استيقظ آلي مبكراً على صوت والده وهو يروي قصته مع الأفعى والطريق، كان يعرفها جيداً، بكل صيغها التي أخذتْ تؤثر في أدرهماني. استمع إليها طوال ثلاثين سنة بحماس في أول عشر سنوات ثم فقد الشغف حيالها. في “المنفي الأبدي” كتب عدد منها بأسلوب مختلف واستخدمها في حوارته بحسب السياق. ظل ممداً على سريره يُحدق في السقف محاولاً استعادة ما حدث في اليوم السابق. روتين كامل. عليه دوماً أن يقضي أسبوعاً حافلاً بالأحداث. رفع هاتفه ووجد اتصالات فائتة ورسائل في الواتس من جنيته الطرابلسية. قرأها ورد عليها ثم غازلها وهو يعرف إنها لن تستجيب إلا بعد فقدانه للرغبة. وضع الهاتف وهو يستمع لوالده يروي قصصه لعالية وأمه وأدرهماني ابن عمه الراغب في المشاركة في المعرض الفني بجمعيته المهتمة بالتراث التباوي ويُعاني حقداً هائلاً تجاه القبائل العربية بسبب الحروب الأهلية. مشاعره السلبية فيها نفاق بسبب خياراته الحياتية. كان من الجيد أن يضع في نشاطات جمعيته عملاً كهذا، بلا شك سيقدم تقارير عن أعماله بشكل منتظم لجهات عليا تنتظر منه هذا النوع من النشاطات، لكن آلي رفض قبوله بسبب عدم إيمان أدرهماني بهدف المعرض، هذا الرفض خلق نوعاً من الغضب المكتوم في نفس أدرهماني. نهض آلي من فراشه متثاقلاً ودخل الحمام. حين خرج وجد رسالة من بنسعيد الشاطيء. يود الالتقاء به لأمر مهم، في لقائهما الأخير كان بنسعيد مصراً على معرفة قصص عن الماضي فهو يستعد لكتابة مقالات ساخرة عن الأدب الليبي الحديث، لكنه يتحول إلى تراجيدي مهتم بإظهار جانبه الألومبي، كما يقول عن نفسه ويُعتبر الناقد الأكثر معرفة في ليبيا، فهو يمتلك روحاً هائلة من السخرية ولدى البعض هذا دليل عن التشاؤمية والعدمية، منذ عشر سنوات يُردد أنه لم ير نصاً مهماً في الأدب الليبي، لا يُعتبر نصيراً للأدب الليبي بسبب هذه الآراء ويوصف بالسائح المنهزم أمام الأدب الغربي والراغب باستنساخه عندنا بلا أدنى اهتمام للشخصية الليبية، فدوره لا يهدف لرفعة الأدب أو الفن الليبي كما إنه يُحبط كل محاولة لتقديم شيء جاد. ليبيا في ذهن بنسعيد الشاطئ، أقرب إلى يوتوبيا مستحيلة ولسبب ما غامض تحمس لآلي ورد كو، ففي لقاء مع صحيفة المستقبل الليبي سُئل عن هذا الحماس المفاجئ الذي لا يشبهه فقال: “لأنه صريح للغاية ولديه ما يقوله ويكتب لهدف سياسي حقيقي، فهو يُريد بعث الذات التباوية. أنظروا معي المرات القليلة التي كتب فيها الليبيون لدوافع سياسية شكلوا أدباً رفيعاً وحياً مثل المجوس وليالي نجمة والمنفي الأبدي كتابة تذكرني بقوة الأدب . كتابة حكيمة دون أن تكون مبتذلة”.
بدا آلي مسحوراً بهذه الكلمات، لكنه لم يفقد تركيزه مطلقاً وحافظ على العلاقة عادية بينه وبين بنسعيد الشاطئ، تماماً كما كانتْ منذ لقاءهما الأول ولم يتبادلا الكثير من الرسائل، في لقاءهما الأول اكتشف آلي أنه أمام كيان مختلف بعد عدة لقاءات بينهما قدم له قصة قصيرة كتبها خلال شهر عن صديق غائب. “ليس غريباً أن يكون العمل الأول قوياً”. اكتفى بنسعيد وقتها بهذه الكلمات ولم يُزد عليها ملتزماً الحذر، لكنه مؤخراً بدا مختلفاً، يبذل المديح بشكل مسهب مما جعله عرضة لهجوم رنا السبيدي.
كان يكتب رسالة أخرى لجنيته الطرابلسية عندما وصلته رسالة من بنسعيد: “هل أنت موجود؟”.
فكر قليلاً ثم كتب: “نعم”.
“جيد”. رد بنسعيد ثم كتب: “هناك موضوع أود أن أخبرك به”.
“نعم”. كتب آلي: “لهذا طلبت الالتقاء بي؟”.
“لا يمكنني الانتظار حتى ذلك الوقت”. كتب بنسعيد: “يريدون تقديم جائزة أدبية لك”.
صمت آلي للحظات وهو يحاول استيعاب ما قرأ ثم كتب: “من هم؟”.
“لجنة من الناقد القدامى” كتب بنسعيد الشاطئ: “لديهم قناعة تامة كون المنفي الأبدي الأفضل في الفترة الأخيرة، لا يريدون تفويت فرصة تقديمها كرواية ليبية نموذجية سأرسل لك ديباجة التي سيعلنونها خلال ساعات”.
أرسل بنسعيد: “الأستاذ آلي ورد كو، تسر لجنة النقاد الليبيون القدامى منحكم جائزة الأدب الليبي عن رائعتكم الأدبية المنفي الأبدي. أنجزت عالماً ثرياً وغامضاً من شأنه المساهمة في فهم الجانب الخفي من الشخصية الليبية المعاصرة، فقد قدمت تفسيراً عميقاً عن حياة المواطن الليبي باستخدام قصص قصيرة تاريخية غاية في الإدهاش. نتمنى أن تتكرموا بالحضور إلى مقر الأدب الليبي الحديث. الكائن بحي الحدائق بالقرب من مول الحياة وذلك في تاريخ 20 أكتوبر. يُفضل أن تكون هناك عند الثامنة مساء سيكون لقاء حوارياً وستلتقي بقرابة سبعين عضو من أعضاء النوادي الثقافية ونوادي القراءات الأدبية. سيدير اللقاء نقاد مثل أيمن الشرود وحافظ الفلاح ونوارة السوري وبنسعيد الشاطئ”.
قرأ آلي ورد كو الفقرة غير مصدق لما يحدث، لكنه كان مسحوراً بها.
“ما رأيك؟”. كتب بنسعيد متسائلاً.
“لا أعرف ما أقول، أنا سعيد بهذا”. كتب آلي بعد تفكير، شاعراً بأنه كتب رداً من كلمات سطحية وبلا عاطفة.
“جيد أنك موافق عليها، سأنتظرك عند الخامسة اليوم”. كتب بنسعيد. ظل آلي جالساً بجانب فراشه للحظات حتى استوعب ما جرى للتو، ثم بدأ البحث في غوغل معلومات عن هذه الجائزة الأدبية التي لم يسمع بها من قبل، فوجد إنها أُسستْ في سنة 1978 من قبل الأديب والناقد: منصور الأسدي. عندما بحث عن هذا الأديب وجده يقول في لقاء ثقافي قديم متحدثاً عن رؤيته الشخصية. أحس بخطورة أن يُصاب الأدب الليبي الجديد بمشاعر القلق والخوف جراء الإجراءات التعسفية من قبل النظام العسكري تجاه الأدباء الجدد، ففي السبعينيات القرن الماضي، قمع النظام العسكري الجديد العشرات وسجنهم حتى إن الساحة الأدبية خلتْ من الأدباء الجدد، وأصبح الأدب الليبي مهدداً بالتخلف الفكري، بسبب ضياع جيل كامل وفقدان منحة التواصل بين الأجيال الأدبية. هذا من شأنه التسبب بفقدان الشخصية الليبية لمنحة النمو الفكري. أدرك آلي من خلال هذا أن هدف الجائزة هو تسليط الضوء على الأعمال الأدبية المهمة وإشهارها بحيث تصبح معروفة لدى المؤسسات الغربية، فمن شأن هذا تعزيز الحماية الشخصية والحفاظ على أمن الأجيال الجديدة. مؤسسها نفسه تم القبض عليه وألقي في السجن ولم يخرج إلا بعد عشر سنوات مصاباً باليأس الأخلاقي، بحسب مقالاته ولم يعد إلى مجال الأدب إلا بعد انهيار النظام العسكري. وجد في نفسه مرارة كبيرة لا توافق الأجيال الجديدة وتبعث على روح متشائمة وعدم ثقة بالمؤسسات الثقافية ثم وجد أن الأدباء الجدد أنفسهم يتعرضون لنفس التهديدات الوجودية التي تعرضوا لها هم في الأزمنة الديكتاتورية العسكرية. منذ بداية تأسيسه للجائزة كان هدفه هو توفير الحماية للأدباء الجدد. آلي ورد كو كان أول من سينالها وقد أُعلن بعد محادثته مع بنسعيد أنه الفائز بالجائزة حتى قبل التواصل معه بساعتين كاملتين. في مدونة الأدب الليبي وجد تعريفاً عن حلقة النقاد القدامى: “جماعة ليبرالية مؤمنة بالأخلاقيات الليبية تعمل على التصدي للأفكار المضادة لحرية التفكير سواء النابعة من المؤسسات الدينية أو العسكرية وتحاول خلق جيل أدبي منفتح على العالم ومستعد لخلق خصوصية أدبية محلية والتخلص من حالة اللاكتابة الإبداعية ودفع بالحياة الأدبية لمستوى إبداع العالمي برسائل سياسية وأخلاقية يُمكن مناقشتها في المجتمع الليبي والبحث عن مجالات للنقاش في المجالس الأدبية المختلفة لخلق وجود ثقافي–سياسي مميز ولتشجيع الأقلام الأدبية وتقديم الحماية، وهذا هو الهدف الأسمى للجماعة”.
خرج من الغرفة شاعراً بواقع مخالف ولم يكن استوعب المسألة بعد. في الصالة وجد عائلته متحلقة حول الافطار، جلس معهم. والده والدته وأخته عالية ومعهم ابن عمه أدرهماني. والد آلي أكمل افطاره مبكراً، كوب من الحليب مع قطعة صغيرة من المربى والزبد، انتهى لتوه من قصصه القصيرة وعلامات الانشراح بادية على وجهه بسبب نجاحه في قول كل ما يمليء صدره أكثر من شبعه من الافطار. بدأ أدرهماني في رواية ما سمعه عن قصة إصراره على البحث عن الله، فتدخلت أخته عالية وقالتْ: “خرج قبلها ليوم كامل وقضى ساعات مع الله يتمشيان، وقد طلب منه مصباحاً”. ضحك والده وأدرهماني فيما التزم آلي الصمت.
“طفولته غريبة”. قالتْ أمه بنبرة فيها خيبة أمل. ملئ آلي قعر كوبه بالحليب المكثف وأضاف إليه خيطاً نحيلاً متواصلاً من الشاي الأحمر بصوت خرير عالٍ، وهو يستمع إليهم بصمت، عادة يجب الحليب مغلياً بالمياه المعدنية، لكنه راقب الرغوة المتكونة بتصاعد داخل كوبه، يريدها رغوة ضخمة ثم ارتشف منها مستمتعاً برائحة النعناع، دون أن يهتم بضحكات أدرهماني على قصص والده، فقد روى قصة أخرى: “حين كان آلي صغيراً وزارنا عمه أبو بكر، أحس بالقلق مع إنها ليست زيارته الأولى، لكن آلي لاحظه في تلك الزيارة، حين غادر أبو بكر، جاءني آلي وسألني: أبي، من أرشد عمي أبو بكر إلى بيتنا؟”. ضحك والد آلي بقوة مع أدرهماني وعالية وأمه ثم أضاف الأب : “أغرب سؤال سمعته حتى تلك اللحظة. يُقال إذا عُرف السبب بطل العجب، فأبوبكر كان يقوم وقتها بختان الصبيان، ولا بد أن آلي شاهده وهو يختن أبناء عمه كالبو في تلك الفترة”. ضحك الأب مجدداً: “كان خائفاً من أن يأتي عليه الدور، أتذكر هذا آلي؟”.
“لا أتذكر”. قال آلي ثم شرع في اكمال إفطاره متجاهلاً الضحكات وقصص والده، لكنه كان يتذكر كل شيء عن تلك الحادثة، قطرات الدماء التي تقطر من بين رجلي ابن عمه مرتسمة في ذهنه، فيما يحمله عمهما يوسف محاولاً تفادي قطرات الدماء. المشهد واضح في ذهنه، كان قريباً جداً بحيث شاهد كل شيء. كان ابن عمه أشرف متمدداً فارداً رجليه، وقد رفعوا جلبابه إلى أعلى من خصره، فيما عمهما أبو بكر يطلب من أشرف أن يتطلع إلى السماء الساقطة، حيلة نجحتْ مع الأخ الأكبر، لكن أشرف رفض النظر إلى الأعلى وقال: “لتسقط كما تريد”. عندها طلب العم أن يتم تثبيته بالقوة وهو ما حدث، وانحنى قاطعاً جزء من جلدة الإحليل، وكان مشهداً مرعباً عاش في ذهن آلي طويلاً، رؤيته للعم أبو بكر –ابن خالة والده– في أول زيارة لبيتهم بعد تلك الحادثة جعلته في حالة عصيبة وطوال الوقت، وهو يشاهده يتحدث مع والده بشيء من الاسترخاء، يشعر بالتهديد. حين غادر سأل والده عن من أرشده إلى بيتهم. والده لم يفهم سبب السؤال لفترة طويلة، بعد سنوات شرح لوالده سبب سؤاله وهو ما أثار عاصفة من الضحك، استمرتْ لسنوات. والد آلي جعل نفسه الملاحظ ما وراء سؤاله طوال هذه السنوات، وهو ما يغيظ آلي. قال في حواره مع صحفي تونسي: “علاقتي بأبي غير صحية تشابه علاقة والدي بجدي”.
