ومن أشدّ تلك القرارات الصّادرة ظلما عن الكيان المحتلّ لفراشي ظلما؛ ألا يتحقّق الحبّ مقابل السّلام فوق الأرض إلاّ بالاعتراف القسريّ بالحقوق التّاريخيّة النّاجمة عن تلك الأطماع التّوسعيّة فوق الارض؛ لابدّ من قبول سياسة الأمر الواقع؛ لا بدّ من الرّضوخ العلنيّ إلى قرارات العاشق المستعمر؛ كلّ العشّاق بعد تكريس منطق الاحتلال لأرضهم بالقوّة أصبحوا يعيشون في واقع الحال ضمن مستعمرات؛ نحن نعيش في أرض محتلّة؛ يقاس التّوسع في الحبّ غربا بين الشّفتين بالتّوسع في الاحتلال شرقا بين اليدين حتّى يستقرّ على النّهدين قرب ملتقى النهرين؛ مع ازدياد عدد المستعمرات وتكثّف حركة الاستيطان أو الهجرة الدّاخلية والخارجيّة نحو تلك المستعمرات الجديدة تعدّدت الحوافز والإغراءات أصبح الحبّ داخل أرض لا يسكنها إلاّ الحبّ يقاس في حياتي وخلال حياتي في تلك المستعمرات بحسب أيام الأسبوع والشّهر والسّنة؟ أنا أبحث عن حبّ غريب الأطوار؛ أنا ابحث عن منطق القوّة الاستعماريّة وراء كل حب استعماريّ استيطانيّ تشبّث فيه ذلك العاشق المستعمر بالتّوسّع في أرضي وانتهك حقوقي التّاريخية فوق تلك الارض؛ نعم فوق تلك الأزمنة؛ هذا الحبّ الاستيطانيّ يبتعد عن كلّ الأزمنة والأمكنة؛ أنا أرفض خروج العاشق المحتلّ من أرضي وبيتي وحياتي؛ أريدك ان تحتلّ فراشي؛ أرفض دخولك باسم الحماية المؤقتة؛ ارفض الاحتلال المؤقت كما ارفض المشاعر المؤقتّة؛ لم أطالبك وأنت فوق أرضي قرب عشّ العصافير بالحكم الذاتيّ؛ أين صنعت أسلحتك؟ اين أخذت حبّك؟ أين أخذت رهائنك؟ لماذا لم تأخذني رهينة؟ أين ذهبت دولة الاحتلال؟ لماذا لم ترفض تلك الشعوب المقهورة فوق أرضي الاحتلال؟ أين الحريّة التي وعدتني بها؟ أنا ارفض ما قاله شاهد العيان: أنت كائن محتلّ اغتصبت أرضي وعرضي.
أنا أعرف أنّك تملك كلّ أسلحة الدمار الشّامل؛ وقد استعملت كلّ الاسلحة الممنوعة على فراشي؛ أنت بسطت نفوذك على أرضي وقد هدّدتني بتلك الأسلحة الكيميائيّة والجرثوميّة؛ أعرف أنّ الحبّ سلاح نوويّ؛ أعرف أنّ دفاعاتي الأرضيّة مقارنة بما تملك من أسلحة متطوّرة كانت ضعيفة جدا وهي تستقبل بقوّة ضرباتك بقوّة؛ كما أنّ سلاح الطّيران الجويّ في قلعتي تقليديّ جدا لن يصمد طويلا أمام ضرباتك الجويّة المركّزة بدقّة وهي تستهدف مناطق حسّاسة من جسدي؛ مناطق بريّة مهمّة على حدود فراشي الأرضيّ؛ أنت باسم الحبّ استعملت كافّة الأسلحة؛ نعم جرّبت كلّ الأسلحة وانت تتوغّل في احتلال مملكتي الواقعة بين نهرين على مسافة قريبة من نهدين قرب نخلتين؛ استعملت كلّ بوارجك الحربيّة؛ استعملت كل فنون القتال في محاصرتي برّا وبحرا وجوّا ؛ دخلت فاتحا غازيا؛ انت باسم دولة الحبّ أو الحريّة المزعومة كرّست على أرضي دولة الاحتلال وقد توسّعت في ضمّ الأراضي الواقعة بين النّخلتين أو النّهدين شرقا وغربا؛ وقد غرست سيفك في الصّحراء بين هاتين المنطقتين الواقعتين بين ضفاف النّهرين؛ أنت من وضعت علامة “قف” في حياتي؛ أنت من رفعت أعلام النّصر بعد خسارتي فوق الأرض؛ بعد احتلالك قلبي؛ لم أعد أستطيع أن أرفض منطق القوّة؛ أنا بحاجة إلى قوّة خارقة تجبرني أن أعترف لك بالخسائر النّاجمة عن ذلك الاحتلال أو الغزو؛ لعلّ أكبر خسارة أنّي لم أجدك في أيّ مكان على أرضي وأنت تحتلّ كلّ أرضي؛ لعلّ أهمّ انتصار حقّقته أنّي أحبّك؛ أكره المسافة الفاصلة بيني وبينك؛ لم أعترف وأنت تبسط نفوذك على أرضي بما قالته وسائل الإعلام السمعيّة والبصريّة: هذا انتصار الهزيمة؛ لم أفكر أنّي انهزمت أمامك يوما؛ فكّرت فقط عندما تلتقي العين بالعين ويذوب الكتف في الكتف أنّي أحبّك وقد حققت انتصارا تاريخيّا.
