محمد عكرة النويري
إن كانت الحاجة تولّد التفكير، والضرورة سببٌ للاختراع… فالحكمة كذلك تولَد من رحم الألم، والأدب ناتجٌ عن الحرمان. وهكذا القدر، ما ينزع منك شيئا إلا أبدلك بآخر رحمةً من الله وعدلًا، فمن رضي فله الرّضى ومن سخط فله السّخط.
والحكيم الحصيف من يجعل من المِحَنِ مِنَحًا، ومن الأهوالِ مركَبًا، ومن الحزن مغنمًا، وهكذا أحسب نفسي فعلتُ، فما صفعني الدّهر صفعةً ولا وطأني بحافره ولا كرّ عليّ غِيَرَهُ ولا بصق وامتخط إلا وجدني؛ شعلةً أوقدت ونارًا أضرمتْ.
وقد رأى الخلّان وخاصّة أصحابي أنّ قواميس الألم ومعاجم الحزن ومثالب الدّهر قد أناخت ببابي ولازمتني ملازمة الظل، حتّى إذا طرأ لهم طارئٌ وعرض لهم عارضٌ استنجدوا بقولي واستغاثوا بتجربتي، وزادهم فتنةً وتعلّقًا أن رأوا العاديات تعصف بي فلا لانت قناتي ولا انكسر عودي، وليس بي جنون قيس ولا شرود جميل ولا طيش توبة ولا خبال كثيّر ولا جزع ذو الرمّة، حتّى يُخيّل إليهم أنّه تحقّق لي ما تمنّاه ابن الملوّح:
ولو كان لي قلبانِ عِشتُ بواحدٍ ،، وتركتُ قلبًا في هَواكِ يُعذّبُ.
وقد سألني أحدهم مرّةً، وقد ظهر لي على صحن خديه وجفن عينيه سهمٌ من سهام الهوى، وآيةٌ على مكابدة الجوى، فقال:
أخبرني عن الحرمان والصدّ والجفاء، وعن الخلاص والسلوّ.؟!
فقلتُ: ما أمرّ من الحرمان إلّا الأمل الكاذب، ولا أثقل من الصدّ إلّا الأماني العابثة، ولا أشدّ من الجفاء إلّا يأسٌ شابَهُ رجاءٌ، ولا أنكأ للجرح إلّا ذكرياتٌ لا تمحُها صروف الدّهر ولا تقلّب السّنين والأعوام.
وسألتني عن السلوّ، فاعلم أنّه لا سبيل إليه إلّا باليأس…
فما من شيءٍ يُسلّي المرء ويُعزّيه في تصرّف الأقدار بغير ما تشتهي الأفئدة؛ إلّا اليأس التّام الذي لا يثلُمه رجاء ولا يشقّه أمل، فذاك أنجع الأدوية، وأرجأها للسلوّ، وأوكدها للنّسيان.
وكأنّي به يستزيدني الحديث، أو أنّ كلامي هذا ما بلّ ريقه ولا شفى جرحه، وقد كنتُ على علمٍ مُسبقًا بحاله معها ممّا يخبرني به بين الفينة والأخرى، فتابعتُ الحديث وأنا أرمو أن أصيب الهدف، وأن أضع يدي على مغاور الجرح.
قلت: وليس العذاب حقيقةً إلا تناوب الحب والبغض، والسلو والوجد، وتصارع ذلك كلّه في قلب من تحبّ، فتارةً تُدنيكَ وتارةً تُبعدك، وتارةً تصلك حتّى تَفنى في وجودها، وتارةً تقصيك حتّى تشعرك أنّك لا شيء، وهكذا هي؛ تتفنّن في تعذيبك وإيلامك والغاية من وراء ذلك مُبهمة لا تُدرك.
ولا أخالك يا صديقي إلا واقع في أسوأ الأمر وأجمله؟!
قال: ثكلتك أمك!، وما أسوأ الأمر وأجمله؟!
قلت: أن تقع في حبّ فتاةٍ؛ صاحبة ذوق راقٍ، وثقافة عاليةٍ، ومعرفة واسعة، فهذه لا تكاد تنفذ حِيَلُها، ولا تُبلى فِخاخها، ولا تثلم شِباكُها، وهي مع ذلك بعيدة المنالِ، ظنينةٌ بالنّوال، متقلّبة الأحوال.