ضحكات أدرهماني علتْ كثيراً، تجاهله آلي وواصل إعداد شطيرته، أخذ والده يروي قصة أخرى: “في مرة جاءني يبكي من المدرسة، لما سألته عن السبب قال أنه تعارك مع أحد الصغار، وأن والد الصغير ضربه. سألته أن كان ضربه وحده، فأكد لي هذا، وقال ضربني أنا ولم يضرب ابنه، لذا أخذته معي في السيارة إلى بيت ذلك الرجل، ولم نجده في البيت، فكتبتُ مُلاحظة صغيرة وتركتها له عند صلاة المغرب جاءني الرجل مستعجلاً برفقة مدير المدرسة، قال لي أنه لم يضرب آلي ولم يمد عليه يده، طلبتُ أشرف ابن عمه المرافق له في المدرسة كشاهد فقال أن الرجل لم يضرب آلي، هكذا انتهى الموضوع”. التفت الأب وسأل ألي بنبرة فيها شيء من سوء الطوية: “هل ضربك الرجل يومها، قل الحقيقة؟”. استعاد آلي داخلياً ما وقع في طفولته أي قبل أكثر من عشرين سنة، لكنه لم يجب والده، واصل تناول شطيرته مع رشفات من كوبه. والده صدق الرجل، ظل يُصدقه كل مرة يعيد رواية القصة. آلي حانق.
عندما أنهى إفطاره كانتْ الأحاديث تشعبت وجاء النقاش حول الثقافة التباوية الحديثة وإنهم يحتفلون بها كل سنة في يوم 15 سبتمبر عندها قال آلي: “لا أعترف بهذا اليوم”.
“بأي صفة ترفض الاعتراف؟”. سأله والده، ولم ينتهى من قصصه.
“بصفتي تباوياً واعياً للتصرفات المجانية، أرفض يوم الثقافة التباوية”. قال آلي دوماً ما كان يفقد الحكمة في الحديث باللغة التباوية، لا يُمكن السيطرة على هذه اللغة القديمة.
“وما البديل، برأيك كمثقف تباوي؟”. سأل أدرهماني بحنق وتحفز: “إذ لا وجود لرفض بلا اقتراح بديل”.
“لا تسأل عن البديل عندما تمنع شخصاً من تجرع السم، أنت فقط تمنعه ولو بالقوة، الثقافة التباوية الحالية سم يتجرعه التبو، وسيتسبب بأضرار جانبية خطيرة قد تسلمهم للتيه”.
“أترى أن الاحتفال باليوم الثقافي للتبو تجرعاً للسم؟”.تساءل أدرهماني. “لا تقل هذا يا ابن عمي؟”.
“نعيش نفاقاً كبيراً في حياتنا، لن يمنعنا هذا من قول شيء واضح، لا نجبر أحداً على التصديق ما نقوله، فقط نقول أن ما يحدث حولنا تدمير بطيء”. آلي قال هذا وارتشف من كوبه ثم أضاف: “الاحتفال بذاته ليس سيئاً. في صغري أحببتُ هذه العروض الثقافية لأنها تجعلني أقرب لثقافتي. كانتْ تقام وسط أحياءنا السكنية وتفيد مجتمعنا التباوي، ترفيهاً وتثقيفاً. سأعلن وجهة نظري حول يوم الثقافة التباوية بلا نفاق. لا أعتمد أن هذا اليوم لشيء، لا ثقافياً ولا تباوياً. لا تغضب أدرهماني سأكون قاسياً وأقول أسبابي في نقاط وسأضطر لإستعمال التاريخ في سبيل ذلك، لا تعتقد إني أحاربهم شخصياً، لا أحتاج لهذا، فهم يحاربون أنفسهم. أولاً: يوم 15 سبتمبر 2017 تم التصريح لإقامة معرض ثقافي تباوي في بنغازي وتم تخصيص حديقة الحيوانات البوسكو لإقامة الاحتفال، من هنا بدأ هذا اليوم وهذا وحده كافي بجعله عاراً أكثر من كونه دعماً للثقافة التباوية. ثانياً: العروض الثقافية الحقيقية قبل كل شيء، دوماً تكون مرتبطة بالأرض للإثنيات المختلفة وهي بمثابة دروس أخلاقية للأجيال التالية، تشجع الابناء وترسخ الهوية في عظامهم لينمو مع لحومهم ودمائهم، لكن التبو في يوم الثقافة لا يفعلون هذا، بل يقدمون عروضاً ترفيهة للبيض في المدن الكبرى، وهو تصرف مشابه لما كان الاستعماريون الأوروبيين يجبرون الأفارقة السود على القيام بها. كانوا يجلبون بالاغراءات المادية والمعنوية للحدائق الحيوانات البشرية human zoos السود كانوا يعتقدون أنهم يقدمون ثقافتهم للبيض. الحقيقة البشعة، مختلفة. البيض استخدموهم لإثبات تفوقهم العرقي، الدليل العيني، هو وجود الثقافات السوداء داخل حدائق الحيوانات والمنتزهات وحدائق القصور لديهم. تذكر يا أدرهماني مجدداً ما قلته لك في النقطة رقم 1، يوم 15 سبتمبر بدأ داخل حديقة حيوانات في بنغازي. ثالثاً: خلال حديثي مع أحد أعضاء اللجنة الدستورية قبل سنوات، أشرت له أن استخدام مصطلحات مثل أقلية وشعوب أصيلة لن يقودنا إلا إلى أن نجعل من أنفسنا راقصين للأجل الترفيه عن الآخرين، بما نسميه الثقافة أو فلكلور ، سنكون بضبط مثل الهنود الحمر في امريكا أو السود الآخرين في ليبيا، بلا رأي سياسي، فقد راقصين في العروض، لأننا لن نكون جديريين بتكوين رأي سياسي. رابعاً: بعد سنوات سنضع في أذهان الجيل الليبي القادم تُظهر التبو بمثابة عارضين في الحدائق العامة، أطفالنا سيكونون مجرد عارضين مكرسين للترفيه، سيكون هذا هدفهم الأسهل، نفرغ عقولهم من العمل السياسي منذ هذه السن المبكرة، ونبتذل تاريخنا السياسي الذي دفعنا فيه عشرات الألآف من الدماء على مدى القرون، لأجل أن نكون بضاعة يتاجر بها بعضنا بدافع قومية كاذبة، ثم حين يكبر صغارنا، سيكونون في خانة واحدة، وقد شاهدهم بقية سكان ليبيا وهم في زوايا وبملابس تراثية مزخرفة مثل الحيوانات البشرية. لا يمكن للحيوان البشري أن يطالب بأمر سياسي، هذا ما سيكون عليه مستقبلنا القريب القادم، نعيش داخل محمية كالحيوانات. صغارنا لن ينسوا أنهم ليسوا إلا عروضاً ترفيهة. قد تسألني وماذا علينا أن نفعل بثقافتنا الصحراوية، آلي؟ الجواب بسيط يا أدرهماني، وهو علينا أن نقيم عروضنا في مناطقنا السكنية، هكذا على الأقل سنعلم أطفالنا حب ثقافتنا التباوية مع حب الأرض دون جعلهم ترفيهاً للآخرين. عندنا في ليبيا القومية خرقاء وتعلن آرائها العنصرية بشكل فج وتخوض قتالات دموية بلا هدف، كيف تأخذ يومك الثقافي في مثل هذا الوضع غير الصحي. هناك شيء آخر أعتبره السم الأشد فتكاً: العشوائية القاتلة التي تسير أمورنا، نجد قضايانا بفضل أمر الواقع من قبل أشخاص محدين، يتاجروا بكل شيء وإن هذه الشخصية التجارية بدأت تصل للأجيال الجديدة، قوالب جاهزة تتحرك بشكل عشوائي وتستجدي فعلاً مهما كان، وفي ذهنهم أن كل شيء سهل، سهولة تصل لحدود الابتذال. قضية شعب بأسره هو مجرد طموح غبي لثلاث أو أربع شخصيات نصف عاقلة ويكرهون بعضهم بشدة، لا يتفاهمون ولا يُمكن التفاهم معهم، أسلحتهم هو فلان يحسدني وفلان يحاربني، ويكون فلان أبدى حقه في المعارضة فقط. التبو الحاليون ليسوا مؤهلين لفرض شيء مقدس مثل القضايا السياسية نحتاج لسنين من العمل الدؤوب لإصلاح كل شيء تم ابتذاله، لنقدر على اتخاذ قرارات نهاية فيما يتعلق بالثقافة والسياسة، نحتاج لعقلية أكثر معرفة وقدرة على الاستنباط، حالياً نرزح تحت سلطة شخصيات تافهة مكونة من أفاقين ولصوص وسارقي الأفكار”.
بعد لحظة صمت، حملتْ عالية الأطباق ولحقت بوالدتها، وقال أدرهماني: “تريدنا أن نظل مثل الصخور بلا حركة”.
حزن آلي لأنه لم يستطع ملامسة وجدانه.
“لا، لم أقل هذا، لكنني أقول التحديد الحاسم في القضايا ليس وقته، أنا أدافع عن حرية القرار السياسي للجميع، أبعد شبح الخيانة عن المخالفين، وأرفض أن يحدد أفراد منا مصير شعبنا ومن دون أخذ رأي أحد، خصوصاً أن هؤلاء لا يمثلون الطبقة المثقفة المعترف بها، ليسوا سياسيين ولم يخرجوا من أحزاب منظمة وواضحة، بلا خطط ولا مشاريع،فقط مشاعر منفلتة للتقليد والغباء، يستيقظون صباحاً ويقررون في الظهيرة وينفذون في العشية ويفشلون مع نهاية اليوم، ويكررون نفس الروتين في اليوم التالي”.
“اسمع آلي”. قال أدرهماني: “لا أريد أن أبدو كمعارض لك يا ابن عمي”. قاطعه آلي قائلاً: “أنت كذلك حقاً”. لكن أدرهماني تجاهله وأكمل فكرته: “بالنسبة لي أنت أفضل من كل هؤلاء، أنت تعمل بصمت، ولكنني أريد أن أقول، أنت أيضاً استيقظت في الصباح وقررت أن تكون كاتباً، ثم كاتب سيناريو ومن ثم مخرج أفلام وتعد حالياً لمعرض فني لقومية التباوية، لماذا تفعل أنت ما تعمل على منعهم عن فعله لأجل نفس القومية، ما الفرق بينك وبينهم؟”.
“الفرق هو إنني قدمت سنوات لفهم ما أعمل عليه، لم أتٍ بين يوم وليلة منذ قرابة عشرين سنة أعمل لأغدو كاتباً، الجميع يعرف هذا، الأفلام وكتابتها أيضاً من صميم عملي، لست متطفلاً، ولم أستيقظ صباحاً لأغدو شيئاً ما بل عملت لأجل أن أصل لما أنا عليه، عملي نتاج كفاح طويل، ويصمد أمام كل الثقافات بعكس صناع الثقافة التبو حالياً مجرد رغوة بلا قيمة وتحته لا شيء”.
آلي منتشي بسبب سماعه عن الجائزة التي ستُقدم له.
كان والده يتطلع تجاهه بشيء من الخيبة.
“أنت تعاني نقصاً من قومك؟”. قال والد آلي.
“لماذا تعتقد إني أعاني نقصاً، هل لأنني أرفض يوم الثقافة التباوية؟”.
“لأنك لا تعتز بأهلك”.
“وهل الاعتزاز بأهلي يعني أن أمشى كالأعمى حتى وراء أخطاءهم؟”.
“في طفولتك بدأت البحث عن الله”. قال أدرهماني متدخلاً لإنهاء تصاعد الموقف بين آلي وأبيه: “كأن هذا عنواناً لحياتك، الباحث”.
بعد لحظة صمت.
“البحث عن الله هدف بشري منذ بداية التاريخ”. قال آلي بسخرية: “لا غرابة في هذا، لابد أن أحد أجدادي جلس في لحظة عاطفية وتساءل عن المعنى ولا بد أنه جد شجاع ولم يهتم لأهله وفتح بوابة جديدة قادتنا إلى الله”.
“بالنسبة لي اعرف إن الله جزء من حياتنا حتى قبل الاسلام”. قال أدرهماني.
“لا شك لدي في هذا، وجود الله تحقق كثيراً”.
“قبل فترة لاحظت حوارك مع جمال أدي”. قال أدرهماني بهدوء: “رفضت تماماً فكرة كوننا عبرانيون”.
“هو لم يقل أننا عبرانيون، فكرته كانتْ أننا كنا يهوداً، وأمتلك ثلاث أدلة في مقالته القصيرة، حول هذه الفكرة، لو كنتُ أتذكر جيداً، فقد قام بحظري من صحفته بعد نقاش فوضوي، لكنني أظن أنه تحدث عن نجمة داود وتابوت العهد كما ذكر اسم يهوه، وقال أن تبو يستخدمون هذه التسمية للتعوذ به، وقتها ناقشته حول هذه النقاط، لم أفند فكرته، لكن تعجله أثار غضبي، ولو كنت تتذكر حوارنا فأنا لم أظهر هذا الغضب فقط قمتُ بتفنيد كل نقطة على حدة، فنجمة داود ليست خاصة باليهود، شعوب كثيرة من المنطقة استخدمتها ففي مساجد مصرية كثيرة تظهر النجمة السداسية باعتبارها زينة إسلامية من القرن الثاني عشر وإن اليهود لم يستخدمون النجمة السداسية كشعار إلا في فترة متأخرة، أظن في براغ في القرن السابع عشر وهي فترة متأخرة جداً من التاريخ، التبو تعاملوا مع المصريين قبل أن يتعاملوا مع اليهود وإن كانوا يستخدمون هذه النجمة فإنهم أخذوها من المصريين أو إن هذا احتمال ينافس فكرة كونهم أخذوها من اليهود، لا يمكننا تجاهل وجود هكذا فرضية، هل ترى ما أعنيه يا أدرهماني، كما تحدثتُ أيضاً عن فرضية التابوت العهد فقد وجد جمال أدي في أحد الكتب، ربما لأحمد بن فرتو وهو كتاب يسرد تاريخ الحربي لإدريس أللومة، الحاكم القوي، تقول المعلومة أن التبو يحملون أثناء حروبهم تابوتاً يطلقون عليه اسم الموني، فافترض جمال أن الموني ليس سوى تابوت العهد الخاص باليهود، تخيل كيف ربط هذا، لأنه صاحب مواهب كبيرة اعتبر أن الموني قادمة بلا شك من Testimony وهذا مضحك يا أدرهماني أشعر بالسخافة حتى لمجرد أن أخوض نقاشاً مثل هذا، لست متخصصاً في التاريخ ولا في الأديان أو حتى اللغات السامية، لكن في اللغة العبرية لا يستخدمون للتابوت العهد تسمية مشابهة للإنكليزية، فالتابوت في العبرية تنطق أرون هابريت Aron Ha-Brit يمكنك أن تفهم مكمن الخطأ، ثم قلت له اسمع: في تاريخ المنطقة ظهرت دولة شعية وهي الدولة العبيدية–الفاطمية وفي التاريخ الشيعي أيضاً هناك تابوت مقدس لا أعرف عنه الكثير إلا إنني أراه كافترض آخر، فالدولة العبيدية ظهرت في فترة قريبة من دولة إدريس اللومة التي يكتب أحمد بن فرتو حروبها، كن منتبها هنا لا أقول أن التبو تبنوا المذهب الشيعي ولا أنفيه، فقط افتراض آخر، فلماذا نقفز إلى فرضية معينة، لا أفهم هذا الجنون الغريب، أصبر معي قليلاً، فالفرضية الثالثة والمتعلقة باسم الله في التاريخ يهوه ويقول أن التبو يتعوذون به، وهو شيء لا أريد أن أنفيه، ليتعوذ التبو بمن يشاؤون، لكن هذا لا يجعلهم كما يود أن يكونوا من مجرد تسمية، فاليهود أنفسهم تعلموا عشرات الأسماء من حضارة الأوغاريتية الكنعانية، ولم يجعل تعلمهم هذا أوغارتيين كنعانيين. كتبت له هذا وأخبرته أن التبو يستخدمون تسمية أخرى وهي إيلا شيداى EL Shaddai كتبت هذا وقبل أن أفصح عن فكرتي، رد كاتباً إنها كلمة حديثة وجاءت مع الاسلام وبدا منتصراً في كلماته وهذا زاد من سخف الموضوع، لا أفهم لماذا يود التشبث بفكرة واحدة وترك عشرات الخيارات، أردتُ التوضيح فقلت إيلا شيداي أقدم من الإسلام في الحقيقة هو اسم أقدم من الديانة اليهودية، تعلمها اليهود من الأوغارتيين، ربما من حضارات أقدم، أذكر إنني ألقيت كل ما أعرفه عن EL Shaddai كما كتبت له عن إله El Olam وأدرت اطلاق فرضياتي حول اسطورة آلي اليماي، لكنه حظرني من حسابه فتوقف النقاش”.
