قصة

مِثل جُذُور الفِطْر

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

أثناء جلوسي في شرفة بيتي مع أخي الأصغر الذي كان يزورني للمرة الأولى منذ هجرتي، بعد الوليمة الفاخرة التي أعدتها زوجتي، تناول فنجان قهوة من يديها وأهداها ابتسامة عريضة ثم سألني: هل نجحت أخيراً فيما لم تنجح فيه في بيت أبينا وأمنا؟ هل صنعت تاريخاً مُشرفاً لأسرتنا هنا؟

أخذت رشفة من فنجاني الذي ناولته لي زوجتي لتوها ثم قلت له:

ليس من تاريخ بشري كبير أصنعه هنا! وربما التصرف الوحيد الذي سيدخلني التاريخ هو أن أكون أول بشري يموت هنا! أما أن أتحصل على لقب أول بشري يُدفَن هنا فهذا ما لا أستطيع لا ضمانه ولا حتى الجزم به، إنها مسؤولية زوجتي وزملاؤها الآليين هنا بالاعتماد على لوائح المكتب الصحي ولجنة إدارة الموارد وإعادة تدوير المخلفات، نعم! ألسنا مجرد مخلفات عضوية بعد موتنا؟ عليهم فقط أن يحلوا مشكلة تزوير هويتي!

انتفض أخي الصغير في مجلسه وكاد أن يشرق بجرعة القهوة التي رشفها لتوه من فنجانه، حتى أن زوجتي انتفضت واقفة من كرسيها بجانبي وهرعت إليه بإحدى الفوط التي كانت على سطح الطاولة الدائرية التي وقفت حاجزاً بيننا وبينه، اعتذر عن إزعاجها ثم تناول الفوطة ومسح بها قليلاً فمه وتلك القطرات التي لوثت صدر قميصه، وبعد أن عادت زوجتي حذرة إلى مكانها سألني: ماذا؟ هل ارتكبت جريمة التزوير يا أخي؟ هل بدأت حياتك بالتزوير في الأوراق الرسمية؟   

ابتسمت قليلاً، وبعد أن وضعت فنجان قهوتي على الطاولة قلت له:

هدئ من نفسك! فمازلت أخوك الطيب، فقط وجدت أنه من الأصلح لي (ولهم!) أن يكون لدي رقم هُوية “آلية” مطابقة لهم! فأنا البشري الوحيد بينهم نظراً للبرودة الشديدة لهذا المكان (من -143 إلى -173 درجة مئوية)، لا أحد غيري رغب في التوظف هنا حتى الآن! لذا لن يعانوا كثيراً بعد موتي على أي حال، هو جسد واحد سينشغلون بإعادة تدويره ليس إلا!

سألني باستغراب كبير: لا أحد بشري غيرك هنا؟؟ هل تقصد أن حتى زوجتك ….

لكن قبل أن يكمل سؤاله أرسلت له نظرة قوية خاطفة وكأنني أطلب منه أن لا يكمل سؤاله هذا أمامها! فما كان منه إلا أن غَيَّره سريعاً بقوله: وهل أمكنك صنع السعادة التي كنت تحلم بها وسط هذا العالم البارد بآلييه من حولك؟

إلتفتت إليَّ زوجتي وكأنها تريد أن لا تُفوِّت حرفاً من إجابتي على هذا السؤال بالذات، غير أنني لم أُعِرها انتباهي، فأنا أدرك جيداً ما يجب أن أقوله لأخي، لذا اعتدلت في جلستي، أرحت كوعي الأيمن والأيسر على جانبي الكرسي المريح، وشبكت أصابع يداي في حجري، تأملت شكل أنوار المدينة من أفق الشرفة الصغيرة التي نجلس بمنتصفها من خلف جلسة أخي، فبدت لي في هذه الأمسية العائلية النادرة وكأنها فرشة من فرشات أمي المطرزة بجميع الألوان، تركت بصري يتمدد قليلاً حتى الأفق ثم قلت لأخي:

نعم يمكنني أن أقول لك إنني عِشت في هذا المجتمع البسيط سنوات عديدة في سعادة، وأود حتى أن أصفها بالمثالية، رغم يقيني بعدم وجود أي مثالية في حياة البشرية! نعم كلهم موظفين آليون، لكن الفارق بينهم وبين الآلات كالفارق بيننا والقرود! لقد نما وعيهم بنفسه خلال قرنيْن من العمل معاً (كما حدث مع الجوجل في أوائل القرن 21 إن كان مازال يذكره أحد!)، في داخل دهاليز نواة الاستيطان البشري هنا: ذلك المصنع الأثري البعيد الذي يبدو كنقطة حمراء فوق الأفق من هنا، أتذكره؟ لقد طلبت مني مرة أن أقدم لك فيه طلب عمل قبل أن تتخلى عن طلبك!

هنا استدرك أخي بقوله:

نعم أذكر جيداً، لقد سخر الكثير من أصدقائي من الفكرة، قالوا لي أتريد العمل على “لوزة الخزايني”؟[1] فأغلبهم لا يعلم شيء عن هذا المكان إلا أنه أحد أقمار كوكب زُحَل العديدة،[2] الذي يحمل الاسم المبهم المُعَقَّد “أيابيتوس” Iapetus![3] هل نطقته صح؟ بالمناسبة أمازلتم تسمونه بلوزة الخزايني؟ أشك في أنك أنت من أطلق عليه هذا الإسم، فالجوز لا يُعرَف بهذا الاسم إلا في عائلتنا نقلاً عن أجدادنا!

هنا أجابته زوجتي التي يحلو لها دائماً الجلوس بصمت مع الزوار الذين نادراً ما يزورنا أحدهم:

نعم أذكر أن زوجي في رحلة هجرته الأولى إلى هنا قال إنه حينما اقترب من قمرنا لأول مرة في حياته، فإنه بسبب حزامه الجبلي التام[4] بدا له وكأنه “لوزة الخزايني” التي كثيراً ما رأى أمه تكسر حباتها وتأكل لبها الشبيه جداً بالدماغ البشري! لم أفهمه في البداية لعدم معرفتي بهذا النوع من المكسرات، غير أننا اندهشنا كيف أُعجبت الناس بهذا الاسم الجديد وتلاقفته سريعاً ألسنة كل المستوطنات المجاورة فيما بعد!

هنا رأيت لزاماً عليَّ أن أُضيف لمسة شعرية وجدتها تلائم هذه الجلسة الحميمية النادرة التي جمعت أقرب قريبيْن إلى نفسي (أخي وزوجتي)، فأضفت له:

أما إذا أردت وصف له كما يحلو للشعراء، فهو عبارة عن قطرة ثالجة عملاقة معلقة في الفضاء! إذ أن 80% منه ماء مُجَلَّد والباقي صخر، لذلك أُنشئ ذلك المصنع العتيق لإنتاج الماء والأكسجين والهيدروجين بوفرة، لتموين كافة المستوطنات البشرية المجاورة بماء الشراب ووقود المركبات المحلية وما بين النجوم، فأصابت إدارة المصنع ثروة حولت مدينته السكنية الصغيرة ذات الشارعيْن المتقاطعيْن إلى سلسلة ضواحي متوسطة الكثافة، متناثرة حوله.

هنا سألني أخي:

لكن بَشَر أقمار أورانوس– جيرانكم الأقرب – حينما زرتهم منذ شهور في مهمة عمل وجدتهم مازالوا يستغربون تَنَعُّمكم بالتدفئة والإضاءة وأنتم تعيشون فوق قطرة الثلج هذه كما وصفتها، خصوصاً أنتم سكان منطقة كاسيني Cassini،[5] النصف المظلم الدائم ذي التربة السوداء كالفحم هنا! سمعتهم يقولون إن الموت برداً هو الحي الوحيد هنا!