قال: لله درّك، صدقتَ وبررتَ. فتابعتُ الحديث، وقد أعجبني انتباهه وتوقّد عينيه، وكان قبل ذلك شاردًا سارحًا لا يعِي ما يسمعه ولا يعقّب بكلمةٍ.
قلت: وإنّك كلّما قلّبت حالك وحالها ورُمتُ فهمها، وحاولتَ تفكيك الواقع وتحليل فعلها، يُخيّل إليك أنّها على مذهب المعتزلة إذ أقامتكَ في منزلةٍ بين المنزلتين، أو أنّها طاغية درستْ كتاب: “الأمير” لميكافيلي وأرادت تطبيقه على عشّاقها، ورأيتَ أنّ ما تقوم به هو عين ما يقوم به الطغاة مع حاشيتهم وأعوانهم، من تناوب الرضا والسخط، والقرب والبُعد حتّى ينال منهم كامل الخضوع والتّسليم، وأوفر الطاعة والإذعان.
فما أتمَمتُ الحديث حتّى تنهّد صاحبنا وشهِق شهقةً كادت تُخرج روحه، لقوّة البيان وتجلية الواقع. وقد يجد المرء نفسه أحيانا بين السطور وداخل الأسفار.
قال: أو تزعم يا صديقي أنّها تفعل ذلك؟ قلتُ: نعم!
قال: والله إنها لتعلم أنّ القلب قد صقل بحبّها، وأنّ الفؤاد قد تشرّب صبابتها، وأنها سكنت في الكبد، وتغلغلت في الجوارح، وأنّ التّسليم والإذعان لها واقعٌ مُذ وقعتْ عيني على عينها، فأيُّ شيءٍ يحملها على الجفاء غير ما ذكرت؟
فقلت: لا شيء يحملها على ذلك غير العبث، ومَثَلُكَ يا صديقي مَثَلُ تائهٍ كالحٍ في مفازةٍ قفراءَ يستمطرُ غيمةَ صيفٍ ساخرةٍ، فأيُّ شيءٍ تُناوِلُه؟! وما هو بجاهلٍ أنّ ذلك مُحالٌ ولكنّه يُخادع نفسه ويمنّيها ريثما يقضي عَطَشاً. وكذلك تصنع بنفسك!
وإنّك إذا علمتَ أنها قارئة نهِمة رأيتَ أنّها سمعتْ عن شعرة معاوية في كتب الأمثال فطبّقتْ ذلك معك، بنُفورٍ إن صبِئْتَ ودلالٍ إن سلوتَ، حتّى لا يطرق اليأس لك بابًا، وقد أخبرتك آنفًا أنّ اليأس أنجع الأدوية للسلوّ وأوكدها للنسيان!
فقال: صدقتَ صدقت! وإنّها بعد ذلك تنكر هذا كلّه وتكذّبه، فلا هي أحبّتْ ولا هي أبعدتْ، بل زادتْ وأوْفَتْ الكيلَ إذْ صيّرتْني كما قال الرافعي: “ككُلّ النّاس بعد أن كنتُ كلَّ النّاسِ”.
ثم قال: وهل من سبيلٍ لنسيانها وطرد طيفها وخيالها؟!
فقلت: وطّد اليأس أوّلًا، ثمّ تذكّر مساوئها تهُن عليك!
فقال: ويحك! وهل يبصر العاشق عيبًا في ذات عاشقه؟!!