صمتا للحظة، كان الافطار أصبح شهياً بالنسبة لآلي، جسده متوافق مع روحه وذهنه، كل شيء فيه يعمل على نحو مثيراً للدهشة، يكاد يضيء. عندها تحدث أدرهماني عن تاريخ الأقليات والشعوب الأصلية، ولم يكن آلي يهتم بهذه التوصيفات يعتبرها وسيلة لخلق طبقات أوليغاركية وقادة متعصبين على غرار شيوخ لقبائل محتقة وشباب غاضب بكلمات كبيرة من دورات المناصرة والمجتمع المدني.
“أنت تقول شعبنا، لكنك بعيد عنه، تعمل مع شعب في ذهنك الخاص”. قال أدرهماني وهو يتناول لقمة أضافية: “فهمك ليس حقيقياً، أنت لم تحضر أي حرب تعرضنا له في أحياءنا السكنية”.
“حضور حرب لا يجعلك أكثر ذكاء”. قال آلي.
“لكنه يجعلك تعرف أعداءك”.
“لكنه لا يجعلك تعرف تاريخك”. قال آلي بحدة واضحة: “وهو شيء يصعب معرفته باستخدام الغضب فقط ولا شيء يأتي بسهولة”. عندها بدأ والد آلي يروي قصة أخرى عن ذهابهم في التسعينات إلى الالتقاء بالقذافي وقتها، انتظروه لفترة طويلة، تدخلتْ بعض القوى القومية لمنع ذلك اللقاء المرتقب، تم تعطيلهم لمدة شهر ولكن بتدخل بعض الرجال النافذين وبسبب التعارض المصالح بين القوى في العاصمة وبلدة تازر، استطاعوا الدخول على العقيد الليبي، فاستقبلهم بسؤال غامض ومستفز: “متى أتيتم إلى ليبيا؟”. وقف الشيخ القبلي التباوي وتحدث باللغة التودا كا معلناً أنهم لطالما وجدوا في أرض ليبيا من عصور سحيقة، ولم يأتوا إليها في أي عصر. “جميع الغزاة أتوا والتبو هنا، جميعهم غادروا والتبو هنا وأنتم ستغادرون وسيظل التبو هنا”. فتراجع العقيد معللاً أنه يقصد متى أتيتيم إلى العاصمة وقال أنه سمع عن انتظارهم الطويل. هذه القصة السياسية تعتبر القصة الأفضل لدى كل تباوي، إنها المواجهة الأشهر في التاريخ التباوي السياسي الحديث. اعتبرها والد آلي تعاملاً فوقياً نموذجياً فيما يتعلق بالثقافة التباوية في مواجهة الدولة الليبية التي ترى الفعل السياسي في كل تصرف أثني.
قام أدرهماني قائلاً وهو يستأذن: “محمد يريد شراء سيارة تاندرا ويريدني أن أذهب معه، هل ستخرج اليوم، آلي؟”. قال والد آلي: “متى يشبعون من أموال التهريب والمخدرات؟”. لم يجد أحد فرصة الرد عليه فقد قال آلي: “سأظل هنا حتى الثالثة ثم أخرج لموعد خاص”.
“جيد ربما سأتي به إلى هنا، كان يسأل عنك”. ولم يأت به. قرأ مقالة بطابع احصائي تلخص رؤية غوستاف ناختيغال ورؤيته للوجود العربي في حوضي تشاد وشاري لعماد الدين غانم. تمرن قليلاً. استحم وخرج ليتجول عبر المدينة ومر بموقع المعرض. تغدى في مطعم قريب. وأوقف سيارته في الكورنيش وتحدث مع جنيته الطرابلسية حتى الثالثة والنصف ظهراً، عندما اتجه لموعده. فقبل أسبوعين التقى ببنسعيد الشاطئ أمام مقهى صغير عند مخرج شارع عشرين. كانتْ معضلاته المتعلقة بمقالات ابنة المدينة أو رنا السبيدي بدأتْ للتو، لا يعرف بالتحديد من وراءها، ربما بنسعيد الشاطئ نفسه سبب هذا العبث المفتعل، فهو مثل شياطين بولغاكوف يعيش على إيهام الآخرين.
كان آلي خارجاً من المقهى، فناداه بالاسم. التفت ناحية الصوت وبدأ شبح لغريب بالاقتراب منه. استغرق ثوان حتى استطاع معرفته. بدا مسناً مقارنة مع المرة الأخيرة التي تقابلا فيها.
لا بد أن القادم أدرك سبب تبدل ملامحه.
“أمعقول تقصد إني كبرت لدرجة نسياني؟”. هتف بحماس مفتعل فأيقن آلي خطئه. ابتسم آلي مستعيداً شخصيته القديمة معه، باعتباره قارئاً مدواماً لمكتبته وقال مبتسماً: “حيرتني المفاجأة، وقت طويل”. مد يديه مصافحاً، فشده الرجل إليه وكان قوياً مثل بحار روسي. حنطي البشرة ممتلئ الجسد بقامة قصيرة وتفوح منه رائحة المجلدات القديمة والخشب الرطب والغراء.
تساءل بنسعيد عن سبب غياب الناس مؤخراً، فلم يجد آلي فرصة لتقديم إجابة كاملة ثم بدأ بإمطاره بأخباره الشخصية وعن سماعه الكثير حول العمل الأدبي الخاص بآلي، وبدا مبتهجاً، لأن الأخير نجح في أن يصير روائياً. علاقتهما توطدتْ بسبب قصة قصيرة، أنجزها آلي ورد كو.
كان هذا قبل سنوات طويلة.
“ما في أي غرابة من عمل أول قوي”. قال آنذاك، بدا مهتماً. بعد أحاديث مسهبة بدأ بنسعيد الشاطئ يتحدث بانتشاء عن رحلته إلى روسيا وأخبر آلي عن هذا بسبب اندهاشه من تلك المحادثة التي استغرق فيها بنسعيد مع مجموعة سياح من أوروبا الشرقية بلغة بدتْ غريبة. أثبت للعالم أنه متفوق في الثانوية الجوية، تعلم ست لغات حية، فغرفته بالثكنة العسكرية ببطرسبيرج سميتْ بمقر الأمم المتحدة المصغر بسبب من تلك اللغات المتداولة فيها.
أراه مجلداً روسياً عتيقاً وفي الصفحة الداخلية للمرة الأولى شاهد آلي ورد كو صورة لتولستوي. لطالما افتخر بنسعيد بمجلداته الروسية أمام أصدقائه وبقصصه الشخصية مثل قصة هروبه من مبنى الثكنة العسكرية لقضاء ليلة مبهجة بصحبة رفاقه ثم تورطوا في مشاجرة مع أمريكيين لاتينين سكارى. روى بأسلوب مسرحي كيف قام بطي مقود سيارة فيما رأس أرجنتيني ثمل محشور فيه.
كشف عن ذراعيه القويتين مثل ملاكم متمرس وعندما لاحظ اهتمام آلي بقوته الجسدية. استعرض ذراعيه كأنهما هراوتان وتساءل بتفاخر: “حسناً، كم تعطيني من العمر؟”. تطلع آلي إلى يديه بهدوء وفي وجهه وفكر قليلاً ثم قال بنبرة الحكماء: “خمسون، أنت في الخمسين”.
شاهد آلي تلك الغلالة من خييبة الأمل تُسدل على وجهه الدائري المكتنز. كان ذلك خبثاً منه. قال بنسعيد بوحي من تلك الخيبة الطارئة: “لا فرق، أنا في السادسة والأربعين، ليس هناك الكثير حتى أبلغ الخمسين”.
عندها أحس آلي بالأسى، فقد بدا مظهر بنسعيد شبابياً بالفعل. حدث هذا في عام 2005، بعد يومين من تعارفهما أدرك آلي إنه في لقائهما هذا انكسار داخلي غريب أصلح من نفسه بسبب الزمن المنقضي.
“أين كنت كل هذه السنوات؟”. سأل بنسعيد وهو يربت على كتف آلي الذي أجاب بغموض: “واصلت رحلاتي”. هكذا وصف ما حدث في كلمات قليلة: “أنجزتُ روايتين وفيلماً راقصاً، حالياً أعد لمعرض فني”. لثوان اعتقد إنها انجازات شحيحة بمقارنة مع السنوات الضائعة.
“جميل، عرفتُ عن هذا”. قال مبدياً ابتهاجه الصادق: “سمعتُ أنكم ستعرضون الفيلم قريباً، قرأتُ عن معرضكم الفني”.
هز آلي رأسه متفهماً ودعاه لحضور افتتاح المعرض، فأبدى بنسعيد حماسه متسائلاً عن أصداء روايتيه: محنة الإرشاد الذاتي، والمنفي الأبدي. فشرح آلي بغموض بعض الآراء التي قيلتْ عن الروايتين، وعد بتقديم نسخ موقعة له. ابتسم بنسعيد الشاطئ من المزحة مظهراً فهمه للمقصد التهكمي والسعادة تشع من عينيه لحميمة الموقف. أوقفا تاكسي كانا على وجهة واحدة. بدأ بنسعيد يتحدث باسهاب عن حياته الشخصية. الطرقات مزدحمة. هناك كثير من الأبواق. موسيقى الراب من بعض السيارات والمحال الخاصة بالرقميات الليبية. ما واجهه كان مهماً، فالانتكاسات المتعددة لأعماله الأدبية وفقدانه لمخطوط مجموعة مقالاته وكل ما كتبه في صحيفة العرب اللندنية. ضحك بصوت عالٍ، فقد وجد المخطوط مجدداً بعد شرائه لمكتبة قديمة من عائلة صحفي متوفي. “الصحفي سرق مجموعة مقالاتي، أتصدق؟”. قال هذا ضاحكاً غير مبالي بردة الفعل مؤكداً أنه لم يلتق بالصحفي ولم يحل أحجية وصول المخطوط إليه ولم يعد يعرف الكثير.
ظل يلتفت واصفاً بيديه حجم الارهاق الذي عاناه مع المجلدات وتأسف مجدداً على الأوفياء من القراء ثم سأل آلي عن قراءاته، فأخبره عن بعض الكتب التي شرع بمطالعتها، فهز بنسعيد رأسه بلا اهتمام، وأطلق تنهيدة وسأل آلي عن بعض الكتب الأخرى، فخاضا نقاشاً هادئاً تفاهما جيداً حول الملل وتغير أحوال البلاد وكساد كل شيء متعلق بالكتب.
بعد قرابة عشرين دقيقة وصلا لمكتبة صغيرة مثل حلم سلس. نقد بنسعيد السائق وداعا آلي إلى المكتبة، التي تحمل اسم مكتبة الأرشيف التاريخي قرأ آلي العنوان واستعاد ألفته من تاريخه الشخصي، للمكتبة بابين: حديدي مفتوح وزجاجي مقفول، انشغل بنسعيد بمعالجة الباب الزجاجي. بدتْ مكتبة شحيحة والأرفف ملتصقة بالجدران والكتب جديدة مصطفة بعناية ممتعة للبصر وفيها شيء عنيف وغير طبيعي مثل العروض العسكرية الصينية. جال آلي ببصره وجسده تلك الأرفف، إصدارات جديدة نسبياً، وليست بتلك المكتبة التي تخيل أن بنسعيد يُحب الجلوس وسطها، فهو مثلاً يتخيله دوماً بين أرفف مغطاة بطبقات من الغبار وحاملاً بين يديه مجموعة من المجلدات القديمة، لكنه بدا مختلفاً وراء هذه الطاولة الزجاجية وفوقها جهاز كمبيوتر، لم يعد كما هو في السابق، فمد يده مرحباً بكلمات ودية، جلس آلي على الكرسي في مقابله.
فكر أنها: “ليست مكتبة، بل مكتب”.
“اختفى الأوفياء”. تحسر بنسعيد، فشعر آلي بالذنب، ولم يعقب، تاه في خيالاته ثم رفع رأسه كأنه خرج من تحت الماء.
بعد لحظات من الصمت، إزداد بنسعيد جدية.