بلاغ دعوتي في هذا المحضر الكتابيّ إلى جناب عدالتكم واضح جدا؛ أنا أتمسّك بحبّي؛ ليس من حقّك أن تغادر؛ ليس من حقّك تزييف الوقائع على الأرض؛ لن أسمح لك بذلك؛ لن أسمح لك أن تغادر فراشي قبل صعود النّشوة الأخيرة إلى تلك السّماء الأخيرة؛ صارت النّشوة بعد انتهاء النّشوة كأنّها طائر بريّ؛ كان العقد الشفويّ بيننا يشبه ذلك الزّواج العرفيّ بيننا؛ نعم كان الزّواج أو الاحتلال مفتوحا، لا يهمّني ما تخلّد بذمّتك من أقساط الإيجار، ما يهمّني كانت أقساط ذلك الحبّ الأثريّ؛ ألم تعجبك التّسهيلات في الدّفع: نظرة و ابتسامة فلقاء؛ ما يهمّني هو ما تخلّد أو ما تضخّم في قلبي من حبّ خرافيّ على طريقة الملوك؛ يتربّعون على العرش؛ ويرفضون أن يغادروا ذلك العرش؛ هم ضدّ أيّ انقلاب على الحكم المطلق؛ كم أحبطت من محاولات انقلاب ضدّ سياستك؛ أنا لم أرفض منهجك في الحكم الاستبداديّ؛ تسلّلت إلى قصرك فجرا؛ أنا من أنصار الحكم الدكتاتوريّ؛ تعجبني قراراتك الدكتاتوريّة ضدّي؛ كنت ملكا مستبدا على فراشي؛ لم أعرف لماذا تخلّيت عن منهجك اليساريّ؟
أكرّر للمرّة الألف أنّي أملك عدّة وثائق سريّة تدينك وعدّة معلومات موثّقة من جهات استخباراتيّة تتّهمك بالخيانة العظمى؛ أو بالسعي إلى تطوير أسلحة عابرة للقارات يصل مداها إلى غرفة نومي وراء شجرة العصافير؛ حيث يسكن الحبّ في تلك الشّجرة آمنا ومطمئنا سلام هي حتّى مطلع الفجر؛ أنت أخفيت تلك الوثائق حول برنامج التّسلّح؛ أنت من نشر أسلحة الدمار الشّامل فوق أرضي؛ أنت من استعمل كافة الأسلحة الممنوعة حتّى ينتزع منّي إحساسي بالنّشوة؛ أنت من زرع الألغام على حدودي الشرقيّة؛ أنت من رفضت أن تترك أغنامي ترعى بطمأنينة؛ لم تعترف الأغنام بحقّك التّاريخيّ في احتلال أرضي؛ اخترقت راعية الأغنام قرار الحصار؛ واصلت تبحث عنك في كلّ مكان وفي كلّ زمان؛ أنت من زرعت الأزهار الشّوكيّة في حديقتي، أنت من علّمني تسلّق الجبال، أنت من أعطاني حبّا بريّا متوحّشا تتخلّله عدّة أشواك بريّة لا أعرفها في تلك البراري الشّاسعة؛ صرت أبحث عن وجهك الملائكيّ في غياب وجهك الملكيّ؛ كلّ الأمراء الذين كانوا يحكمون قبلك لا يشبهون حكمك الملكيّ الاستبداديّ؛ كلّ الوجوه التي كانت تمرّ أمامي لا تشبه وجهك الجبليّ، صرت أبحث في كلّ النّظرات التي تمرّ أمامي عن نظراتك، نعم صرت أحبّك دون أن أرى وجهك، المهمّ أنّي رأيت عينيك تخاطبني، جاءني صوت ما، صوت خافت كرذاذ المطر الباكر في الصّحراء، رجع الصّدى كالأنين… صوت كالذكرى، جاءني ضوء خافت وسط صوت كالغناء يدفعني إلى الغناء، يدفعني إلى البكاء رغم البكاء، لم أعرف مصدر الصّوت، بدأ يظهر في الأفق الغامض أكثر من صوت وسط صوت لا يدلّ على صوت داخل صوت محدّد، بدا لي خلف تلك السّحب أكثر من وجه لا يدلّ على وجهك، بدا لي خلف تلك الغيوم أو العيون النّاظرة دون سبب إلى السّماء أكثر من وجه لا يدلّ على تفاصيل وجهك، بدا لي أكثر من ضوء لا يدلّ على ضوء سيّارتك، لا يدل على ضوء غرفتك، تبعثرت الأفكار، ظهرت أصوات كالعفاريت تتصارع في حجرتي دون سبب واضح، أصوات تريد البقاء وأصوات أخرى تريد أن تغادر، تبعثرت الأحلام، أضواء خافتة وسط أضواء ساطعة لا تدلّ على ضوء واضح يأخذني إلى فراشك، قاومت تلك العفاريت، قاومت تلك الأشباح وسط الأشباح، قرأت المعوذتين، قرأت دعاء الغائب، استرحت قليلا، استلقيت قليلا على فراشك أبحث عن فراشك، هنا عذّبتني، هنا