فقلت: ليس الجمال يا صديقي إلا طهارة القلب، وزكاة العقل، ومرح النّفس، فإن زيد على ذلك جمال الظاهر نقص الجمال الباطن ولا بد، وقلّ أن يجتمعا، ولا أُرى إلّا صابحتك قد حازت الحسن الظاهر والباطن، ولا أُراها إلا حورًا في صورة امرأةٍ، ثم فعل القدر فعلته فطاش وطغى الظاهر على الباطن، وعندها أذاقتك صنوفًا وألونًا من الكبر والبطر والاستعلاء، حتّى طُمس قلبُها وانتكس، وكَسَدَ عقلها والْتبس، وخبتْ نفسها وانطوتْ، فإنْ رُمتَ نسيانها أو شِفاءها وشفاء نفسك فصُدّ عنها، وأنزلها منزلةً دون منزلتها، ولا تقابل ودّها المتقلّب إلا بالجفاء، ولا لينها المتصنّع إلا بالقسوة، وأقم على ذلك الشهور والأيّام حتّى يقضي الله أمرًا كان مفعولا. قال: أَوَتُرَاهُ ينجَعُ معها ذلك؟! قلت: لا تهتم بالنتيجة، ولا تنشغل بها، وليكن لسان حالك كما قال:
امرؤ القيس:
بكى صاحبي لمّا رأى الرّكْبَ دُونَهُ ،، وأيقنَ أنّا لاحقونَ بِقَيْصَرَا.
فقلتُ له: لا تبكي عينَكَ إنّما ،، نُحاوِلُ مُلكًا أو نموتَ فَنُعْذَرَا.
قال: صدق امرؤ القيس وأصدق منه بشّار ابن بُرد القائل:
ولا بُدّ من شكوى إلى ذي مُروءةٍ
يُواسيكَ أو يُسليكَ أو يتوجّعُ
فلولاك يا صديقي لما زالت الأوجاع، ولا بانت السّبل.
عندها اتّكأتُ على ظهري وشيّعتُ عيني إلى السماء، وقلتُ:
لإن كانت سحائب الصيف تسخر من التائه في الصحراء، فطيف الحبيب يعبث بروح المتيّم الغارق في بحار الحبّ.
فقال مجيبًا ومقرّرًا وسائلا: وهَبْ أنّ الكالح أتاهُ الماء فأروى ظمأه، فما بالُ العاشق يأتيه الحبيب حقيقةً فما يزداد إلا عَطشاً وتلهّفاً، ولا يزداد إلّا تلفاً على تلفٍ، وسقماً على سقمٍ، فهو في الحالتين هالك، طيفٌ يبتزّه ولقاءٌ يهزّه حتّى يُبقيه كغُصنٍ هامدٍ لا يحفّه ورقٌ، ولا يزيّنه زهرٌ.
فأجبته: وهل لقاء الأبدان وتنائي القلوب إلّا كمداواتِ المحتضر.
قال: فهب أنّ المحرومَ يتجرّع مرارة الهجر وقرب الديار، وتنائي القلوب ولقاء الأجساد، وانقطاع المودّة ووصال الأعين. فماذا لو حُرِمَ رؤية حبيبه وأُبدله بطيفٍ يقرع باله صباح مساء،
أوَتُراهُ يجزع أم يندب؟ أم يخفّ حمله ويُلتَأمُ جرحه؟
قلت: الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب، إمّا سلوٌّ ونسيان، وإما جنونٌ وهذيان، أو الثالث وهو شاخصٌ أمامك. وعامل ذلك كله ومحركه راجع لمخزون الذكريات ووقودها وتوارد الخاطر وحضور طيفها، ثم لقوة القلب وصفاء النفس وعلوّ الهمة.
قال: فما ضرّ الحبيبَ لو أمسك طيفه عمّن يأبى أن يصِلَهُ؟
قلت: وماذا يضيره لو حمل عن ذاكرة المحبّ ذكرياتٍ جمعتهما معاً؟ فقال: لعلّه أشفَقَ عليه، ورأى بقاءَها وقودٌ لليالي الشوق، وزادٌ لسنين الحرمان؟ فأجبتهُ: وربّما كان يتلذّذ بذوبانِ قلبه وتقطّع فؤاده…؟! ثم ختم ببيتٍ يقطُر أسىً وحزَنًا لشاعر البصرة:
زكي العلي:
يا باقيًا فيّ حينَ الآخرونَ مضوا
أكمل جميلَكَ وارحلْ مثلما رحلوا
وأنشدت أنا شعر أبو الخطاب عمر ابن أبي ربيعة القرشي:
وقصّ عليّ ما يلقى بهندٍ▪︎▪︎فذكّرَ بعضَ ما كُنّا نسِينا.
وذو الشّوقِ القديمِ وإن تعزّى▪︎▪︎مَشُوقٌ حينَ يلقى العاشقينَ