“قلبتُ في أوراقي القديمة”. قال بجديته الطارئة وبدا مهتماً هذه المرة: “لقيت قصتك اكتشاف مخطوط”. قال هذا وصمت لثوانٍ منتظراً ردة فعل من آلي أو اعتقد أنه نسى القصة، لكنه لم ينسها منذ قدمها إليه بعد اختفاء أحد أهم الشخصيات في حياته، غياب غامض.
قصة بحث عن مخطوط قديم.
“مدهشة فكرة الجمعية التاريخية وأسرار المخطوط الغدامسي، قصدي بصدق كيف لقيت هذه الفكرة؟”.
“أنت تعرف، فكرة شائعة، كتبتها قبل عشر سنين”.
ابتسم وفتح درجاً من كمودينو جانبي أخرج ملفاً وألقاه على الطاولة كأنها صفقة القرن، فشاهد آلي الأوراق أسفل الغلاف الشفاف وقفز قلبه من مكانه، وقد عرف تلك الأوراق، فسحب الملف ووجد أمامه ورقة قديمة في منتصفها كتب عنوان القصة بخط يده اكتشاف مخطوط: وقائع البحث عن الأرشيف التاريخي. لم يعتقد آلي بإمكانية مفاجأته بهذا القدر. استغرق شهراً لانجاز القصة المكونة من خمسة عشر ألف كلمة. حمل المخطوط بين يديه وبدأ في قراءة الصفحات، بعد ثلاثة عشر سنة من كتابتها. فوجد نفسه مجدداً داخل تلك الغرفة الدوستويفسكية من عام 2005 مئات الذكريات المنسية، هاجمتْ مخيلته، صورة لفتاته زارا وهي تبتسم ببشرتها المشابهة بتربة مروية، كان محاطاً بالخشب الرطب والجدران التي يتساقط طلاؤها واستمع بانتباه التلاميذ للأحاديث الطويلة وضحكات زارا واشتم رائحة التراب بعد المطر ثم رأى قفزاتها بين البرك المائية، ففي الأوراق المزيد من القصص الشخصية. الوحدة القاتلة. الألم الجسدي والتيه في دوامات الماضي، شاهد مقطعاً طولياً لوجه صديقه الغائب، فقدان الشهية، أيام من الجوع. طوال إحدى عشر دقيقة أحس بمشاعر مختلفة وقبل أن يذرف دموعاً، رفع رأسه نحو بنسعيد الشاطئ المحدق في وجهه باهتمام المريدين.
“هذا مدهش”. قال آلي مبرراً صمته.
“قصة رائعة، قلتها لك وقتها، وبصدق تام أقولها لك مجدداً”. لم يعقب آلي آنذاك ولم يعقب مجدداً. استغرق ساهماً في ذكرياته الخاصة.
“القصة تتحدث عن اختفاء صديق، الرغبة في إيجاد مخطوط غدامسي قديم ويدور حديث عن أرشيف تاريخي بمثابة العقل الموجه للأرضي الليبية طوال مائتين وخمسين سنة، غياب الصديق عنده علاقة بالأرشيف التاريخي”. هكذا لخص بنسعيد قراءاته للقصة، ولم يعلق آلي بشيء، واصل التطلع نحوه بشيء من الاهتمام السطحي، تحت تأثير الذكريات الحميمة. “أنت تلاحظ استخدامي للأرشيف اسماً لمكتبتي”. صمت قليلاً ثم أضاف: “ما أود اكتشافه هو حجم معرفتك عن المخطوط القديم بصدق أهو حقيقي؟”.
فكر آلي في سؤاله قليلاً ثم قال: “هي قصة خيالية صرف”. عندها فتح بنسعيد نفس الدرج ثم ألقى أمامه على الطاولة الزجاجية ملفاً شفافاً آخر، أخرج منه قصاصة قديمة بنية اللون، آلي أدرك أنه يعرفها جيداً. قدم القصاصة له وعلى وجهه ابتسامة حضر لها طويلاً، آلي في شباك عنكبوت بخطة محكمة.
“إقرأ هذه المقالة”. قال مقترحاً، أمسك آلي بالورقة الصغيرة، فأدرك أنه محق في معرفته بها، إنها قصاصة من صحيفة الحقيقة، مقالة تحليلة كتبها شخص يرمز لنفسه بحرفي: أ.أ. قرأ القليل منها، فهو يحفظها عن ظهر قلب ورفع بصره نحوه ولابد أن علامات الإعياء ظاهرة في وجهه، هكذا فكر آلي بسبب علامات القلق التي ارتسمتْ على وجه بنسعيد، الذي بدأ بتوضيح موقفه: “أتذكر أنك طلبت وساطتي للدخول قسم الأرشيف والدوريات بدار الكتب الوطنية عام 2007، صحيح؟”.
“صحيح”. ردد آلي باستسلام.
“وقتها أرسلتك لأحلام الصويب، رئيسة قسم الأرشيف”.
“صحيح”.
“أهي قصة حقيقية، الجمعية التاريخية؟”. سأل وهو ينقر بسبابته على جملة من كلمتين صغيرتين مخطوط غدامسي. “المقالة نشرتْ عام 1968 وقصتك اكتشاف مخطوطكتبتها عام 2006 غريب بالفعل، كنت تعرف عن المخطوط من قبل أن تطلب مساعدتي”.
“كيف وجدت هذا المقال؟”. سأل آلي، فابتسم بنسعيد.
“عندي صديق حدثته عن قصتك القصيرة بعد الجدل الذي صاحب اسمك في الفترة الأخيرة، أخبرني بعدها عن مخطوط قديم ثم بعد أيام جلب لي هذا المقال. هو هذا، أليس كذلك؟ أتذكر أنك طلبت مني معلومات متعلقة بصحيفة الحقيقة، منذ البداية كنت تبحث عن شيء تعرف بوجوده، الأستاذة أحلام الصويب أطلعتني عن اهتماماتك طوال ذاك الأسبوع بالمجلدات المؤرشفة، صحيفة الحقيقة، أخبرني ما تعرفه أود أن أعرف”.
ظل آلي صامتاً لمدة ثم قال: “سأحكي لك ما حدث، عام 2005 جئت إلى بنغازي باحثا عن صديق سبقني بسنتين، كنا في الرابعة عشر عندها أسسنا جمعية لكتابة التاريخ. “ترسيخ رؤيتنا للعالم الجديد”. هذا ما قلناه وقتها. غرقنا في كومة هائلة من اليوميات والقصص والخيانات الزوجية وانهاء الصداقات والفضائح والصراعات السياسية. في أحد الأيام، رأيتُ صديقي يرتعش من الحماس عقب العصر فوق القار. “وجدت للتو فرجيليوس خاصتنا”. هكذا قال. فذهبنا لنرى. كان مسنا سبعينيا، عاشقا لا يزال ومقتفي آثار لديه تجارب غريبة. ظللنا نستمع منه قصصاً لثلاث سنوات بلا ملل. أخدنا إلى قاع الجحيم. أرشدنا لانفسنا بأسلوب أصيل كرجل من التودا ظل يهز أرواحنا من الداخل. “يوقظنا من السبات الألفي”. هكذا وصف الأمر ثم أضاف: “العالم متشعب ونحن أحاديون”. اسمه أدم أنر، أخبرنا أنه كان في بنغازي خلال الستينيات وقد كتب مقالات في صحف المدينة، ترك وراءه سراً كبيرا ثم أخبرنا عن عقل قديم حكم المنطقة. عرف هذا لأنه رافق بعض الطليان من مؤسسي جمعيات سرية طوال القرون وساهموا في تأسيس الدول التي نعرفها في المنطقة، شكلوا ليبيا التي نعرفها وهو على غرار أدم أنر، بحث بعناية حول هذا لمدة طويلة واستطاع كتابة مقالات هامة عنها قبل وبعد 1967 نشرت في صحف مثل الحقيقة. صديقي اتجه إلى بنغازي لأجل البحث عن هذا ولحقت به بعد سنتين بحسب طلبه. قلب جميع الأوراق في مكتبات بنغازي، الخاصة والعامة. من 2003 حتى مارس 2006 عقب أحداث السفارة الإيطالية، اختفى تاركا وراءه كيمة هائلة من الأوراق، عملت طوال السنوات التالية في محاولة لفهمها بوضوح وهو ما لم أنجح فيه، كومة كبيرة من المعلومات والقصص والمقالات من بينها هذه التي بين يديك وليس هناك أرشيف كامل حتى اللحظة، الارشيف التاريخي مجرد استعارة أدبية عن هدف أكبر”.
“والمخطوط الغدامسي؟”.
“ليس هناك أي مخطوط غدامسي، على الأقل ليس كما ذكر في النص، هناك كتاب قديم ألفه مصطفى خوجة المؤرخ الليبي عن المجتمع الفزاني، إنما في القصة فإن المخطوط هو تفصيل رمزي. رمز عن شيء غامض، أعتقد أننا كنا نعرفه جيداً في صغرنا وخلال عملنا في الجمعية التاريخية، لكنه أصبح شيئاً غامضاً في هذه اللحظة، لكنني أفكر في كلمات مثل الفقدان والضياع، ففي النهاية يُمكن كتابة مخطوطات غدامسية أخرى، غير المخطوط الذي كنا نمتلكه، لأنه في مطلق الأحوال مخطوط ناقص”.
“وما هو النقص بنظرك؟”.
“ببساطة هناك سوء فهم واضح، في المحيط ثلاثة عناصر، إن طلب منك أو أردت أن تكتب متحدثا عن هذا المحيط، واكتفيت بالحديث عن عنصر واحد، في هذه الحالة أنت تعطي صورة ناقصة، وهذا هو ما يمكن تسميته بالمخطوط الغدامسي”.
ابتسم بشيء من الخيبة، أحنى رأسه ثم قدم له ملف المقالات.
“اسمعني لا تسعجل، خذ وقتك وراجع تلك التفاصيل التي تركتها وراءك منذ سنوات وأخبرني عندما تكون جاهزاً عن كل شيء، بصدق لا داعي للعجلة”.
ربتْ على كتف آلي بيأس، كأنه يستجدي. أبدى آلي ورد كو موفقته معلناً أنه من الرائع دوماً قراءة المقالات مجدداً، لكنه لا يمتلك المزيد ليضيفه.
تبادلا أرقام الهاتفية ورافقه بنسعيد حتى خارج المكتبة مؤكداً أنه سيتصل به ليلتقيا ثانية بينما أخذ آلي بالابتعاد حاملاً ملف المقالات القديمة، بدا له شبح بنعسيد خلفه مألوفاً.
كان هذا قبل أسبوعين.
وصل إلى مكتبة الأرشيف التاريخي واستقبله بنسعيد بحفاوة. وصلته للتو مجموعة جديدة من الكتب. طلب منه الجلوس، حتى يتنهي من تصنيف المجموعة الأولى وذهب ليتحدث مع مسن واقف في قلب المكتبة بين الكتب الجديدة، هتف المسن حاملاً كتاباً جديداً بغلاف أحمر غير جذاب وقال لبنسعيد الشاطئ: “هذا هو الكتاب الذي حدثتك عنه”. فابدى بنسعيد اندهاشه: “كيف يسرق منك كتاب ويطبع على نفقة وزارة الثقافة نفسها التي طبعتْ كتابك؟”.
“لا يمكن فهم مثل هذه الأمور، هناك لا يعرفون ما يعنيه الانتحال وسرقة مجهود الآخرين، يُسرق كتابك حتى وأنت تنبه لذلك”. عندها شرح المسن كل ما فعله منذ سمع عن وجود كتاب يُطبع لكاتب نال به درجة الدكتوراه، في موضوع يهتم له حقاً وأنفق فيه عمراً من البحث والتنقيب وقرأ بحث الدكتوراه الذي وصل إليه بمعونة بعض الأصدقاء، فهاله أنه بحث مسروق من كتابه. كتب عدة مقالات لفضح الأمر راسل بعض الهيئات الثقافية والجامعية دون فائدة، حاول منع طبع الكتاب ببساطة لأنه مسروق، لكن هذه لم تكن حجة كافية. طبع الكتاب وبدؤوا في بيعه لدى نقاط بيع خاصة بوزارة الثقافة بكامل البلاد. بدا المسن غاضباً بالفعل، فوعده بنسعيد أن يُبعد كل المجموعة من الأرفف المكتبة، هذا أكثر ما يمكنه فعله. أبدى الكاتب المسن امتنانه ثم حمل كتابه الضخم مع الكتاب المسروق من كتابه وخرج متثاقلاً دون أن يعرف ما يمكن فعله.
عاد بنسعيد إلى كرسيه، جلس متنهداً ومتأثراً بسبب قصة السرقة الأدبية، نزع نظارته السميكة الإطار وقال: “مؤسف ما يحدث في هذه الدولة”. ابتسم آلي ولم يعقب على هذا، فأضاف بنسعيد: “لم يعد أحد يحترم أحداً، هل تعرف الذي خرج للتو، كتب نصف التاريخ الثقافي للمدينة، أفنى عمره في التحقيق واستخراج قصص من وراء الانتاجات الثقافية من المكتبات العامة والخاصة، ويجمعها من المكتبات المضيعة، ويجري وراء المخطوطات والقصاصات والجرائد القديمة لخلق ذاكرة ثقافية لهذه المنطقة، كثير من مثقفي البلاد يدينون له بالفضل لكل معارفهم التي يتباهون بها، لكن كما ترى لا يمكنه حماية إرثه الثقافي من السرقة على يد دجال مهووس بالدرجات العلمية ولا يقدر مجهود الآخرين ولا يُقيم وزناً لأحد، فقط لأنه أدرك مدى تفشي الفساد في هذه البلاد. لم تعد المناصب الثقافية مخصصة لذوي الإنجازات الحقيقية، بل لأشخاص لا قيمة ثقافية لهم ولا يمتلكون أدنى معرفة بالفكرة الثقافية، كل ما هناك عيمان وراء مقود الحافلة”.
“يمكن رؤية هذا والشعور به”. قال آلي ورد كو: “الوسط الثقافي فقد كل ما له من سلطة على المجتمع، لا أحد يقيم وزناً لمثل هذا الوسط، لأنه منذ البداية يرى أناساً عاطلين عن العمل، وتجمعات تُحارب بعضها، وأخر همهوم المثقف هو إرساء منهج أخلاقي للشعب، متى آخر مثقف ليبي وقف في وجه السلطة أو كون سلطة معرفية خاصة به دون أن يكون من منظومة الحكم الليبي”.
“تعتقد أننا بحاجة إلى ثقل موازي للسلطة السياسية”.