قهقهت وزوجتي معاً بلا تنسيق مسبق مطولاً، عُدت فيها أنا إلى شرب ما بقي في قاع فنجاني واستأذَنَت فيه زوجتي لجلب صحن الحلويات من المطبخ، وبعد أن أفرغت فنجاني في جوفي وضعته على الطاولة ثم قلت لأخي:

على أي حال هذا هو مستوى ثقافة الأُورانوسيون! إذ يبدو أنهم لم يسمعوا بكوابل الكهرباء البدائية التي يمكنها نقل الطاقة بسهولة من على بُعد مئات الكيلومترات! فنحن هنا نتزود من نصفنا المضيء المجاور بهذه الكهرباء،

بدت علامات التعجب واضحة على وجه أخي ثم سألني مقاطعاً: وهل تمكنتم من استثمار أشعة الشمس لتوليد الكهرباء؟ ولكنها ضعيفة جداً هنا أليس كذلك؟ أنتم بعيدون جداً عن شمسنا صح؟

أجبته سريعاً:

لا لا! لقد أنشأنا محطة كهرباء نووية في ذلك الضياء الخافت، وتنقل لنا كوابل تقليدية رخيصة كهرباءها إلينا نحن سكان هذا النصف المظلم، على أي حال نحن أصلاً مجتمع آلي صغير جداً لا تزيد مساحة كل سطح قمرنا على مساحة قارة أستراليا في أرضنا الأم، فلا تحتاج طائرة ركاب أرضية قديمة لأكثر من ساعتين ونصف لتلفه بالكامل،[6] لذا فاستهلاكنا من الطاقة قليل بقدر حاجتنا، كما أن الجاذبية هنا ضعيفة جداً، حتى أن وزنك هنا سيكون أقل ب44 مرة من على الأرض،[7]

قاطعني أخي هنا باسماً بقوله:

نعم نعم لاحظت ذلك جيداً حينما أجبروني في مطاركم على ضرورة ارتداء زوج من أحذيتكم المغناطيسية الثقيلة السميكة بشكل مبالغ! لكن حدثني عن سر تمسكك بالسكن في هذا الظلام بدل ذلك النصف المضيء!

أرخيت جيداً ظهري على ظهر كرسيي، منتظراً وضع زوجتي لصحن حلويات الأسرة التقليدية “المقروض”،[8] التي أتقنت زوجتي صنعها من مجرد وصفي لطريقة صناعتها كما سمعتها من جدتي نقلاً عن جداتها، دعوت أخي إلى تذوقها وتَذَكُّر أيام طفولتنا التي كثيراً ما كنا نتعارك فيها على مثل هذا الصحن، وبعد أن تناول قطعة منها قلت له:

أما الظلام فهو ضروري لزراعة الفطر! وأنا أفخر بأنني أول من استثمر هذه الميزة هنا، فأنشأت مزرعة له في آخر حدود ضواحي المدينة هنا، في الواقع كلمة مزرعة هي كلمة مجازية، فربما لو قلت “مختبر” أو حتى “مَغَّارة” لكان أقرب إلى الواقع، حيث ألهمني فيها ذكريات طفولتنا، ألا تتذكر أننا كنا نهرول إلى حديقة بيت جدنا مساءاً لنرقب بفضول ظهور تلك الأصابع البيضاء ذات القبعات المستديرة البيضاء ذات المركز المرتفع، تنمو لوحدها في المناطق الظليلة الرطبة أسفل أركان الشجيرات التي كانت تنمو بهدوء بمحاذاة أحد جدران حديقة بيت جدنا على الأرض؟

أجاب أخي: نعم صحيح، كنت أيامها أندهش من تضخمها بلا عناية منا، بلا سماد ولا ماء!