حاصرتني، هنا قتلت جنودي، هنا أعدمت حراسي، هنا تنمّرت…هناك تمرّدت، الحبّ مخلوق من نطفة أو نطفتين، هو مخلوق بفعل خالق، سوّاه على هيئة شكل ثمّ أعطاه ما أعطاه من الصّفات بعد اكتمال الخلق، هو نطفة في الأرحام؛ هو روح لا تشبه كلّ الأرواح؛ الرّوح بعد الخلق لا ترفض الخلق؛ هو مخلوق من الأشباح؛ يرتدي كلّ الأشباح؛ هو مخلوق من نار يكره أن يسجد لمن خلق من تراب؛ أنت خلقت من نار وأنا خلقت من تراب؛ ألا يقتل الدّود في التّراب الجسد في التّراب؟ ألا يقتل الماء في التّراب ألسنة النّار في السّماء؟ أنا لا أرفض قصّة خلقي؛ كلّ القصص الجميلة تعرّضت إلى الاعتداء أو إلى التّخريب؛ كلّ القصص بفعل فاعل؛ من أخذ نشوتي؟ من قرأ قصّتي؟ كلّ القصص أكلها الدّود والتّراب؛ أنا ضدّ هذا الاعتداء السّافر على فراشي البنفسجيّ؛ ألم تقتل النّار التي أشعلتها في جسدي إحساسي بالبرد وانا أرتدي معطفك الصّباحيّ؟ أنا أرفض أن أسجد إلى النّار، لم أفكّر أنّك مخلوق من تراب إلاّ بعد نزول المطر بقليل، أو بعد البرق الخاطف بقليل، أو بعد السّحب تخلّف الحبّ بعد نزول المطر، أو بعد الرّعد، أو قبل الفجر، أو بعد الرّياح؛ قبل الإعصار انتهى الإعصار، هجرتني… تركتني على قارعة الطّريق أبحث عنك في آخر الطّريق، عادت الأصوات إلى غرفتي؛ تسلّلت العفاريت إلى فراشي القرمزيّ؛ هي تحذّرني من عاصفة بريّة قادمة، قلت واثقة من نفسي: الحبّ زهرة بريّة يصعب تصنيفها بين الأزهار؛ هي لا تكترث بمصيرها عند اندلاع العواصف؛ هي أقوى من تلك العواصف البريّة؛ تسكن الزّهرة في المرتفعات الجبليّة؛ تنبت في المنحدرات الصخريّة؛ عاد الصّوت الخفيّ يحذّرني من حبّ قادم قوّته تفوق كلّ العواصف البريّة، تملّكني الرّعب، تصارعت مع تلك العواصف، تراقصت العفاريت، غنّت الأشباح؛ قاومت تلك الأصوات البريّة؛ لم استسلم؛ نحن نقاتل أو نموت وفاء لذلك الحبّ الصحراويّ؛ نعم وفاء لذلك الحبّ الصخريّ؛ أحد الأصوات وعدني بتحقيق الحبّ في أقصى مرتفعات الجبال؛ أمّا الصّوت الآخر فقد دعاني إلى فراشه هامسا حتّى أقضّي معه سهرة مجونيّة وسط تلك البريّة؛ وقد أوصاني في أول السّهرة بأنه يجب علينا أن نتجاهل ما يتركه الذئب من أثر كالحبّ في الصحراء؛ نعم يجب أن نتجاهل ما يخلّفه خروج النّشوة من أثر كالجرح في السّماء أو كالجرح بعد العناق؛ قبل بزوغ الفجر بقليل لم أكترث إلى ذلك الذئب يعوي في الصحراء ثلاثا باحثا عن نشوة ضائعة؛ لم أكترث إلى ذلك العفريت يندسّ في فراشي كما تندسّ الأفعى في مرتفعات الجبال؛ لم أكترث إلى ذلك الجنديّ أصابه العطش في التّلال الصّحراويّة؛ لم أصدّق أنّ الحبّ هو خاتم الأنبياء؛ يظهر مع اندلاع الكثبان الرمليّة؛ لم أصدّق أنّ تلك النّخلة عاشقة بريّة في الصّحراء؛ أعطاني التّمر الأصفر إحساسا باللّذة في تلك الصّحراء؛ تسلّقت إلى عراجين النّخل أبحث عن نشوتي؛ سقط التّمر؛ سقطت نشوتي؛ ازداد صهيل فرسي؛ بحثت عن سيف مسلول أضعته في الصّحراء؛ أحمي به جسدي من ذئاب استولت على تلك الهضاب الرّمليّة؛ تعلّقت بتلك النّخلة؛ تعلّقت بتلك النّشوة كأنّها براءة مظلومة؛ لم أكشف أمام الذئب براءتي؛ أخفيت عورتي؛ كتمت نشوتي البريّة في تلك المنعطفات والتّلال الجبليّة؛ لم يظهر الفجر، لم تصعد النّشوة قبل الفجر، لم تصعد الرّوح بعد العصر؛ لم أستسلم إلى تلك العفاريت، كانت تتراقص على أضواء خافتة تقتل أضواء ساطعة، تناديني تعالي إن شئت اللّذة؛ قال الجنيّ: “الفتاة التي شاركتني فراشي مضت قبل أن يطلع الفجر”؛ بدأ الجنيّ يقترب منّي رويدا رويدا، بدأ يلمس جسدي، أراد أن يعتدي على شرفي، قاومت بصعوبة نداءه إلى الفراش، رفضت كلّ أشعاره، لم أصدّق ما قاله عنك أنّك محتلّ تريد ضمّ حدودي الشرقيّة إلى حدودك الغربيّة؛ قال: أنا آخر العشّاق؛ أنا خاتم الأنبياء؛ أنا رسول من السّماء جئت حتّى أبعث الأرواح من جديد؛ نعم أنا خاتم العشّاق، أنا المهديّ المنتظر، جئت حتّى أنشر مكارم الأخلاق، قلت له: بم غفر لك؟ أريد المغفرة…أريد أن تكون الحياة في صراعها مع الموت؛ أقوى من الموت نفسه، هل يموت الموت بعد الحبّ حتّى الموت؟ هل يموت الموت كما يموت الحبّ بعد الموت؟ إذا ابتلي الموت بالتفكير في الموت بعد الموت؛ ألا يتمسّك الموت وسط الموت بحقّه في الحياة وسط الحياة قبل أن يموت؟ أنا بعد غيابك؛ لا الموت يأخذني إلى الحياة؛ ولا الحياة تأخذني إلى الموت؛ أريد بيتا من الشّعر قبل الموت؛ أريد تجديد عقد الزواج العرفيّ بيننا؛ أريد قبل الموت بساعة يوما؛ نعم كنت أريد بعد الحبّ حتّى الموت بساعتين يومين أو ربّما ثلاثة أيّام؛ كنت أريد التّكفير عن ذنب ارتكبته، ما أكثر ما ارتكبت من ذنوب، الحبّ الصحراويّ هو أكبر ذنب وقعت فيه، أرجوك أيّها الموت لا تقبض روحي قبل أن أرى شخصا أعطاني حبّا رمليّا كالفجر لا ينتهي، وصيّتي لك بعد موتي؛ بعد حبّي؛ أريد روحي وسط روحك، أريد عمرا وسط عمرك؛ أريد روحا وسط روحك على هيأة طائر بريّ؛ يحلّق ولا يطير، هو طائر جبليّ؛ منقاره طويل، مخالبه سوداء اللّون، أريد أن أعثر عليه حتّى في أقصى التّلال الجبليّة، أو الهضاب الصّحراويّة؛ أو حتّى في أقصى الأحلام، لو متّ -أبعد الله عنك الموت- سأطالب من القضاء المستقلّ عن دولة الاحتلال أن تأخذ العدالة مجراها؛ سأطالب القاضي بالتّحقيق في ملابسات موتك؛ أنت لا يمكن أن تموت فجأة؛ قبل أن اراك مرّة أخرى بعد تلك المفاجأة المذهلة؛ لا يمكن أن تموت قبل أن أودّعك؛ انت لا يمكن أن تموت إلاّ بعد أن تحضر مراسم العزاء في خيمة جنازتي؛ لو قدّر أنّك متّ في ذلك البحر العميق كما قال الشّاهد الذي لم يشاهد شيئا؛ سوف أثأر من الموت الذي أخذك منّي؛ سيّدي القاضي… لو كان الموت رجلا لقتلته؛ حقّا لو صدّقنا شاهد العيان الذي ادّعى أنّه شاهدك تغرق في بحر عميق من الحبّ؛ آنئذ سأتوجه إليك أيّها القاضي مرّة ثانية بأمر قضائيّ استعجاليّ؛ لا يقبل التّأجيل: أريد حبيبي حيّا رغم الموت؛ لا يوجد موت؛ تبّا للموت؛ العشّاق لا يموتون؛ أنا أرفض بشدّة موتك؛ أنا أحمّلك أيّها القاضي النّزيه مسؤوليّة موت ذلك الشّخص الذي وعدني بأنّه سيعيش معي إلى الأبد؛ هو لم يقل أنّى لي ذلك… ربّما أموت….؟؛ هو لا يعترف بالموت؛ هو لا يعترف إلاّ بالحبّ حتّى الموت؛ أرجو من سامي عدالتكم أن تحقّقوا في ملابسات اختفاء شخص وجدته في شارع الحب وقد وعدني بتحقيق الحبّ؛ أريد حبيبي حيّا؛ لو كان ميّتا أريده حيّا؛ يبدو الطلب غريبا أو مستحيلا؛ نعم أريد أن ألقي عليه نظرة أو نظرتين، أريد أن أطير معه إلى أقصى الجبال، لا أريد أن أموت قبل أن اعطيه مفتاح علاء الدين السّحريّ، أرجوك انتظر موتي؛ انتظر عمري أعطيك عمرا وسط عمري؛ دعنا نتقاسم ما بقي من حبّ لا ينتهي بانتهاء العمر؛ نحن نعيش أطول عمر؛ لأنّنا نعيش أطول حبّ يتجاوز ذلك العمر؛ بعد أيّام وافق القاضي أن أعطيك مفتاح حجرتي، مفتاح حديقتي، مفتاح أحلامي.