“السلطة السياسية، لم تكن سلطة يوماً، لطالما اعتقدتُ أنها مجرد بعبع يخيف الجميع بأدوات تشكيل عصابي، المثقف الحالي لا يمكنه فعل شيء حيالها، أبسط معاندة تسبب بالموت جوعاً، وأنا أتحدث عن زمن مضى”.
“في ليبيا لا يمضي شيء، أن تدفن ذاتك في موضوع ثقافي معناه أن تفقد وقتاً ثمينا يمكنك أثناءه كسب المال لأجل عائلتك، المثقف المنكب على عمله يفقد شخصيته الاجتماعية، قبل أي شيء آخر”.
“ويفقد عمله في نهاية الأمر”. قال آلي مشيراً للباب، هز بنسعيد رأسه ثم أضاف آلي بشيء من الرثاء: “رأيتُ في حياتي عدداً كبيراً من المثقفين، أدباء بالأخص يعانون من الإهانات المستمرة، فقط لكونهم يتعاملون مع الكلمة، سواء في كتابة المقالات أو انتاج الكتب الخيالية”.
“أتذكر حديثاً لك حول هذا قبل سنوات، وقتها كنت تشعر بالقرف من الوسط الثقافي الليبي”.
“نعم، كان وسطاً أقرب لمصح نفسي”.
“أو هيئة إعالة”.
“بضبط، حتى أن الوزير أو الأمين المخصص لثقافة وقتها كان يترفع عن الجلوس مع المثقفين بمن فيهم أصدقاءه حتى لا يُتهم أنه متحزب وشللي”.
“هذه هي العقلية التي كانتْ تسير البلاد، تطهر شكلي”.
“أسميه بالتقليد الشكلي”.
“نعم، لا يمكن تجاهل هذه الكلمة في محنة الإرشاد الذاتي، أتذكر أنك أشرت مبكراً بالنسبة لسنك إلى مدى سمية هذا الوسط”.
“سميته تتمثل في عدم رغبته في تشكيل وسط حقيقي، ما يوازي الجيش الليبي مثلاً أو طبقة رجال الدين، الثقافة في ليبيا لا يمكنها أن تعيش بلا عائل”.
“كيف يُمكن تجاهل هذا، العائل الثقافي، أنت تكتب منذ قرابة نصف عقد، أنجزت روايتين، لم يتحدث عنهما أحد بشكل جيد ولم يهتم بهما أحد كما أعتقد أنك تدفع ثمن شخصياتك الأدبية المتفردة في هذه البلاد”.
“أتذكر أنه حتى عام 2005 يمكن أن تقرأ عشرات المقالات عن الكتاب الواحد أعني كل كتاب على حدة، لم تكن الكتب تصل بسهولة، لكنها كانت تصل بشكل يكفي ليكتب عنها عدد كبير من القراء، لملء المدونات الأدبية ولاستعراض العضلات الثقافية، الصديق كان يكتب عن كتب صديقه، والأغرب أنه كان يقرأ كل ما يكتب عنه، لم نكن نعثر على الكتب، لكننا كنا نعثر على وجبات ممتعة في هيئة مقالات متعددة عن نفس الكتاب، مشهيات ريثما يحضر الكتاب، أما الآن يصدر الكتاب وفي أسبوع يتوفر في نسخة الالكترونية مسروقة، ويمر عليه خمس سنوات دون أن متابعة حقيقية فقط مراجعات مسروقة من بعضها بالنسبة لي لا أكتب لخلق حراك ثقافي أو اقناع الجموع بشيء سياسي، لا أمتلك فكرة سياسية ملحة، لا لا، أبداً أنا أكتب دون الالتفات لشيء مثل شاعر يملي قصائد وجدانية، الكتابة بحد ذاتها شفاء والنشر لأجل أصدقاء يحبون ما أكتب، لكن الزمن تغير”.
“فساد حقيقي، لاحظتُ هذا أيضاً، قبل مدة قرأت عن كتاب جديد قرابة سبع مقالات كلها تسرق من بعض ولا أحد من كتاب الصفحات الثقافية قرأ الكتاب”.
“واحد من هؤلاء الصحفيين اتصل بي”. قال آلي مقاطعاً بنسعيد: “طلب مني أن أمنحه اختصاراً لما كتبته حتى ينشر عني مقالاً”.
ضحك بنسعيد وسأل: “هل وافقت؟”.
“قلت له: سعيد باهتمامك، وعليك قراءة الكتاب بنفسك”.
“ممتاز، خلقت عدواً لنفسك، لا شك أنه سيشيع أنك متكبر”.
“هذا أمر لا يُمكن الفرار منه”.
عندها رفع بنسعيد كتاباً صغيراً، وقال: “هذا الكتاب رائج في هذه الأيام”.
“من حسن حظكم أنتم أصحاب المكتبات”.
“أبيع الكتب منذ قرابة عشرين سنة، لم أفهم ما يحدث فيه”.
“لا أحد يفعل”.
“هذا الكتاب مثلاً، لكثرة ما سمعتُ عنه، اقتنيتُ نسخة لي، وذهبتُ للبيت وقرأته طوال الليل، أعني شيء غريب بالفعل، لا يمكن تكوين رأي أدبي حوله، محير للغاية هذا الكتاب، من ناحية فهو مكتوب باحترافية عالية، في كل صفحة هناك حيل شعرية مثيرة بحسب الوصفة الماركيزية للكتابة، حذلقة خبيثة على مدى مئتين وخمسين صفحة كأنها قصيدة عصرية مكتوبة بواسطة روبوت آلي –بسخرية ضحك بنسعيد عالياً– قرأتُ عن روبوت روسي أنجز مجموعة من القصائد نالتْ الجائزة الأولى في إحدى المسابقات الأدبية، الحكام لم يكونوا يعرفون أن القصيدة كتبتْ بواسطة روبوت أو تطبيق حاسوبي وثمنوا الشعرية العالية للكل قصيدة، الكتابة بحسب الطلب”. قال بنسعيد الشاطئ ثم تنهد ماسحاً خيط دموعه وأضاف بصوت متهدج: “تذكر أننا جربنا هذا من قبل مع كتابك المنفي الأبدي”.
“المنفي الأبدي كانتْ تجربتي الأهم”. عقب آلي ورد كو، شاعراً بسخونة الغضب.
“كذلك كانتْ المتشردون الثمانية لرنا السبيدي”. قال بنسعيد الشاطئ بجدية بالغة: “أتذكر تلك الطفلة المجنونة لولا كتابها المتشردون لكانتْ تعاني وسطاً أكثر غرابة، بدلاً من كونها في أوروبا تعيش متحررة تماماً مثل بطلتها في المتشردون، بل هي أقرب لبطلتك في المنفي الأبدي، كأنك كنت تكتب عنها هي”.
“لا يمكنني إدعاء هذا، لم أقابل رنا السبيدي في حياتي، حاولت إيجاد معلومات عنها حين عرفتُ عن روايتها المتشردون الثمانية، وإنها فكرتك أن تكتب عنها سلسلة من الروايات، أعني كيف لم تكتب أنت هذا الكتاب؟”.
“لا يمكنني كتابته”.
“لا أصدق هذا، قرأت مقالاتك الذاتية، لا تنسى هذا، لديك كل القدرة على إنجاز مثل تلك الرواية، بأحسن مما فعلتْ رنا السبيدي”.
“رنا السبيدي ناشطة سياسية وأنا كنتُ مُراقباً بشدة بسبب تاريخي الشخصي وهو تاريخ متعلق بالأدب تقريباً، رنا وضعتْ في ذهنها محاربة النظام السياسي القائم في البلاد، من باب كونها نسوية تُريد حريات أكثر وإن القانون الليبي يتلاعب بالأعراف الاجتماعية حتى لا يتحمل مسؤولية تحرير المرأة، فكرة أشغالها بكتابة الأدب جاءت من صديق عانى من النظام، وكانتْ هي شعلة مذهلة ومن الخسارة أن تضيع بسبب حماسها الحقوقي، فجاءت فكرة “المتشردون الثمانية” لحمايتها لا غير، لم نتوقع أن تستحوذ عليها فكرة البطولة الأدبية وتعمل بجد على تحقيق رواية سياسية ضخمة تضرب في طريقها حتى الثوابت الدينية مستخدمة مقالات الصادق النيهوم من أجل خلق كيان نسوي منشق، آنذاك انتشرتْ شائعات عن استغلال الناشطات في تدمير أساس النظام الجماهيري. كنتُ أساعدها في الكتابة اليومية وتحرير النص. نلتقي لساعات طويلة في اليوم، في الكشك وفي البيت ودار الكتب الوطنية حتى سرتْ شائعة عن وجود علاقة محرمة بيننا وهي لم تبال بهذه الشائعات، بل شجعت الناس على هذا الاعتقاد، ووقفتْ في وجه أخوتها الذين حاولوا مواجهتي داخل المكتبة الوطنية حتى كدتُ أصدق أنني في علاقة معها، انتهينا من الكتاب وبعثناه للنشر. عندما صدر فوجئتُ أنها كتبت كتاباً مختلفاً عن الذي اشتغلنا عليه، مخطوطة رواية المتشردون الثمانية التي أنجزناها معاً بلا شك في حوزتها حتى الآن. الكتاب المنشور مختلف لكنه لا يزال يحمل بصماتي بين صفحاته، مرعب للغاية، كدتُ أدفع الثمن هذه الحماقة من قبلها جسدياً، انتشرتْ شائعة عن كوني مؤلف المتشردون الثمانية، الجهات الأمنية الليبية لم تكن للتساهل في هكذا أمر حتى لو كانتْ شائعة، فقبلها بأشهر قليلة كانوا قد قتلوا بوحشية ضيف الغزال لأجل مقال قصير كُتب ضد مسؤول صغير في النظام، فما بالك بكتاب يهاجم النظام ونظريته والحشد الديني في المجتمع الليبي، ما أنقذني هو استعجال أئمة المساجد للهجوم على رنا السبيدي الحقوقية العلمانية، فالنظام لا يلتفت للغضبات الدينية إلا إن ساهمت في لفت انتباه الغرب. حين تحدثتُ معها لآخر مرة كانتْ منتشية تماماً من هذا الهجوم، وسمعتُ من أكثر من شخص إنها كانتْ تتحدث عن لجوء سياسي ستحصل عليه قريباً وهذا بضبط ما حدث”.
“ما لا أفهمه هو كيف توصلتم لفكرة حمايتها بكتابة رواية”. قال آلي ثم سأل: “ومع من كنت تتحدث بشأنها؟”.
“تعرف منصور الأسدي؟”.
“قرأتُ عنه حين أرسلتم لي قراركم بمنحي الجائزة، قبل ذلك كنت لا أعرفه جيداً لم أقرأ له أو عنه إلا القليل”.
“هو كاتب مختلف، الجميع يسمع عنه ولا يعرفه، يعتبرها لعنة”.
“كان سجيناً”.
“واحد ممن تم القبض عليهم سنة 1978، تعرضوا لِمَ يمكن تسميته بالتجربة الدوستويفسكية وهناك أيضاً تهمة الانتماء لحزب ماركسي لينيني هدفه إسقاط النظام السياسي القائم وقتها، يمكن الآن معرفة أنها مسألة قلق من ظهور أصوات معارضة للنظام الجماهيري المزمع إقامته، هناك رغبة لتغيير كل شيء، منها تأسيس لغة أدبية جديدة مرتبطة بالنظام الجماهيري، منصور الأسدي مع مجموعة من الشعراء وكتاب القصة القصيرة تم اتهامهم وزجهم في السجون، اختفتْ من على الساحة الأدبية الليبية عشرات الأقلام وتحول الوضع إلى ما يشبه القصص الطفولية وسادتْ لغة خرقاء مليئة بالرموز المزيفة وتتجاهل قضايا المجتمع الأساسية، وضع لم يتبدل إلا بعد فترة الثمانينات حتى منتصف التسعينيات وهي مرحلة نشطتْ بالأقلام الجديدة وخروج جماعة الصحافة من السجن. الوضع دوماً معقد في ليبيا ولا يزال كذلك”.
“منصور الأسدي قلق الان من ظهور نفس الحالة مجدداً”. استنتج آلي ورد كو: “قلق من استهداف الأدباء الشبان”.
“هو لم يتوقف عن هذا القلق منذ خرج عام 1988 تجربتهم ستظل غاية في الغرابة لا يمكن فهمها هذه الأيام بالنسبة لمن شهد كل هذه الأحداث من حروب أهلية وتدخلات عسكرية أمنية وقتل جماعي وسحل وإعدامات ميدانية ونزوح. المسألة فيها شيء من المأساة. نحن أمام شخص خسر عقداً من حياته لأنه كتب قصة أو قصيدة، عشر سنوات داخل زنزانة لا تتعدى 4×4 مع كل ما يمكن تخيله من إهانات وتجويع وفقد للأحباء وهو في السجن. لا أحد يمكنه فهم هذا الوضع الشاذ من الحياة ثم حين خرج ومن السجن يجد نفسه مضطراً لأن يصمت لسنوات أخرى، سجن مجازي واستمرار للقهر، يظل يراقب ذاته في كل لحظة، شاعراً بالمرارة من أبسط التصرفات المؤذية يزجر نفسه حين يعلو صوته ويبتعد عن اللقاءات الاجتماعية حتى لا يلتقي ببعض خصومه والمتسببين في سجنه ويواصل الشعور داخلياً –إنه الشعور دوماً ما يواجهه– من اهانات لمجرد أنه لم يقل كل ما في ذهنه، ما يتوهم أنه بسبب الخوف ولكنه يواصل الصمت، ثم مع سقوط النظام الاستبدادي يأتي شخص مجهول وسطحي ويخبره في وجهه بأن ما واجهوه لا يمكن أن يكون ببشاعة ما واجهه الشعب خلال فترة حبسهم أو حتى خلال الأيام الاولى من الانتفاضة وكل يوم يمر بعد سقوط النظام، يفقد فيه ما عانوه بشاعته في أعين الناس بسبب تزايد أحداث القتل ومرور ما يساوي عشر سنوات دون أن يشعر بها أفراد الشعب ويقارنون كل هذا بفترة السجن التي خاضها أولئك الشبان كما أخبرتك المسألة فيها مأساة بشعة لا يمكن وصفها بسهولة. حاولتُ لأكثر من مرة أن أُبين وجهة نظري حولها إلا إنني فشلتُ تماماً، حالياً لا يوجد كثُر من أدباءنا من يفهم بشاعة ما حدث، أعني لم يقف أحد ليفكر في هذا الفصل من تاريخنا الأدبي”. كان بنسعيد محتداً وغاضباً حين هدأ قليلاً سأل آلي: “هل قرأت شيئاً لعمر أبو القاسم الككلي وجمعة بوكليب وأحمد الفيتوري؟”.