أكملت حديثي له بقولي:

أنا مثلك كانت تدهشني هذه الأصابع المُقَبَّعة! غير أن الفرق بيننا هو أنني قلت لنفسي ولماذا أترك لطفولتي احتكار هذه الدهشة؟ فكانت قبعة هذا الفطر سبب دراستي الزراعة في الجامعة، هناك عرفت أن أفضل مكان في مجموعتنا لزراعتها هو كاسيني! فلا تحتاج إلا إلى رطوبة وظلام وشيء من البرودة لإنتاج سلالة لذيذة توفر البروتين الرخيص في هذه المنطقة الخالية منه، حتى تربة عميقة لا يحتاجها الفطر، أتذكر أنه كان ينمو على سطح تربة حديقة بيت جدنا بسهولة حتى أنه كان بإمكان أعمامنا اقتلاعه بمجرد وضع سبابتهم وإبهامهم على قبعته! فلا جذور له، مُجرد شُعيرات تكتفي بأقل من شِبر من نشارة خشب!

سألني أخي هنا: خشب؟ وهل هناك أشجار في هذا المكان القفر؟ أعذرني لكن ما نعرفه عن منطقتكم كاسيني هي أنها صحراء سوداء الأرض والسماء!

أجبته مُتَنَدِّرَاً:

أحياناً الإجابة تكون أبسط كثيراً من غرابة السؤال! لا توجد أشجار هنا نعم لكننا وفرنا النشارة المطلوبة من أكوام الصناديق الخشبية التي وجدناها في مكب ذلك المصنع الأثري المهجور! التي جلبوا فيها منذ سنين عديدة الكثير من معداته! على أي حال فيما بعد اختصرنا حتى هذه المرحلة بعد أن بدأنا نستخدم على مر السنين “تَنْوَة” القهوة التي أشربها، أكيد لم تنس ذلك الاسم الذي كان يطلقه أبوينا على ما يبقى من شربها! لقد حرصت زوجتي فيما بعد على جمع كل ذرة من ذراتها حينما ثبت أنها بديل أفضل من نشارة الخشب لإنبات الفطر!

سألني أخي بعدها: حسب علمي فالعنصر الثاني الضروري لانفتاح قبعات أصابع الفطر هو الرطوبة بعد الظلام، فكيف تمكنتم من توفيرها؟

أجبته بقولي:

أمكننا توفيرها هنا ببساطة عبر استثمار بعض الحرارة الزائدة لمحطتنا النووية الصغيرة، فلم تعد توفر لنا الكهرباء فقط بل حتى تذويب جزء يسير من ثلج السطح تحتها لنتحصل على ماء الشرب في بيوتنا والرطوبة الضرورية لمزرعتي، أما جوه الخالي من أي كائنات بشرية (ما عاداي!) فكان كفيل بضمان تعقيم بيوضه اللازم لقتل تلك الكائنات المجهرية التي تفسده، وقد عقمني هذا الجو قبلهم بسنين عديدة!

هنا استأذن أخي في أن يغادرنا، إذ يود التقاط بعض الصور لآثار مستوطنتنا الصغيرة لفائدة صحيفة المُتحف الذي يعمل به، وبقيت أنا وزوجتي لوحدنا في البيت جالسيْن متجاوريْن على أريكة غرفة معيشة البيت نحاول أن نتفرج على أحد البرامج التلفزية، لكنني أحسست بأنها بقيت صامتة منذ منتصف النقاش، فسألتها عما إذا قلنا شيء يُكدرها فأجابت:

الحقيقة تُحبطني جداً رؤية الناس لحياتنا على أنها مُظلمة الأرض والسماء، لماذا لا يرون الإنجازات الزراعية التي حققناها هنا برغم كل هذه الظروف المعاكسة؟

صمت قليلاً أحنيت فيها رأسي إلى أسفل وكأنني أتأكد من أن لي قدمين لا ثلاثة! ثم رأيت لزاماً علي أن أرفع من معنوياتها كمكافأة بسيطة لمثابرتها وصبرها معي في تحويل عقبات الحياة هنا إلى حنفيات حياة، ربَّت على ظهرها عدة تربيتات بيدي اليسرى التي كانت تمتد وراء ظهرها مضطجعة على سطح ظهر الأريكة خلفها، ثم ضممتها إلى صدري بذراعي اليسرى وقلت لها بهدوء قرب أذنها:

إذا كنا نحن أهل السماء والأرض المُظلِمتيْن كما ينعتوننا، فهم أهل القلوب المُظلِمة! وأنا هنا لا أعني تلك المضخة الدموية وإنما ذلك الاصطلاح التاريخي لمركز العاطفة البشرية، نعم يدركون معاني الطاقة النووية والشمسية والرياح … لكنهم لا يفهمون معنى طاقة “الحُب”، يظنونها مجرد مادة صالحة للشعر والأفلام العاطفية!