سيدي المحترم قاضي التّحقيق: هذه عناصر الدعوى نقلت لك تفاصيلها بكلّ حبّ و أمانة؛ نعم نقلتها لك بكلّ براءة؛ دع العدالة تأخذ مجراها، أريد الدّفاع عن حقّي في ذلك الرّجل الذي سكن فراشي؛ لا أريد ما ترك من أرض، لا أريد ما ترك من عمارات، أريد ما ترك لي من حبّ أزليّ أحتاج اليه في حجرتي، أرجوكم ساعدوني في الوصول إليه، لو هرب ساعدوني في القبض عليه، أريد الدّفاع عن حقّي في ذلك الحبّ الصحراويّ، أرجوكم خلّصوني من تلك العفاريت التي سكنت خزانتي، سكنت عقلي وقلبي، أريد أن أتخلّص من كلّ العفاريت التي سرقت النّشوة من فراشي، تعدّدت الأسباب والحبّ واحد، تعدّدت الأسباب والموت واحد، نعم تعدّدت دوافع غيابك، تعدّدت دوافع حبّك، في غياب الدّوافع لا توجد دوافع تدلّ على دوافع تبرّر إذا كنت تحبّني فلماذا هجرتني؟
كنّا نلتقي هنا في تلك الحديقة قرب شجرة العصافير في ذلك المكان السّحيق من الأرض حيث لا يمكن أن يوجد إلاّ أنا وأنت، كنّا على طهارة منذ الأزل، نراقب تلك الخرفان ترعى بطمأنينة وسط غياب الطمأنينة، جلسنا نتذكّر تفاصيل ذلك الحبّ الالهيّ، ذلك الحبّ الجبليّ، كنّا نراقب تفتّح الأزهار، تفتّح الأحلام، شدّني جيش من النّحل يمتصّ رحيق الأزهار، شدّني أنّ الحبّ مثل نحلة بريّة، شدّني أنّ تلك النّحلة رفضت أن تتخلّى عن الزّهرة؛ احتضنتها؛ رقصت معها على وقع أغنية قديمة، رقصت ذات اليمين وذات الشّمال، شدّني أنّ الحبّ في حديقتك زهرة شوكيّة، شدّني رحيق شفتيك، صرت مدمنة على شفتيك، صرت مثل تلك النّحلة أدافع عن حقّّي في استرجاع الأرض المنهوبة من أصحابها دون حقّ شرعيّ، مازلت أدافع عن حقّي في تلك الأغنية القديمة” عايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان” تركت النّحلة وشأنها تمارس حقّها في الوجود دون أن تدرك معنى الوجود، فكرت أنها يمكن أن تكون أهمّ شاهد في القضيّة المرفوعة ضدّك، تعرف النّحلة ما لا أعرف عن ذلك الشّخص الذي التقيت به، هي تعرف بالتّأكيد وجهك القرمزيّ، لن أقول مثلما قال الصبيّ في رواية الأيام” أمّاه ما شكل السّماء وما لون القمر؟” أعرف لونك، أشمّ رائحتك؛ لكن لا أستطيع أن أرسم شكلك، أعرف محتواك لكن أجهل مضمون حبّك لي، هو بالتّأكيد ليس أقوى من مضمون حبّي لك، هي تعرف ما لا أعرف عنك، كم مسكتنا النّحلة وهي تمتصّ الحبّ من أزهار الصبّار؛ متلبسين في قبلة وراء قبلة؟، كم سترت عورتنا؟ كم شاهدتنا نرقص ونغني؟ هي تعرف كم من إثم ارتكبناه على الفراش؟، هي تعرف كم من ليلة وسط ليلة فاجرة قضيناها تحت ضوء القمر؟ كنّا نراقب النّشوة تصعد إلى القمر، هي تعرف أنّ القمر يحتجب في ساعة متأخرة من اللّيل، هي تعرف أنّك احتجبت عنّي في ساعة متأخّرة من الحبّ وسط الحبّ، كم تمنيت أن أصعد إليك فوق القمر؟ ربّما… ذهبت إلى كوكب آخر…. فوق القمر.
جاءني شعور ما أن كلّ أزهار الصبّار، شاهدت حبّنا البريّ مع الغروب، أوّل الغروب.. بدأ الحبّ، بعد الغروب… سقطت نجمة وراء نجمة، سقطت دمعة وراء دمعة، بعد الحبّ اختفى القمر، رأيته يختفي من مجرى العين غربا إلى مجرى النّهر شرقا، نعم هي شاهدت ذلك، وهي شاهدة على ذلك، أقسم بذلك، أعرف أنّي أقسمت على حبّك، أعرف أنّ القضيّة فيها قسم أمام الله، أعرف في ظلّ عدم توفّر الأدلة سيضعنا القضاء النّزيه…أمام القسم الالهيّ، لكن ثق أنّي أملك عدّة أدلّة كافية تدين حبّك لي؛ طاعتك لي؛ هو حب قرمزيّ؛ يترك عدّة بصمات في الأرض وحتّى في السّماء، في الصّحراء وحتّى في الجبال؛ لقد تركت بعد غيابك عدّة بصمات على جسدي تدينك، كم تركت على شفتي من جرح عميق لا يتغيّر بتغيّر الفصلين؟ كم تركت من جرحين بين نظرتين وسط نخلتين بين نهدين لا يلتقيان؟، كم أعطيتني من وعود لا تدلّ على وعودك؟ كم نقرت شفتيّ بمنقارك الطويل، كنت أجد في ذلك متعة لا توصف، أنت مثل ذلك النّسر البريّ لا يرحم أثناء الهجوم على فريسته؟
أثناء الدّفاع عن نفسي حطّت على نهدي حمامة بريّة كانت ترفض الحرب، تطلب تحقيق السّلام، تفاوضت معها، طالبت النّسر بأن يحترم حدود أرضها شرقا وغربا، قالت نلتقي بعد نهرين، بعد يومين، بعد أيّام طار النّسر الكاسر، لم يحترم الاتّفاق، انتهك حدود أرضي، وصل إلى مجرى النّهر جنوبا لكنّه لم يصل إلى مجرى العين شمالا، كانت الأرض المحجوبة بالأشجار مترامية الأطراف؛ لا يمكن أن تحتلّ مداخلها بسهولة، واجه النّسر البريّ مقاومة شرسة، لم يستسلم جسدي إلاّ بعد أن تخلّى كلّ الجنود عن رفع السّلاح في وجهي، كانت الهزيمة خيانة عظمى، اين اختفيت؟ لماذا تركت الغزاة يستبيحون أرضي؟ أنت تعرف ما لا يمكن أن أعرف. صرت أعرف أنّ ملابسات غيابك وسط غيابك معقّدة، صرت أعرف أنّ الحبّ حمامة بريّة، تعرف ما لا يمكن أن أعرف. بعد يوم وخلال يوم عاد النّسر ألصحراويّ إلى نفس النّهر، إلى نفس الحمامة، إلى نفس الحبّ؛ أو إلى نفس العشّ يقع بين نهرين في منتهى جبلين.