“مقالات متفرقة، أذكر قبل سنوات، أظن في عام 2008 كنت في رفقة صديق لا علاقة له بالأدب، من مرتادي المثابات الثورية إلا أنه حضر وأظن بالمصادفة عدة لقاءات ثقافية، في الكشافة أو دورات في أشياء متعلقة بالثورية، هذا الصديق سألني أن كنت أعرف عمر أبو القاسم الككلي، وكان سمع عنه خلال لقاء ثقافي ولم أكن أعرف عنه الكثير وقتها، ثم خلال بحثي عنه فيما بعد وجدتُ له قصة قصيرة بعنوان القفزة عن تفاصيل متعلقة بأصالة حصان سذاج يتصرف بطبيعته ومعجب بنفسه وقرأتُ له حواراً صحفياً طويلاً، حقيقة دهشتُ مما قرأت، ولا يمكن مقارنته بشيء إلا بمعارضات أدبية لرجال السياسية من قبل الأدباء الروس سواء في الزمن السوفيتي أو ما قبله، فيدور دوستويفسكي ويفيغيني زامياتين، وجدتُ نفسي أمام عقل ينطق بالتجربة الشخصية بروح جماعية، تعيد اختبار المفاهيم الثابتة، تعرفتُ بعده على عدد كبير من الأدباء أحمد الفيتوري جمعة بوكليب ولكل تجربته الخاصة ونظرته المختلفة للوضع الذي مروا به وما يؤسف له بالفعل ولم ألاحظ هذا من قبل كون تجربتهم تماثل مأساة حقيقية لم يتم الحديث عنها بالشكل الكافي”.
“ولن يتم في الفترة القريبة القادمة”. هكذا قال بنسعيد بنبرة فيها من الحزن مثلما فيها من الأسف وأضاف متنهداً: “وهنا تكمن المأساة الفعلية”.
“كيف تعرفت عليهم، أقصد منصور الأسدي وبقية الرفاق؟”.
“لا يمكن تجاهل وجودهم، طالما هناك تعامل مع الوسط الأدبي، فلابد من التعامل معهم، إنهم يفرضون وجودهم بقوة أعمالهم وأفكارهم، لكنني لدي قصة صغيرة حول هذا حين كنتُ طفلاً عانيتُ من صعوبة في الاندماج، لازمتني هذه الحالة حتى الخامسة عشرة، عندما انتسبت لثانوية عسكرية، هناك تعرفتُ على مجموعة تهتم بالأدب، فأخذتُ أتردد عليهم واستمع منهم، ثم بطريقة لم أفهمها لفترة طويلة وجدتُ بعثة دراسية لروسيا، برفقة ثلاثة طلاب من المرحلة العليا، كانوا في منتصف العشرينيات وأنا في التاسعة عشر عام 1978 عرفتُ فيما بعد أنه أنقذني بإرسالي في هذه البعثة، وتم القبض على تجمعات أدبية في مختلف البلاد وسجنوا لعشر سنوات كاملة قضيتها متنقلاً في المدن الأوروبية، دون معرفة المأساة التي تحدث في الوطن، لم أعد إلا في عام 1996 وجدتُ كل شيء قد حدث وانتهى، ولم أستطع يوماً فهم ما حدث”.
“كيف استقبلت ما حدث؟”. سأل آلي محاولاً أن يكون رأياً حول تجربة بنسعيد نفسها.
“بالصمت، كان علينا أن نقرأ نتاج ما حدث، وأن نتفهم إرتباك ضمن لغتهم التي غدتْ غريبة على الوسط الثقافي الليبي، كان هناك سوء فهم حقيقي، لم يعد ما يكتبونه أدباً عادياً، هناك تجربة كبيرة وقعتْ لهم، أصبحوا أقرب لأدب المقاومة وكانوا يعيشون تحت احتلال عسكري صارم ويقظ ولا يتوانى عن إعادة تجربة سجنهم مجدداً إن دعت الضرورة لذلك، مع ذلك تجاوزوا مرحلة الكتابة الرمزية، كان عليهم فقط أن يصلوا للصورة كاملة حول ما حدث لهم طوال عشر سنوات، في السبعينيات كانوا أدباء شبان بطموحات كبيرة، في التسيعينيات وجدوا أنفسهم أمام خطأ قضائي كبير لم يتم تصحيحه، خطأ في الأخلاق الليبية. بعد 2011 يمكن فهم أنهم أخيراً خرجوا من سجنهم، أصبحوا أحراراً في لغتهم وتجربتهم، بدؤوا يكتبون بحرية تامة عن ما حدث لهم، يقولون كل شيء، مع ذلك أصبح قول ذلك أمراً أقرب إلى مقاومة الحياة نفسها، النسيان، الغفران، الغضب، ومواجهة سطحية مع المجتمع الثقافي الليبي في التعاطي مع قضايا مهمة مثل حرية التعبير وحماية الأجيال الثقافية، وتصاعد هذا مع حرب كتاب شمس على نوافذ مغلقة كاد يتحول الأمر إلى انفجار حقيقي، يمنحهم أخيراً فرصة قول ما لم يقولوه طوال سنوات إلا قليلاً منها قضية رنا السبيدي، وطرح مقولات جدلية، إصدار مجلات في الخارج من دون رضا الهيئات الثقافية الليبية، كل هذا كان من أجل استعادة الأدب الليبي الجاد وغير الطفولي، وطرح قضايا ضرورية وحقيقية، من شأنها الخوض في تساؤلات مهمة متعلقة بما يسمى ثوابت المجتمع المحافظ، أين كان هذا المجتمع المحافظ جراء اقتياد جيل كامل إلى السجون وطرد أجيال أخرى، لم يشعر قط بالقلق والتهديد في سلامته العقلية والنفسية، تجاهل ما كان يحدث أمام عينيه كأنه لم يحدث، نظروا إلى الجهة الأخرى وربما أبدوا سخطهم سراً، لكن أبداً لم يفعلوا شيئاً، هناك خلل متعلق بالقضايا الأخلاقية في العقلية الليبية. منصور الأسدي يعتبر الجبن من أقذر الصفات في الوسط الثقافي ويعرف أنه لابد من دعم الكتابات الجادة التي تناقش هذا الخلل الأخلاقي، ومن رأيه الأدبي أن محنة الإرشاد الذاتي رواية جادة وبدرجة أكبر تمثل المنفي الأبدي ذروة هذا النوع الأدبي الراشد والبعيد عن طرح مواد أدبية طفولية سطحية”.
عندها قال آلي ورد كو: “ما لا أفهمه هو أي نوع من التهديد الذي يعترضني مثلاً لتقدم لي جائزة حمائية من هذا النوع”.
“ليس التهديد شرطاً للحماية، وليس هدف هذه الجائزة النهائي، ثم هناك شرط لمنحك الجائزة، شرط أساسي”.
“شرط أساسي؟ لم أفهم أعلنتم في الموقع فوزي بالجائزة دون تلميح لأي شرط، لو رفضت شرطكم كيف ستتعاملون مع نشر اسمي كفائز”.
“الفوز هو من مصلحتك دون أي شروط، أنت قدمت أدباً حقيقياً تستحق عليه هذه الجائزة، وهي تقدر بعشرة ألآف دينار ليبي، هذا لا يمكن التراجع عنه، لكن هناك فكرة أخرى مرتبطة بالجائزة وهو أقرب لتوقيع عقد شراء خمسة كتب مستقبلية منك لتكتبها تباعاً، كل سنتين تسلم كتاباً بموجب هذا العقد”.
ابتسم آلي وقال مازحاً ليخفي بهجته: “يُصبح هذا أقرب لوضع دوستويفسكي بالنسبة لي أيضاً، لم أفهم هذه النقطة”.
“شيء بسيط جداً”. قال بنسعيد الشاطئ: “تستلم مبلغ الجائزة في حفل صغير ولن يعلن عن القيمة المالية مطلقاً، لكن في المقابل مع موافقتك على العقد كتابة خمسة كتب كل كتاب لا يقل عن خمسمئة صفحة، ما يساوي ستين ألف كلمة، عندها سيتم منحك مبلغ خمسين ألف دولار أمريكي، وهي تقريباً ربع قيمة جائزة القذافي العالمية للآداب، قبل نسيانها بسقوط جماهيرية العقيد وقد تكفل بعض المتنفذين بالحفاظ عليها بموجب العقد ستحصل على خمسين ألف دولار على هيأة أقساط من عشرة الالآف دولار مع بداية كل كتاب جديد، تبدو مندهشاً يا آلي تخيل ما يمكنك عمله بهكذا مبلغ تستطيع تخصيص وقتاً كافيا لأجل كتبك الخمسة القادمة ويمكن أن تعيش بأفضل وضعية”.
“أشعر أنني في حلم”. تمتم آلي، لكنه تعود نسيان مثل هذه الوعود التي تبدو أقرب للخيال منها للحقيقة، منذ جمع المبلغ الكبير لصناعة فيلمه، وهو يدرك جيداً أن التمويل المالي مسألة أقرب للمعجزة في ليبيا ولا يحدث عادة إلا بشبهات فساد إداري تدمر المشاريع المستفيدة من الداخل.
“ليس حلماً يا آلي، ليس حلماً، إنه الواقع المعاش، وهو أقرب لمشروع أدبي سري لا يعرف عنه كثر، عدد قليل هم من أعضاء اللجنة والممولين، اختيارك جاء بدفع من شخصيات مهمة من أدباء السبعينيات، يُشكلون لجان تقيم، إنهم يسعون لخلق مجتمع ليبي يعرف معنى المآسي والقصص الاجتماعية الكبرى، الليبي الحالي يعاني نقصاً حقيقياً في المعرفة الأدبية بسبب النصوص الطفلية التي تم اغراقه فيها على مدى سنوات طويلة”.
“لماذا أنا بالذات؟”. سأل آلي.
“أنفقت الكثير من مالك الشخصي لكتابة روايتيك، سبعمئة صفحة لكل كتاب وفيلم عبقري ومعرض فني، لم تُهمل ولم تتوقف، اعتبره نوعاً من تعويض عن خسائرك المادية وتحفيز للإبداع المزيد، وأي أديب غيرك يُمكنه أن ينجز عملاً مهماً خلال السنوات التالية. في نقاش مع منصور الأسدي أخبرني أنه يعتقد بحضور أدبي مقارب لما كان يمثله كازانتزاكي في اليونان وما مثله سولجينستين في روسيا وذكر أسماء أخرى مثل دوستويفسكي وتولستوي”.
“مندهش بصراحة”. هكذا قال آلي، ثم بعد لحظة تفكير أضاف: “إذن أنا حالياً أعتبر مرحلة ثانية من تجربة رنا السبيدي”.
“أنت تفهم الوضع جيداً”. قال بنسعيد الشاطئ.
“ألهذا تهاجمني رنا السبيدي؟”. سأل آلي.
فكر بنسعيد ثم أجاب بأستاذية: “لا أعرف ما الذي تفعله رنا السبيدي، فمعرفتي بها تجعلني أدرك أنها تستهدفني، هي لا تعرف الكثير ربما لا شيء عن الأسدي ومشروعه الحمائي، لا تعرف أحداً غيري، أعتقد بسبب قراءتها للمنفي الأبدي، أدركتْ القليل عن ما يحدث، هجومها لك بدأ مع نشرك للمنفي الأبدي، قرأت تلك المقالات التي اتهمتك فيها بالسرقة من روايتها، لكنها تعرف أنك لم تسرق منها شيئاً. المتشردون الثمانية نص أقرب إلى هجوم على نظام سياسي وديني، أما المنفي الأبدي أقرب للسيرة الذاتية قريبة من عمل خريف البطريرك لغارسيا ماركيز أو عمل مثل تقرير إلى غريكو لكازانتزاكي نحن أمام نص يبدأ من ذاتية مذهلة لتشريح مجتمع صغير جداً، في حين يمكن معرفة أنه يُشرح باقتدار الفلاسفة العباقرة كل جزئية من البشرية عبر تاريخها المعقد. تلتقيان في ثيمة المتشردون داخل مدينة كبيرة، هي تتحدث عن بنغازي الخاصة بها وتستخدم المتشردين في محاكمة تاريخ المدينة، أما فأنت تستخدم المتشردين بطريقة أدبية غريبة حقاً، تُحاكم نفسك، فكل مرة يتضح لنا أن المتشرد في روايتك ما هو إلا تنويعات مختلفة عن شخص واحد هو أنت. رواية رنا السبيدي أقرب لنص سياسي كما أخبرتك، أما روايتك فهي دراسة لشخصية واحدة على امتداد سبعمئة صفحة”.
“الغريب أن رنا السبيدي تعرفني جيداً، تعرف كل شيء عن حياتي”. نبه آلي ثم تساءل: “هل هي في ليبيا؟”.
“بحسب معرفتي آخر أخبارها قبل أسبوع تقريباً”. قال بنسعيد متذكراً: “فهي في إيطاليا وقد استلمت للتو درجة الدكتواره عن شخصية المتشرد في الأدب والتاريخ الليبي أو شيء من هذا القبيل، لكنني لا أستبعد أن كانتْ تأتي إلى ليبيا في زيارات غير معلنة لأهلها، هي مطلقة ولديها ابن في الخامسة بحسب ما أظن، يعيش عند والدتها سأتأكد وأخبرك”.
“هل لديك صورة لها، بحثتُ في الانترنت ولم أجد لها أي صور حديثة، فقط صورة غير واضحة لها مع صديقة، وهذه الصديقة تم اغتيالها في عام 2013، في الصورة كانتا تقفان داخل حديقة جامعة قاريونس، وهذا غريب بالنسبة لي حقاً لماذا ليس هناك صور لها؟”.