قلت كلام كثير بعدها غير أنه يبدو أن زوجتي لم تستمع إليه، إذ يبدو أنها غفت على صدري منذ مدة طويلة! ولا أدري إن كان ذلك من فرط تعبها طوال اليوم من عملها معي في المزرعة ثم عملها المكثف لإعداد وليمة أخي، أم لأنني نجحت في إزالة الكدر من صدرها، لا أدري، غير أنني أسرعت بها إلى سريرها ثم عُدت إلى مكتبي لأكتب بعض الانطباعات التي جالت في خاطري لفائدة برنامجي الأسبوعي الذي أُعده لتلفاز كاسيني، المنبر الإعلامي الوحيد الذي يربطنا بالمستوطنات المجاورة، فالآليين هنا لا يهمهم الحديث عن حياتهم! لقد أغراني سكون الليل التام في الغوص مجدداً في ذكريات الطفولة التي أحيتها زيارة أخي، ويبدو أن جرعة الكافيين التي احتسيتها مع فناجين القهوة الأصيلة التي اجترعتها معه قد أطارت النوم من عيناي، فكتبت:

أود أن أحكي لكم عن قيمة هذه الطاقة – طاقة الُحب – هنا في كاسيني، طاقة لا يمكن قياسها كما كان يُردد جَدِّي، لكنها ربطت بيني وبين الآليين بقوة نعم! وهي سبب بقائي طوال عمري على هذا النصف المظلم، الذي جعلته هذه الطاقة – طاقة الحُب – مُضيئاً بشمس دافئة لا يراها غير المُبصرين!

هل استغربت؟ لقد تحدثت منذ قليل مع أخي الذي زارني في البيت عن جذور الفِطر التي نزرعها هنا، فقلت له إنها كناية عن شعيْرات قصيرة واهنة تنبت فجأة! لكنها من القوة بحيث يمكنها إسناد جذع عشبة الفطر كاملاً طوال أيام! هذه الشعيرات الضعيفة تجعل نبتة الفطر منتصبة عمودياً تتحدى الرياح والأمطار حولها، أرأيتم كيف حتى يمكنها امتصاص الغذاء والماء اللازمين للنبتة؟ هذه الشعيْرات الواهنة هي كالحُب! لا تراه .. لا تعرف متى ينبت، ولا من أين يمتص غذاءه وهواءه .. خافت ضعيف الصوت في عمق النفس، لكن تأثيره قوي لا يمكن لأحد إنكاره (إلا الحاسدين طبعاً!)

نعم لقد كتبوا كثيراً عن كُنه العلاقة بين الرجل والمرأة .. كيمياء الحُب كما سماها الأولين .. حيث تجد آلاف الدراسات حول هذا الموضوع التي تحاول إجابة السؤال: ما هو الحُب ولماذا، فأسهبت في شرح التطابقات الجسدية والحاجات الروحية وكيمياء الهورمونات التي شكلت أعمدة وقواعد وشِباك هذه العلاقة، غير أن حُب جميلة للوحش في الموروث البشري العتيق بقيت عقبة أربكت الكثير من الدراسات، ألم ينجح الوحش في جعل جميلة تُحِبُّه قبل حتى أن تعرف أنه في الحقيقة أمير وسيم مسحور؟