بعد أيّام وسط تلك الأيام التي تنطوي على جمال عسير اكتشفت أنّ الحبّ حسب قواعد اللّغة هو فعل مبنيّ للمجهول، اختفى الفاعل، وحلّ محلّه المفعول به كي ينهض بوظيفة نائب الفاعل، بصعوبة عرفت المفعول الأول والمفعول الثّاني، بعد اختفاء من قام بالفعل المبنيّ إلى المعلوم، أو من أعطاني ذلك الحبّ دون إرادتي؛ أجد نفسي أمام علامة “قف” من جديد وهي تحرضّني على ذلك الوقوف الإجباريّ؛ أتساءل بعد أن ذهبت دولة الاحتلال؛ من أعطاني ذلك الحبّ السّماويّ؟ أصبح الحبّ بعد زوال المستعمرات الوهميّة فعلا متعديّا إلى مفعولين، الحبّ لا يوجد إلاّ في أقصى قمّة بين جبلين أو بين نظرتين على مسافة فاصلة بين نهرين يخترقان كهوف جبلين يسكنهما شخصان عاشقان لا ثالث لهما؛ وقد أغواهما السّقوط أمام شجرتين من نظرتين بين منحدرين صخريّين وقد أكلا من التّفاحتين؛ فدخلا بأمر ربّانيّ إلى الكهفين ولم يعودا إلى اليّوم حتّى تقوم السّاعة؛ بعد عبور النّهرين على مسافة فاصلة بين نخلتين لم أجد إلاّ صخرة بين كهفين؛ لم أجد إلاّ نخلة بين نهدين؛ لم أجد الفاعل إلاّ بين مفعولين، أصبح الفاعل في غياب الفاعل، لا يدلّ على أيّ فاعل تسبّب في فعل الحبّ؛ من وضع الصّخرة الفاصلة بين نخلتين؟ من وضع النّشوة بين كهفين؟ من أمر بارتكاب الفعل؟ من أمر بتصريف الفعل في صيغة الماضي؟ شعرت بخيبة؛ لم تعبّر كلّ أفعال الاعتقاد: ظنّ، حسب، خال، ألفى…، عن حبّك؛ نعم شعرت بهزيمة؛ نعم لم تعبّر كلّ أفعال العطاء: أعطى وهب ومنح، ناول….، عن معنى وسط معناك، هو اللاّ معنى أو معنى المعنى؛ الحبّ يخفى ولا يخفى ويبدو ولا يبدو؛ لا يظهر الحبّ البريّ إلاّ في سياق التّركيب، الحبّ الجبليّ معنى سياقيّ، لم تعطيني أفعال القلوب إحساسا بوجودك داخل وجودك في جسدي؛ لم أجد من يعطيني المجاز العقليّ…لم أجد أثناء غيابك وسط غيابك…. الاستعارة التّصريحيّة، لم أجد من يعطيني الكناية؟ صرت بين النّخلتين أو الكهفين أو النّهرين لفظا بلا معنى يدلّ على تعدد المعنى.
فكرت ماهي دوافع الحبّ؟ ماهي دوافع الخيال؟ وراء كلّ حبّ خيال يختفي، لا يترك الخيال أثرا يدلّ على خيال بعينه؛ قد يترك المعنى أثرا يدلّ على اللّفظ؛ قد يترك الحبّ في الكهف أثرا يدلّ على أهل الكهف؛ تلك صاحبة الخيال وهي تتخيّل ما لا يمكن أن تتخيّل؛ هي تسكن بين نهرين؛ هي تسكن بين جبلين أو نهدين؛ أعرف أنّ القضيّة فيها عدة جوانب خياليّة، أعرف أنّ القضيّة فيها ايهام بالواقعيّة، ولذلك يمكن بعد مداولات أمام القاضي أن تحفظ ضدّ مجهول، لأنّي لا أملك عدّة شهود و عدّة أدلة حسيّة قويّة تدين ذلك الرجل المجهول، أريد الوصول إلى ذلك المجهول، الحبّ في المجهول؛ هو عنوان شريط سينمائيّ مثير جدا؛ يغري كلّ المشاهدين؛ هو نداء المجهول يأخذك إلى المجهول؛ لماذا لم تأت حتّى نشاهد معا ذلك العرض المجهول؟ كل الجرائد والمجلات تفاعلت مع نداء المجهول؛ كم نشرت من بلاغ وسط بلاغ حول اختفائك؟ منهم من رفض إيداع البلاغ لعدم توفر الأدلة الكافية منها صورتك، عنوانك، مدينتك، هاتفك ومنهم من أبدى تعاطفه معي؛ كلّهم حرّضوني؛ عليّ أن أرفع ضدّك قضيّة في جبر الضرر؛ لا بدّ من دفع التّعويضات؛ هل هناك تعويضات في حبّ من جانب واحد؟ ما قيمة تلك التّعويضات عن حبّ لا يقدر بثمن؟ كلّ الأشياء لها ثمن إلاّ حبّي لك لا ثمن له؛ وقد أكدت ذلك في محضر البلاغ؛ أرفض كلّ أنواع الطّلاق؛ لا أريد الانفصال.