“لدي صورة واضحة لها من سنة 2005 إلتقطناها معاً داخل دار الكتب الوطنية سأرسلها لك كما سأبحث لها عن صورة حديثة، فهي منذ تلك الفترة كانتْ تخشى من الصور الشخصية، لسبب غامض، أعتقد لكونها ناشطة حقيقية في المجال السياسة وانتسبت مبكراً لمثابات الثورية، في موجتها الأخيرة التي منحتْ صورة انفتاح حقيقي تم اعدادها لتكون راهبة ثورية من الجيل الجديد، وهو ما اعتبرته خيبة أمل كبيرة وانشقتْ عن المثابات الثورية، عقب مقتل الصحفي ضيف الغزال وكان زميلاً لها، هكذا تود أن يعرف الناس سبب انشقاقها، لأجل الصداقة، لم تكن تتوانى عن طرح آرائها بحرية عبر وسائل التواصل وقتها المواقع المعارضة والمدونات والحوارات الصحفية باعتبارها حقوقية ليبية”.
“هل كانتْ دوماً في إيطاليا؟”.
“لا، تنقلتْ كثيراً، لكنها في معظم الوقت ما بين ايطاليا وهولندا”.
“في نصها المتشردون الثمانية، بدتْ بالفعل كأنها مبشرة سياسية حقيقية”.
“جميل هل قرأت لهاـ فالرواية صُودرت بعد أيام من عرضها؟”.
“وجدتُ نسخة بالمصادفة فلا يمكن تجاهل القراءة لها بعد كل ما قيل عن روايتها”.
“ما الذي لحظته في نصها؟”.
“نص متوسط القيمة، لم أندهش كثيراً، أعجبتُ بوضوحها السياسي، أعتقد أنها أفضل ككاتبة مقالات سياسية، بسبب معرفتها للأحداث ومباشرتها في كتابة آرائها السياسية، فهمتُ إنها من نوع الذي تضع عدوها أمامها وتطلق رماحها، لا يمكنها الكتابة من دون عدو أمامها”.
“بضبط، تبدو كأنك تعرفها منذ زمن طويل”. هتف بنسعيد.
“لا، هي ليست لغزاً، ولا تريد أن تكون كذلك، في نصها، كشف واضح عنها كأنها تكتب كاتالوج عن حياتها الخاصة لكل من يود الاقتراب منها، في هذا هي تشبهني إلا إنها لا تعقد حياتها كما أفعل”.
“هل تحب أن يقترب منك الآخرين؟”. تساءل بنسعيد.
“ليس الاقتراب فقط، بل الفهم، إنني أعتبر كتبي مثل خريطة معقدة للكنز، من يفهمها يعرف عني الكثير”.
“هل حدث أن تعرف عنك أحدهم من كتبك؟”.
“ليس بعد، على الأقل لم يصادفني أحد، أعتبرت حشواً أدبياً”.
“جميعنا نبحث عن الاعتراف الأدبي، هذا مشابه لرغبة الاحساس بالحب أو مثل تجربة البحث عن السعادة، قد يعترف بنا البعض، فنشعر بالاهتمام والقيمة لكننا مع ذلك نبحث عن المزيد، لن نقتنع بمن اعترف بنا، نريد المزيد، هذا جزء من العملية، يتمثل في الجوع للمزيد عن الاسماء المهمة، كلها يجب أن تعترف بنا وبأدبنا المهم إنما يجب أن ننضج سريعاً، حين قرأتُ لك للمرة الأولى، أدركتُ أنني أمام مشروع أديب حقيقي، لكن ماذا نعني بمشروع أديب حقيقي، يمكن لرصاصة طائشة أو سيارة مسرعة أن توقف هذا المشروع كما يمكن أن يفعل ذلك ولع خاطئ للسياسة ما، ظن الجميع أنك مهدد بهكذا ولع سياسي وإنك مجرد روائي مجهض بسبب الثورة، لكننا قرأنا لك قصة بعنوان العائلة في موقع خليجي، بالرغم من أنك بدوت سياسياً إلا أنك أثرت إعجاب منصور الأسدي، حتى أنه اعتبرك أقرب للنزعة التولستوية، شيء سياسي، لكنه أكثر قيمة من السياسة نفسها، نص أخلاقي يعتمد الدين لتوجيه المجتمع، شيء مثل رواية البعث، حدث لا أخلاقي، يقود إلى الندم والتوبة ومحاولة الإصلاح، في وجه مجتمع كامل متفسخ وغارق في العماء، الأسدي محب لكل ما يمت للأدب الروسي بصلة وهذا ما لاحظه في قصتك هدف أخلاقي طموح، ناقشني حول شخصياتك لعدة ساعات متعجباً من وقع الأسماء: أوزمي، دوبو،زارا، مدهش بالفعل، ألا ترى أن العائلة نص فيه الكثير من الانتقام الذاتي. كم قضيت في كتابة قصتك الهجومية كأنك تنتقم من مجتمعك؟”.
“استغرقتُ شهراً لكتابة العائلة”. قال آلي ورد كو: “في النص تأثير دوستويفسكي أيضاً، الحبكة الأخلاقية، الرغبة في إظهار التوتر والانفعالات والحوارات العاطفية وشيء من حس السخرية مع الكثير من المبالغة، كما يمكن ملاحظة الواقعية النقدية، لم أكن أرغب في نشر النص، اعتبرته لعبة خاصة بي وتمرين لعضلاتي الفكرية، ربما بداية لكتابة نصوص مشابهة، المسودة الأولى انتهيت منها في يوم واحد. حدث أن كنت في مأتم، وسمعت بعض القصص العائلية، صراع بين سيدتين، اعتقد هذا شكل بداية للنص، بدأتُ أحلل وضعنا المجتمعي، كان عندي صديق مولع بالحديث عن الشخصية الصحراوية، الشخصية التباوية بالذات، ولم يكن يكف عن تحليلها بأسلوب ساخر، باعتبارها شخصية تمتلك صفات مجانية وكان يتخذ من أندريه جيد وجان بول سارتر موجهين في تحليله باعتبار اندريه جيد عائداً من أفريقيا وناحت مصطلح مثل التصرف المجانيفيما اعتبر سارتر مهماً بسبب مصطلح آخر وهو سوء الطوية اعتبرتها بلا تحليل كونها قدرة فرنسا الاستعمارية على ملاحظة هذه الخصال في الشعوب الأخرى، وأعترف لقد جعلتني أشعر بشيء من الرغبة في الانتقام وهو ما يمكن أن أسميه سوء طوية من قبلي، إنني أنتقم، لكن هذا جزء طبيعي من الحياة، أليس كذلك؟ حينما تهدم منزلاً طينيا، من أجل طموح لبناء صرح معماري ضخم، في هذا شيء من القيمة الأخلاقية، كنتُ أرغب في هدم الذات القديمة للعديد شخصيات التي رأيتها في حياتي، فهناك أمور بشعة ذكرتها ضمن النص: زواج القاصرات مثلاً، الصراع الأهلي، الطموح المريض، الرغبة العارمة في العيش حياة رغيدة حتى لو كان يستدعي هذا انهياراً أخلاقياً، تحدثتُ عن هذه النقاط بوضوح تام وبلا خوف، لكنني لم أغص فيها بأسلوب وعظي، لم أكن أهدف للوعظ، بقدر ما أردتُ عرض صورة واضحة، دون التورط في مناقشة هذه الصورة وأود أن أعتقد فعلاً أنني نجحتُ في النجاة من التهم الجاهزة”.
“في هذه القصة بالذات بدوت مختلفاً عن روايتيك: محنة الارشاد الذاتي والمنفي الأبدي”.
“حالتي العاطفية كانتْ مختلفة، ثم إنني كتبت المسودات الأولى للعائلة قبل أن أشرع في الروايتين، يمكن أن تعتبرها تمريناً لأجل السباحة الطويلة”.
“بالرغم من ذلك، بدوت مختلفاً حتى عن قصة اكتشاف مخطوط وقصة الدمية الأوروبية”.
“كما أخبرتك حالتي العاطفة كانت مختلفة”. قال آلي متأملاً ذاته: “كنتُ أصارع أمراً أكبر يُثبط قدرتي على الإنطلاق في الكتابة، كنتُ توقفتُ بالفعل عن متابعة الأدب والفن لفترة، واستغرقتُ في أعمال سياسية غير مفيدة مثل متابعة التحركات العسكرية وحفظ أسماء قادة المليشيات. لا شيء يدمر الذاكرة الإبداعية مثل حفظ أسماء قادة المليشيات وهذا ما فعلته لسنوات، كان الاقتراب من ذاتي السابقة مسألة شاقة للغاية”.
“وهناك تفاصيل نسوية في النص، فيها شيء من البدائية، لكنها نسوية واضحة ربما الأكثر وضوحاً في الأدب الليبي، تساءلنا هل هناك شخصية نسائية قوية في الأدب الليبي، فاعلة وقوية في معادتها للرجال المسيطرين، مطلقاً، إنه النص الأول وأن يكون صادراً من رجل، لابد أنه أقوى مراحل النقد الذاتي، مجدداً تبدو منتقماً هنا سواء من ذاتك أو من المجتمع، ربما تعالج نفسك من خطأ قديم، يحدث هذا في الأدب، كما فهمت أنت محب لأدب كازانتزاكي، دوستويفسكي وتولستوي، الشعور بالذنب خاصية تولستوية أساسية، وهي منشأ الإبداعي الأخلاقي الديني، في قصة العائلة للرجال دور هامشي جداً كأنهم غير قادرين على الظهور، ثم تقول أن المرأة استطاعت أن تدجن الرجل، هذا مضحك ومبدع للغاية، لا أقول أنك محق، لكنني بالفعل أصبت بالدوار بسبب هذه الفكرة، وتحصر هذا في مجتمع الصحراء وتوضح أن تلك العائلة بأسرها بيان نسوي، هل هي سخرية أم إعلان نهاية؟ حاول منصور الأسدي الحديث عن هذا الجانب القيامي للنص، إلا أنه لم يقدر مطلقاً أن يقارنك بأي نص ليبي آخر حتى نص رنا السبيدي الغاضب، بدا أقرب إلى ظل بائس، فهي لم تكن تفهم معنى النسوية الحقيقية، كل قدراتها الإدراكية لم تقدها إلا إلى احتقار النساء الأخريات باعتبارهن ضعفهن سبباً لسطوة الرجال وهذا أشبه أن يتملص البطل من شعبه ويتهمهم بالخنوع، هل هذا يُحرك التاريخ، رنا السبيدي لم تفعل شيئاً لهذا السبب بالذات، في نصك النظرة المختلفة كلياً. المرأة انتصرت وانتهى كل شيء بحيث أصبح الرجال ساحة للانتصار أو للهزيمة وليس مجرد تابعة للرجل في المجتمع، إلا بقدر ما تكون الفساتين والمجوهرات واعية لتبعيتها الأزلية للنساء، هل هذه سخرية، أعني الرجال لم يعودوا قادرين على الاختيار”.
“كما قلت تماماً، بعض الناشطات تعتبرن الأخريات، أقصد النساء سبباً لوجود الرجال الأوغاد في المجتمع، هذا فيه نوع مقيت من التطهر الأخلاقي والترفع الطبقي، أغلبهن يعتبرن أنفسهن أرقى من بقية النساء حولهن، هذا مضحك حقاً، ما الذي يردنه، الانتصار على السلطة الذكورية أم استغلال الأفكار الحقوقية للتسيد على المرأة، وإظهار أنفسهن ممثلات للنساء في المجتمع السياسي ويعملن على تشكيل طبقة أوليغاركية ويطالبن عبر الاعلام بمطالب سياسية، دون أن يهدفن إلى تغيير شيء على الأرض الواقع، سواء في الدساتير أم في أخلاقيات المجتمع نفسه، لدى أغلبهن رغبة للوصول إلى التمثيل البرلماني، سواء بإنعام ملكي أو بدفع حزبي أو تزكية رئاسية، فيصبحن بمثابة الواجهة التي يراها الغرب، نحن نمتلك مجتمعاً متوازناً ولدينا نساء ناجحات، وهنا ينتهى دورهن التاريخي، عندنا نفس شيء سواء قبل الثورة أم بعدها، المرأة الحقوقية تسعى إلى افتعال معارك كبرى، لتصل إلى نتائج صغيرة للغاية، فهي لا تهدف إلى تغيير شيء في المشهد السياسي، ربما في هذا سوء طوية، من ناحية تستفيد من الخلل الحادث، تجد فرصة لنصب ذاتها المتحدثة المدافعة عن المقهورات، الرجال في السلطة يعرفون هذه الرقصة، وهم من يدفعون للعازف ويحددون الموسيقى التي سيرقصون عليها، ويجدون تسويات تمكن تلك النسويات من تسيد البقية، هذا السيناريو البشع يحدث أيضاً للإثنيات، طبقة أوليغاركية تحتكر كل شيء ولا حلول”.
“هناك الجدة النائمة، هل هي رمز سياسي؟”.
“كل شيء رمز سياسي في قصة العائلة”. قال آلي بصوت عالٍ: “فقد كتبتها لغرض سياسي حقيقي، وقتها كانتْ الحرب الأهلية بدأت في الكفرة–تازر شيء ما جعلني أتماهى مع شعبي المحاصر منذ قرون، لكنني لن أتحدث عن هذا، الجدة النائمة قمة السياسة في التراث الأدبي التباوي، لاحقاً قرأتُ قصصاً مشابهة في كليلة ودمنة، النوم ليس جزء من التراث، كنتُ شاهدتُ صورة لطفلة سوداء نائمة، سألتُ نفسي ماذا لو كانتْ مسنة في غيبوبة، لكن الجدة نفسها تمثل واحدة من أسرار العقل التباوي ما تناقلته الأجيال، إنها تمثل لنقل حدثاً سياسياً غير منتهي في التاريخ، حدث يهدد دوماً بالظهور في حال توافر الفرص للذلك، نحن حالياً نعيش مجدداً تجريدة حبيب عكسية، هذا يمكن أن تسمى في التاريخ التراث التباوي بظهور الجدة، التبو أنفسهم نسوا نهائياً هذا التراث، قراءة الأغلبية للتراث سطحية جداً، صديقي بركاي هامشي مي يرجع هذا النسيان لأسباب سياسية، بالنسبة لي حاولتُ الأقتراب من تاريخي في هذه الناحية، الجدة هنا تمثل حالة مغايرة تماماً، لأنها مرتبطة بالنوم، وهناك فتاة عشرينية بالقرب منها تراقبها وتتحدث إليها، هذا مختلف، ففي التاريخ التبو الجدة المريضة تسبب حالة مقلقة من العواصف التاريخية. في طفولتي حفظتُ قصة بعنوان مجمع القردة تروي عن جدة مريضة تعاني من إزعاج القردة، فيأتي قريبها السلطان لزيارتها ويسألها عن ما تريد، تقول هي أنها تريد دواء، وتشير لرغبتها في شحم القردة، فيأمر السلطان جنوده بالقبض على القردة واستخلاص الشحم منها، ولأن القردة لا تدخر شحوماً تحت جلودها، فإنها تواجه إبادة هائلة. في القصة تصل الجدة المريضة لذروة تحكمها السياسي بسبب توفر عاملين مهمين وهما القردة والسلطان، فالسلطان رمز آخر للتبو تشير للعصور العظيمة والقردة رمز للهو وهم الشعب البليد والبعيد عن التفكير الجدي حيال واقعهم السياسي”.