لهذا بقى حُب التضاد أقرب عند الأولين إلى السحر المنعش منه إلى الغموض العلمي! ومع ذلك لم تكن قصة جميلة والوحش أسطورية منفصلة عن الواقع، ألا نعرف من تاريخنا القديم وحتى المُعاصر قصص متكررة لتلك الفاتنة التي ولهت بقميء قصير عجوز؟ كما لابد وأنكم تعايشتم مع قصص يتكرر فيها حُب ذلك الوسيم بتلك القبيحة الشمطاء صح؟ لماذا؟ من أجل المال؟ ربما، في بعض الحالات على الأقل، حتى أن البعض يقول إن جميلة ما كان لها أن تُحِب الوحش لو كان فقيراً بلا قصر ولا خدم! مع ذلك عرفنا الكثير من حالات حُب التضاد التي لم تكن من أجل المال صح؟ هنا أتذكر حيرة دوستويفسكي،[9] ذلك الأديب الأرضي الكبير:

لا أعرف كيف يُولَد الحُب، ولا كيف يُوضع شخصيْن اثنين على شمس واحدة، أو كيف يُوزع الليل نجمة نجمة بينهما! ولا أعرف لماذا ترك قلبي جاراتك والنادلة والبائعة، واختاركِ أنتِ!

أما الأولون الذين عجزوا عن تفسير هذه العلاقة فقد أرضوْا أنفسهم بالاعتقاد بأنها قد سحرته!! لكنني هنا أتذكر بشكل مشوش ما قاله يوماً إبن حزم الأندلسي أحد الفلاسفة المسلمين:

“ولو كان عِلَّة الحُب حُسْن الصورة الجسدية لَوَجَب أَلا يُستَحْسَن الأَنْقَص في الصورة، ونحن نَجد كثيراً ممن يُؤْثِر الأَدنى ويَعْلَم فَضْل غَيره ولا يَجِد مَحِيداً لِقَلبِه عَنه”[10]

أي لو كان الحُب للجميلات ما عرفته غير الجميلات! ولو كان حِكراً للوسيمين ما عرفه غيرهم!

لكنهم يتخلصون دائماً من تفسير كل هذا التضاد بقذف الكلمتيْن: “لأن الحُب أعمى”! وذلك خطأ عندي كما قال كاتب أرضي شبه مجهول آخر اسمه ميخائيل نعيمة، فقد قال في أحد أعماله:

“… بل الحُب مُبصِر، لأنه يَنْظُر بِعَين الجَمال فيرى كل شيء جميلا، لذلك كان الحُب خلاصة الحياة، فمتى أحب الناس الناس تقلصت عنهم كل ظلال الشناعة فرأوا كل ما فيهم جميلا …”[11]

ليس إنسان من لا يعطف على الحيوان! كلمات سمعت جدي يرددها نقلاً عن طبيبة بيطرية من عهده، فصارت جزء من مكتبة ذاكرتي الثابتة! لكن ماذا لو صار ذلك الحيوان إنسان مُصَنَّع؟ بشرة حية متحركة؟ أو آلي لا يختلف في شكله ومشاعره عن أي إنسان قديم آخر؟ هذا ما حدث لي هنا في هذا المجتمع الآلي المثالي رغم ظلامه السماوي والأرضي معاً! فكل واحد منهم في حِلِّه وترحاله اليومي مُخْلِص تماماً لعمله الذي صُنِّعً له، ويرى في الآخر سند وشريك ومُعين له في هذه المستعمرة البعيدة المتواضعة، فلم تنبت الصراعات أصلاً بينهم، كأنهم أحبوا بعضهم بعضا، فتقلصت عنهم كل ظلال الشناعة على قول ميخائيل نعيمة، ربما يفرض هذا الرأي نفسه على كل التحاليل والدراسات العلمية التي لا يُريد الكثيرون فهمها اليوم! حيث لن تجد فيها ما يجيب السؤال: وكيف يمكن أن ينشأ حُب بين إنسانة بشرية وإنسان آلي؟ أو بين إنسان بشري وإنسانة آلية؟

على أي حال أنا أستغرب هذا السؤال، فلماذا نستغرب هذا النمط الحديث من الحُب لكننا نتفهم ذلك الذي يتكون بين إنسان وكلب؟ أليست الإنسانة الآلية أكثر تطوراً وذكاء من الكلب؟