بعد رفع الدعوى إلى النّيابة العموميّة بيومين أذنوا بفتح تحقيق فوريّ في ملابسات وجود شخص من عدم وجوده، كيف يمكن أن يكون الشّخص موجودا وغير موجود؟ أخذوا بياناتي بكلّ دقّة، وعدوني أنّهم لن يدّخروا جهدا حتّى يتعرّفوا إلى ذلك الشّكل لا يدلّ على شكل محدّد، أو إلى ذلك المحتوى لا يدلّ على محتوى محدّد، وعدوني بأنّ العدالة ستأخذ مجراها ، طلبوا منّي أن أستعين بعدّة شهود منهم: النّحلة وزهرة الصبّار والذئب والجنديّ، والنّخلة بين النّهدين؛ لم أنس علامة “قف” تدلّ على شخصين في كهفين نهضا بعد سبات عميق من الكهفين؛ طلبوا منّي بعض بصماتك في الصحراء؛ أعطيتهم بصمات عينيك في السّماء، قالوا: قد تأخذ القضيّة وقتا طويلا قبل النّطق بالحكم، عفوا قبل النّطق بالحبّ. سألتهم متى النّطق بالحكم الابتدائيّ؟ متى النّطق بالحكم النّهائيّ في قضيّة الأسلحة النّوويّة أو الحبّ النّوويّ؟ أجلّوا الموعد عدّة مرّات؛ وجدوا الحبّ ولم يجدوا الشّخص؛ وجدوا السّلاح ولم يجدوا الحبّ؛ وقد أزعجني ذلك كثيرا؛ سيّدي القاضي أنت أملي الوحيد؛ أرفض مسبقا قرار الحكم بعدم سماع الدعوى.
بعد أيّام سخّرت أحد المحامين المشهورين حتّى يتابع ملفّ الدعوى ضدّ محتلّ مجهول، أو الحبّ في المجهول، لم أفكّر في تكاليف القضيّة، فكّرت فقط أن أربح القضيّة، المهمّ أن أكسب شخصا أصبحت أعرفه إلى درجة صرت فيها لا أعرفه، أعرف مضمونه ولا أعرف شكله، لا تهمّني الأشكال أو الألوان، لا يهمّني كم تخلّد بذمّته من الإيجار أثناء الاحتلال؛ أنا أعطيته مفتاح بيتي؛ لم أطالبه بأيّ ضمانات؛ لم يترك أيّ بصمات؛ لم أفكّر انّه سيختفي وقد أعطيته مفتاح بيتي؛ نعم أغريته بعدّة تسهيلات…لقد وعدني بأنّه سيحافظ على تقاليد الحبّ في ذلك البيت العتيق في أطراف تلك المدينة العتيقة؛ كم قال لي الحبّ لوحة أثرية عريقة؟
لقد صرّحت أمام القاضي بأنّي قد عفوت عنه، ما يهمّني الآن وقد غادر ذلك الشّخص بيتي؛ كم تخلّد في قلبي من الحبّ أو ما بقي من الحبّ؟ دليلي الوحيد أنّه لم يترك على الأرض أيّ خطوات تدلّ على أثر تركه أو رسمه؛ لكنّه مقابل ذلك ترك في قلبي أكثر من أثر كالجرح لا يدلّ إلاّ على جرح بعينه، هو أثر وسط أثر أو نقش وسط نقش تركه في فراشي؛ نعم له أثر كدبيب النّمل في الصحراء؛ أو كصفير الرّياح هزّت قميصي في تلك الصّحراء؛ أو كالحبّ لا يظهر إلاّ بعد استسلام الرّوح إلى الجسد وقد تفاعل مع تلك الرّياح في قلب الصحراء؛ وقد سألت عنك الرّياح وقد اعترفت مع بقيٍة الشهود بأنّك أوّل من استعمل في الحبّ كافة أسلحة الدّمار الشّامل؛ نعم أوّل من استعمل حقّ “الفيتو” في الحرب ضدّي؛ لم تفكّر أنّك تركتني في الميدان وخارج ذلك الميدان وحدي؛ أواجهك وحدي؛ لم أطلب قوّات أجنبيّة تساعني في احتلال أرضك؛ فقط أعلنت الدّخول في مقاومة مسلّحة مشروعة؛ كم مرّة اعترفت أمام العالم في ندواتك الصحفيّة بقوّة ضرباتي التي كبّدتك على الأرض عدّة خسائر فادحة في العتاد والأرواح؛ أنت من أجبرتني على الدّخول في حرب عصابات طويلة؛ استنزفت كلّ طاقتي وقد دمّرت طاقتي في الحبّ على المدى البعيد؛ كلّ الدول العظمى تستعمل ذلك الحقّ حتّى تنفذ أطماعها التّوسعيّة الامبرياليّة على الأرض؛ فلماذا لا أستعمل نفس الحقّ “الفيتو” حتّى تعترف بحبّي لك؛ أي بحقوقي التّاريخيّة في احتلال أرضك المزعومة؛ هل تعلّم أنّ أعلى مرتبة في الحبّ من طرف واحد هي مرتبة الشعور بالاضطهاد و القهر و الامبرياليّة ؟