“قرأتُ قصتك مجمع القردة”. قال بنسعيد الشاطئ: “بالفعل هي تختصر حالة اجتماعية تعيد نفسها حتى إنها تساهم في الحركة التاريخية عندنا، هل يمكن التحدث عن وضع مثل هذا؟ أكنت تستفيد من كليلة ودمنه؟ كتبت سلسلة قصص خلال سنتين، في إحداها تتحدث عن عائلة غير معروفة في التاريخ الليبي، ولا نعرف إن كانتْ تمثل كل التبو كمكون ثقافي في ليبيا؟”.
“بلادنا غامضة جداً، ولا أعرف حقيقة هل هو أمر مكتسب أم هي طبيعة المنطقة ربما خلقنا هذا الغموض بسبب سوء النوايا، هامش من عدم الثقة، لا نعرف عن ليبيا شيئاً، أغلب الكتابات التي تتحدث عن تكوينها الاجتماعي لا تعدو كونها مخطوطات ناقصة–غدامسية وهي قليلة جداً في الأساس، تاريخنا لسبب غامض لا يرتبط إلا بفترات لا تمثل حقيقة البلاد، على الأقل لا تمثل كل ثقافة البلاد، نتحدث حول بلادنا وثقافتنا من موقف السلطوي، كل ما يخدم السلطة هو يمثلنا، كما ننظر إلى تاريخنا كنظرتنا للأفراد، لا حركة شعوب عندنا ولا شيء سوى شيخ قبلي قاتل أو قال أو تزوج أو في أحسن الأحوال شيوخ تعرضوا للخيانة وقبلي مغامر انطلق لتصحيح وضع سياسي خاطئ، ليسبب خللاً في مساراتنا التاريخية لقرون عقب حركة بدأتْ تصحيحية وبطولية. اللمسة الصوفية من الاحتفالات والزوايا الدينية التي صاحبت الحركة السنوسية كانتْ أقرب لواقعنا المعيشي رغم سطحيتها خلقتْ نوعاً من فهم للتركيبة المجتمعية وصنعت خيوط تفاهم بينها مع إمكانية ضم مئات الشعوب الجديدة في الكيان الليبي، دون حرب واحدة لضمها، أليس غريباً أن نقع بعدها في براثن نظام ديكتاتوري قومي متعصب، شن خلال عقوده الأربعة حروباً أكثر من الحروب والهجمات الاستعمارية التي وقعتْ طوال القرن والنصف من بداية السنوسية كحركة دينية مقاومة. نحن الليبيون هاجمنا دول الجوار لدواعي مضحكة وهناك في الجهاز الإداري الليبي من يدافع عن حروب التشادية وعن المجازر الديكتاتورية وأفضل ليبي رافض لتلك الحروب، يرفضها فقط بسبب موت الليبيين فيها، فلا توجد أي إحصائية عن عدد القرى التشادية أحرقها الجيش الليبي ولا عن الخسارات البشرية في الأقاليم التشادية. لن نجد أي مقال ليبي يتحدث عن هذا العنف اللا أخلاقي إلا لإستخدامه كورقة للهجوم على النظام الديكتاتوري. الأخلاق تحتضر في بلادنا. هل نحس بالذنب أم نتوهم دور الضحية؟ فلا مصادر تاريخية مختصة بمشاعرنا تساعدنا على معرفة أنفسنا، أود حقاً أن أتحدث عن هذا أكثر، أنظر معي، بدلاً من الزوايا السنوسية التي أدخلتْ الليبيين إلى قلب أفريقيا وأسيا ظهرتْ المثابات الثورية ومراكز الأمنية ونظام إداري مستبد وصلوات جماعية لا تخلق إلا صورة دخانية غير حقيقية، لا شيء حالياً يمكنه خلق نظام إداري مماثل لما تركه السنوسيون وراءهم، فالنظام الجماهيري لم يكن قادراً على الدخول لواقع المعقد للمجتمع الليبي، لذا خلق واقعاً بديلاً باستخدام البديهيات السطحية. نحن كأفراد للشعب لم نعد غرباء عن الآخرين، بل حتى عن أنفسنا، لم نعد نعرف من نحن وماذا نعني، لا بد إنك سمعت عن القصة الديكتاتورية القديمة وإن لم تكن صحيحة ولكنها مثيرة للاهتمام: يُقال أن العقيد جمع أبناءه ومنح كل واحد منهم قفصاً يحتوي على أربعة جرذان، وطلب منهم أن يفتحوا القفص وأن يحافظوا على الجرذان الأربعة واقفة في مكان واحد، طبعاً فشلوا جميعاً في فعل هذه المعجزة السياسية، فأخذ هو قصفه الخاص وقام أمام اندهاشهم، بتدويرها بسرعة بالغة دورات متتالية ثم فتح القفص، فلم تتحرك الجرذان من مكانها، لم تقدر على الحراك بسبب الدواخ الشديد، عندها قال العقيد: هكذا يُحكم الشعب الليبي قد تقول إنها مجرد أسطورة شعبية، عندها سأقول لك، بالفعل هي أسطورة شعبية”.
كان بنسعيد معجباً بحماسه وجراءته، وأخذ يُراجع التاريخ الذي يعرفه ويضبط ما ظن أنه خلل في الرؤية بسبب حداثة السن.
“أعدتُ قراءة قصة العائلة”. قال بنسعيد وهو يُحرك أقلاماً على الطاولة الزجاجية مبتعداً عن الغوص في التاريخ الليبي: “لا أستغرب اهتمامك بالأساطير، فهي تؤسس لقصتك التاريخية وتجعل لها بعداً سياسياً، وجدتُ في كتاب لأحد المؤرخين الليبيين قصة لافتة عن قبض على مقاتل تباوي ضد القبائل العربية وعندما سأله القاضي عن مهنته أجاب: قاطع طريق. كيف ترى لمثل هذه القصص؟”.
“نعم كون قصة العائلة ولدتْ مباشرة من مناسبة اجتماعية، فقد بدأتْ بعلاقة وثيقة بالأساطير الشعبية، سمعتُ عن عشرات الأساطير والقصص التاريخية، ولم أعرف مطلقاً الفرق بين القصص والأساطير، كلها متشابكة في حزمة واحدة، وهي أيضاً تعتبر أدوات تعلمية، وقوالب للحفاظ على الذات من فساد القوميات العدائية الوافدة وقد لا يوافقني أحدهم على تسميتها بأساطير، لكنها تمثل شيئاً كبيراً للوجدان التباوي، نحن أمة تعرضت للمعضلات الاستعمارية وهي تعي هذا جيداً حتى أعتبر إن واجب كل تباوي أن يغدو قاطعاً لطريق، استغرب أن يكون التباوي رجل دولة أو يدخل في المؤسسات الهشة التي لا يؤمن بها حتى أولئك الذين أسسوها ويتحينون الفرص للتخلص من قوانينها، ولا يمكن للتباوي أن يفعل هذا إلا بخيانة جزء أصيل من ذاته أو بقتل ذاكرته. أتخيل أن مئات ألالآف منا قتلوا فقط لأنهم من التبو على مدى التاريخ وهذا يُسبب لي الغضب، كوني لا أفعل شيئاً لإحياء ذكراهم بشكل يليق بهم كما عاصرت مقتل المئات وأشعر بالغضب والمقت من القومية العدائية، وكان يمكن أن أتحول إلى إرهابي وأؤسس فرق قتالية إلا إنني أمتلك ما يجعلني أقل عنفاً، ربما ضعفاً أو أملاً في مستقبل أفضل. تصرف غامض مثل تلك الأم التباوية من أوباري التي لا تريد كراهية قتلة ابنها وتُقيم الندوات الإعلامية معلنة الغفران من أجل إيقاف حمام الدم والحرب الأهلية في البلاد، رغم أنها فقدتْ ابناً، القصص التاريخية مثل قصة قاطع الطريق لا تجعلني أشعر بأي خجل أخلاقي أو تاريخي كما إنها قصص تُغلف دوماً بروح فكاهة استعمارية مقيتة لسلب قوتها، فالقصة تعني لي أنه شخص ظل يُقاوم حتى وهو بين يدي أعداءه ولم يخش ولم يخف ولم يخن رفاقه سواء الشهداء أم الأحياء وإنهم لم ينجحوا في دفعه للشعور بالذنب أو الندم وإن القاضي لم يكن سوى أداة استعمارية والمؤرخ الناقل للقصة ليس إلا أداة استعمارية أخرى. كنتُ واعياً جداً بهذه الحالة أثناء كتابتي لقصة العائلة قاومتُ العقلية الاستعمارية وهو لا شيء أمام ما حدث تاريخياً، لكنني أؤمن أن القصص تعيد خلق الشعوب وتحطم الوقائع البديلة باعتبارها سرديات استعمارية ركيكة تعمل ضد نفسها لأنها تجانب الصدق”.
“تؤمن بالسرديات القوية؟”. تمتم بنسعيد.
“أحترمها بالأحرى”. قال آلي مندفعاً: “إنها تخلق نوعاً من الصراع الفكري”.
“أخبرني منصور الأسدي، إنك تبدو كشخص لا يحتمل نفسه، تسبب بالملل سريعاً لذا تعمل على خلق سرديات صغيرة تزداد قوة كل مرة، إنها طريقتك لتحليل الماضي الخاص بك، متاهة تعمل على وضع كل من ينظر إليك أمامها وتخبره، إن استطعت الوصول إلي، فأنت جدير برفقتي”.
“بقدر ما يبدو هذا مضحكاً إلا أنني أعتبره حقيقيا بالرغم من الحس السخرية، ربما لاأحترم هذا بشكل كافي، لكن أغلب حبنا للصادق النيهوم هو بسبب قدرته الإستثنائية على ايجاد شيء يسخر منه دوماً في واقعنا حتى أن أغلب الشعب الليبي يفكرون بنفس الطريقة أو أن الصادق النيهوم نفسه يفكر دوماً كليبي من الشارع ولا يمكنه التخلص من كونه ليبياً، سأعلم أبنائي التقليل من السخرية وهذا يعني أن أقلل من ليبيتهم النيهومية”.
ضحك بخفة ثم قال: “لكنك تعتبر الصادق النيهوم كموجه أخلاقي؟”.
“أعتبره نقطة تفاؤل وأحب مقارنته ببوشكين في روسيا. النبلاء السلافيون يخشون الاعتراف بأن بوشكين أكثر من موجه سياسي. التأثير البوشكيني مدهش، لكن هل كان القياصرة يحبون بوشكين؟ هناك قيصر وهناك بوشكين، من يعترف بالنيهوم السياسي أمتلك رغبة في اعتماده مصدراً للتفاؤل الاجتماعي. يُمكن إيجاد شخص ممتلئ بحب الإنسانية داخل كومة الرمل المسماة بليبيا”.
عندها وجد بنسعيد الشاطئ نفسه مضطراً لإطلاق سؤال: “هل تعتبر أن أديب مثل منصور الأسدي استطاع فهمك أدبياً؟”.
“لا أعرف منصور الأسدي، لا أعرفه جيداً”. قال آلي ورد كو بعد لحظة من التأمل الذاتي: “في كتاباته يبدو كشخص غامض مصاب بمرض اجتماعي، لكنني أتمنى معرفته، وأن يعرفني ليس شيئاً مهماً بالنسبة إليه ثقافياً”.
“لماذا؟”. تساءل بنسعيد باهتمام.
“شخص دفع كل هذا الثمن بسبب أدبه”. قال ألي ورد كو: “من المخجل والمؤسف أن نتأخر في معرفة أدبه، تواصل أجيال، ليس مخجلاً أبداً أن لا يعرف هو أي أحد من الأجيال التالية، أتمنى الالتقاء به”.
“ستلتقيان قريباً، أعتقد أنكما ستتوافقان”. تنبئ بنسعيد بارتياح وقام مستأذناً لعدة دقائق، قضاها آلي في صمت متطلعاً في غلاف الكتاب الجديد، غلاف أسود في منتصف يظهر العنوان بتعرجات ممتعة للعين برج القط السمين مكتوباً أسفل اسم الكاتب إدريس ياسين تصميم عظيم، تأمله آلي حتى عاد بنسعيد حاملاً معه كوبين من القهوة.
“بخصوص الأرشيف التاريخي والمخطوط الغدامسي وأدم أنر”. قال بنسعيد متأملاً بعد رشفة من قهوته: “هل تريد التحدث عنه يا آلي؟”.
“أخبرتك ما تود معرفته عن الأرشيف، سأخبرك عن أدم أنر”. أجاب آلي مقلداً ارتشافة بنسعيد للقهوة.
“قبل أن تحدثني عن أدم أنر، أود أولاً سماع ما فعلتموه في يومكم الأول للجمعية التاريخية، كيف كانتْ بدايتكم؟”.
روى آلي ورد كو بحماس البدايات كل شيء لبنسعيد الشاطئ عن طفولته الأولى وعن جمعية كُتاب تازر وعن صديقه بركاي هامشي مي وأدم أنر وإيسا وداريا وكوناي وباية وكندماي كما روى قصة بحثه في بنغازي عن مذكرات صديقه عن كل ما حدث بعد ذلك. تفاصيل غامضة تم جمعها على مدى سنوات، عمل مطولاً على إعادة تحريريها، خلال لقاءاته الصحفية حتى وصلتْ لصغيتها الأفضل من كثرة إعادة كتابتها حفظ آلي ورد كو كل تفاصيلها. سنضع في الفصول التالية أجزاء منها بحسب آخر تحرير لمسودات نصوصه المكدسة داخل الدرج الأعلى من طاولته المواجهة للنافذة.