لست فيلسوفاً، ولا مُتخصصاً في عِلم الحُب بصراحة، لست سوى مزارع فطر في مكان نائي مظلم هادئ كالقبر كما تقولون، لكن بينما أجول هنا رفقة زوجتي يومياً بين مزرعتي ومكتبي وبيتي، وبينما تكون نائمة بجانبي في الليالي الصناعية التي صنعتها منظومة إضاءة بيتنا الصغير هنا، لا أستغرب حُب الكلب للإنسان البشري، فذلك صار بديهة أرضية قديمة، ولا أستغرب حُب الإنسان البشري لنسخته والعكس، فاللحم والمورثات تجمعهم، لا أستغرب حتى حُب الإنسان البشري لإنسانة آلية، ألم نصممها لتكون أجمل وأرق بين ذراعيْنا بمواصفات تندر في الإنسانة البشرية؟ ألم نصنعها لتكون أكثر إنسانية من الإنسانة؟ ما يُدهشني حقيقة هو .. حُب الإنسانة الآلية للإنسان البشري!

نعم إن جَدِّي – الذي مازالت صورته تتموضع فوق طاولة مكتبي قرب مصباح الإضاءة المعقوف- يستحيل عليه استيعاب هذه العلاقة! لكنني مستغرب منها أنا كذلك، غير أن استغرابي هو لسبب يعاكس سبب استغراب جدي! فكلما جلست أحتسي قهوتي على مكتبي مُتمعناً في مصنعنا العتيق الذي يبدو كنقطة حمراء ضئيلة من خلال النافذة الملاصقة لجانبي الأيسر أتساءل: إنسانة آلية شبه مثالية، خالية تقريباً من الأخطاء العاطفية، ما الذي يجعلها تقبل بالعيْش مع إنسان بشري مُثقل بالأخطاء والعيوب والآثام والكسل، حتى أنها تقبل بالإخلاص له باقي عمرها، فتقوم بجلب قهوته صباحاً وتعمل طوال اليوم معه ثم تنشغل بترتيب ملفات مكتبه قبل النوم … كأي زوجة أخرى؟

نعم أُدرك أن الكثيرون سيقولون إنها صُنِعت من أجل ذلك، لكنني أقصد لماذا لم يتطور ذكاءها لينتج مع الوقت مشاعر استخفاف أو كراهية إن كانت مُجرد ذكاء آلي منطقي صرف؟ أتريدون إجابتي؟ يبدو لي أن هذه العلاقة – بِغض النظر عن كل تلك الدراسات المكدسة في خزانة حاسوبي – لا تنحصر في النوع الحي بقدر ما تسير وفق قوانين الطبيعة التي يسير عليها هذا الكون وعناصره من جاذبية وحرارة وضوء ومغناطيسية وكهرباء … وآلات بالتالي،

لدي تساؤل أهم لمعشر البحاث والعلماء: أليس مبادلة غير البشريين المخلصين لي بالإخلاص أهم من إضاعة الزمن في سعي وهمي مستمر لفهم سِر إخلاصهم؟ خصوصاً لو استمر إخلاصهم لك حتى بعد موتك، فيقومون بدفنك بطريقة بشرية محترمة، رغم أنهم في حياتهم ما عرفوا ظاهرة الدفن البشري؟

لهذا أنصحكم بأن تستسلموا للحُب الصادق متى وجدتموه، فهو جميل، مُنعش، يُنْبِت لك جذور واهنة كجذور الفطر في عمق الظلام! لكنها تجعلك مُنتصباً قوياً وأنت في أعتى أماكن العُزلة والظُلمة، حتى ولو كانت مستوطنة آليين قَصِية في كاسيني … تخلو من الأرواح! وماذا جنينا من أرواحنا غير القلق والتذمر والطمع المتواصل؟ خُذْها من الكائن الفضائي الوحيد المُتَنَكَّب بالروح هنا!