طرح عليّ المحامي عدّة أسئلة مألوفة إلى درجة غير مألوفة، قال: هل ترك ذلك الشّخص الذي تجاهل علامة “قف” بصمات حسيّة على الأرض المغتصبة أو المحتلّة؟ قلت له: أعرف فقط بصمات عينيه في السّماء؛ أعرف فقط بصمات يديه في الفراش؛ يمكن أن تأخذوا عيّنات من فراشي أو نشوتي؛ نحن من سلالة واحدة حتّى سلالة الدّم واحدة كي تتأكّدوا من صحّة تلك البصمات؛ أعرف فقط أنّه لم يترك على الأرض أثرا، لكنّه ترك في الأرض المجاورة لأرضي عدّة أغنام ترعى دون سعادة؛ كما ترك عدّة عفاريت؛ هو لا يستقرّ في مكان يجوب من مكان إلى مكان، هو لا يستقرّ في زمان يجوب من زمان إلى زمان؛ أشعر أنّه كلّ شيء؛ أخذ منّي كلّ شيء؛ أشعر أنّ الذئب ربّما اعتدى على تلك الأغنام؛ أين الذئب؟ من قتل تلك الأنعام؟
لم يفهم المحامي شكل هذا الشّخص لا يدل على شخص بعينه، شكل هذا الحبّ لا يدل على حبّ بعينه، لم يفهم إصراري لماذا أريد أن أكسب القضيّة التي رفعتها ضدّ شخص مجهول؟ ابتسم في وجهي ثمّ قال: اعتذر هذه قضيّة فلسفيّة، قلت له: في الحبّ أكثر من حجّة فلسفية، الحبّ ليس قضيّة ميتافيزيقيّة هو قضيّة انطولوجيّة، يختلف فيها الوجود عن الموجود لصالح تعقّل الوجود، الفيلسوف ينبذ الميتافيزيقا، الفيلسوف عاشق وجوديّ؛ ينبذ العشّاق من الفلاسفة كلّ فكر غيبيّ، هم لا يؤمنون بالحب الخرافيّ المهمّ في تفكير الفلاسفة ليس الجواب بل السّؤال، المهمّ في تفكير الفلاسفة في قضيّتي ليس شكل الشّخص بل معناه، المهمّ في قضيّتي ليس شكل الحبّ بل معناه، المهمّ ليس مادة التّعبير بل شكل التّعبير، المهمّ ليس مادة المضمون بل شكل المضمون، لم يفهم المحامي مضمون الدعوى، تظاهر بأنّه أمام عدّة قضايا أخرى أهمّ في محتواها القانويّ من قضيّتي؛ تعلّل بأنّ الوقت لا يسمح له بالمرافعة ضدّ شخص لا وجود له إلاّ في خيالي، وقد قال لي: هذا الشّخص خرافيّ يدلّ على عدّة أشخاص في شخص واحد؛ أو هو عفريت يدلّ على عدّة عفاريت في عفريت واحد؛ هذا الحبّ وسط الحبّ لا يوجد إلاّ في الميتافيزيقا، هو شخص وسط أشخاص لا يتحدّدون إلاّ وفق معايير فلسفيّة معقّدة؛ لن ينصفك القانون المدنيّ، لن يعطيك الحقّ المدنيّ في شخص هو محض خيال، شخص زارك في اللّيل وخرج مع أذان الفجر. ألم تنتبهي إلى أنّ علامة “قف” نبّهتك عدّة مرّات الى ما معناه ممنوع الوقوف على الأطلال.
لقد حزّ ذلك في نفسي كثيرا، شعرت بالإهانة، في الحبّ أكثر من إهانة، في الحبّ أكثر من قضيّة امبريالية، كلّ قضيّة تختلف عن القضيّة الأخرى، لماذا نهتمّ أثناء المرافعات بالقضايا المدنيّة ولا نهتمّ بالقضايا العاطفيّة؟ الحبّ من بعيد يحتاج إلى تفكير فلسفيّ عميق حتّى نفهم أصل الكينونة في تلك الأشياء لا تدل على الأشياء التي نريدها؛ أليس من دواعي التّفكير في الحبّ إعادة التّفكير في الحبّ نفسه قبل الخلق ثمّ بعد اكتمال الخلق؟ لم أعد أتحمّل غيابا وسط غيابك؟ لم أعد أتفلسف، لم أعد أفكّر، لم أعد أسأل، من يعترف بحقّي في الجواب في غياب الجواب؟ الجميع ظنّوا أنّي معتوهة، مسّني الجنّ، من ينتزع حقّي من الجنّ؟ من يدافع عن حقّي في حبّ على طريقة الفلاسفة؟ أنا أرفص الخضوع الى الامبرياليّة؛ هو حبّ وسط حبّ غامض يستهوي الإنس والجنّ، طار الجنّ وبقي الإنس يبحث عن الجنّ. هذا الجنيّ بالتّأكيد عاشق، نعم بالتّأكيد هو جنيّ عاشق.
مدينة بنقردان جنوب البحر والصحراء- تونس