سأختم حديثي بالقول إنه حينما تجد من يحبك رغم عيوبك، فيساعدك في عملك، ويوفر لك كل حاجياتك الحيوية بلا مقابل، ويُخْلِص لك في هذه الظلمة الرطبة طوال أكثر من 20 سنة أرضية وأنت أقل كفاءة منه، دون أن تتطور مشاعره نحوك بالاستخفاف أو الكراهية، فإن المنطق والإنسانية السليمة تقتضيان أن تُخلِص له بالمقابل، سواء كان كلب أو وحش جميلة أو مُصَنَّع مُوَرِّثِياً[12] أو حتى زوجة آلية .. كزوجتي!

23/11/2017 – 14/01/2018


فازت بالترتيب الثالث في مسابقة “الفضائيون” التي نظمتها “الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي” في الفترة من شهر 7 إلى أول شهر 10 سنة 2021

[1]) هكذا يسمى الجوز في طرابلس ليبيا، الذي يسمى “عين الجمل” في مصر.

[2]) إسمه مشتق من الجذر “زَحَل” بمعنى تَنَحَّى وتَبَاعد، حيث سُمِّي زُحَل لبعده عن الشمس، إذ لم تكن الكواكب التي بعده معروفة آنذاك.

[3]) أحد آلهات الأساطير اليونانية القديمة، حيث سُمِّي على أحدها مثلما حدث مع باقي أقمار زُحَل.

[4]) حقيقة علمية، إرتفاعه نحو 10 كلم، عرضه نحو 20 كلم، لكن في بعض أجزائه يصل حتى إلى 200 كلم، مما يجعلها إحدى أطول جبال مجموعتنا الشمسية، أما طوله فبطول محيط القمر ذاته، أي نحو 1300 كلم.

[5]) سُمي هذا النصف المظلم دائماً على الفلكي الإيطالي جيوفاني كاسيني Giovanni Cassini (1525-1712)، مكتشف هذا القمر في أواخر 1671.

[6]) حقيقة علمية حيث تبلغ مساحة سطح هذا القمر 6 مليون و700 ألف كلم2، بينما تصل مساحة قارة أستراليا إلى 7 مليون و692 ألف كلم2.

[7]) حقيقة علمية.

[8]) إحدى الحلويات التقليدية المشهورة في المناسبات في كل من ليبيا وتونس والجزائر ومالطة منذ عهد الدولة الأغلبية وعاصمتها القيروان في تونس اليوم! تصنع قطعه على شكل المعين من السميد وتحشى بعجينة التمر السوداء، ثم تشبع بالعسل قبل وضعها في طاجين في صفوف يوضع في الفرن حتى تتحمر وتتصلب قليلاً، عادة ما يتناول مع القهوة.

[9]) فيودور، روائي وكاتب قصص قصيرة وصحفي وفيلسوف روسي (1821-1881)، واحدٌ من أشهر الكُتاب والمؤلفين حول العالم، رواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في القرن التاسع عشر، وتتعامل مع مجموعة متنوعة من المواضيع الفلسفية والدينية.

[10]) الأندلسي، إبن حزم، طوق الحمامة في الإلفة والآلاف، 1980، دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ص62.

[11]) نعيمة، ميخائيل، كان ما كان، ط11، 1978، مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، ص20.

[12]) هو ما عُرِف باسم الريبليكانت Replicant في الجزء الأول من فيلم الخيال العلمي عدَّاء الشفرة Blade Runner في سنة 1982، الذي يختلف عن النُسخ البشرية، ففي الوقت الذي تكون فيه النسخ مطابقة لنسختها البشرية بميزاتها وعيوبها دون أي تعديل، الريبليكانت مُصَنَّع بالكامل عبر الهندسة الوراثية، أي يتم اختيار وتصميم كل صفاته عن قصد معملياً، وقد اندلع جدال علمي فلسفي في أدبيات عالم الخيال العلمي حول ما إذا كان الريبليكانت يحمل روحاً أم لا.

مقالات ذات علاقة

موت رجل عرس شعب

حكاية الزنجي الأبيض

سعيد المحروق

قصص قصيرة جداً

محمد دربي

اترك تعليق