أزاحت أم محمد وسائد الديباج، المحشوّة بريش النعام والإوز البري جانباً وهبت واقفة. سارت بخفة نحو المَلَك الكريم، الذي يقف بأدبٍ جم، يستأذن عند بابها، الموشّى بالذهب وفصوص الزبرجد، وابتدرته بلهفة:
ـ هل سأقابل أبو محمد اليوم أخيراً؟
أخفض المَلَك أجنحته السبعين في حضرتها، طأطأ رأسه الذي يشع نوراً غمر المكان بلون الفيروز، وردّ بمودة عالية:
ـ نعم يا مولاتي الكريمة، هلمِ أحملكِ إليه.
ـ انتظرني سأتهيأ له، أبو محمد يحب أن يراني جميلة.
ـ سلي تُلبيّ يا مولاتي، أي زينة تريدين أن تتزيني بها لزوجك الكريم؟
ابتدرتها الجواري بمحفات من حرير، طوّقن بها جسدها ودرن حولها، يغمّدنها بطيب الكافور وروح المسك، سّرحن جدائل شعرها وشكلن ذوائبه بخرز اللؤلؤ الأبيض، سحبن ثوباً أبيض طويل من الموسلين، من أسفل قدميها الغارقتين في نعومة القطيفة حتى عظام كتفيها، وجمعن ثنياته ثنيةً ثنية، حتى قبضن على آخره بمشبك من الياقوت المتوهج، ورحن يسرحن جُعدات ثوبها، الذي امتد وراءها 40 متراً، ويشكلنه ببتلات الياسمين، التي قطفنها خصيصاً، من على ضفاف النهر، الذي يحيط بقصرها المنيف.
وما إن انتهين من تسوية الثوب، حتى أدخلنها في سحابه من روائح الزهور والأعشاب، أدرنها فيها فتغشّاها رذاذ العطور، من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، اللتان طوقتهما الخلاخيل والسلاسل. وما هي إلا هنيهة، حتى وجدت أم محمد نفسها، تمتطي إحدى أعظم نوقها نفاسةً وجمالاً، أناخها لها المَلَك الكريم، بعد أن تهيأ بجناحيه ليطير بها إلى أبي محمد.
طافت أم محمد بناقتها الطائرة، حول الهضبة المعشِبة، تحوّط قصرها الذي يشرف على عيون ماء ضخضاخة، تسبح فيها أسراب البجع والنوارس، وتحجل فيها كل أشكال الطيور التي تحبها، فلمحت جواريها من بعيد، وهن يتهادين على حافة البحيرة، يرددن ترنيمة عذبة ثم يتحلقن في دوائر ويشرعن بالرقص، لكنها التفتت عنهن، فقد سئمت كل هذا، وحنّت لصحبة أبو محمد الذي استشهدت معه، حين كانا يقاتلان الكفار، فمزقت جسديهما أشلاءً، قنبلة يدوية صغيرة ألقاها أحدهم، على الحاجز الذي كانا يتمترسان خلفه، وقد مرت عشرون ألف ألف سنة بسنين الجنة، لم ترَ فيها زوجها وحبيبها، ورفيق الدرب والجهاد أبو محمد.
وما هي إلا أن هبطت الناقة الكريمة، على مشارف خيمة، مرشوقة بأوتاد من ذهب في أرض الجنة، منسوجةً من حرير مفتول، لدود القز الذي يعشش في أغصان السدرة الكبيرة، فحاولت الهبوط بسرعة، لكن المَلَك الكريم تلقّاها منبهاً إيها بتبجيل:
ـ رويدك يا مولاتي، زوجك مشغول، دعيني أناديه.
ـ أنت تناديه؟ لماذا؟ دعني بربك فقد أرهقني طول فراقه، أنت لا تعرف كم اشتقت إليه.
ـ على رسلك مولاتي على رسلك.
كظمت أم محمد غيظها لبروتوكولات هذا المَلَك، الذي حيرها أن يستأذن لها عند زوجها وحبيبها. وما إن تخافت خفق أجنحته السبعين، حتى سمعت أم محمد، تأوهات ماجنة تأتيها من الداخل، وما يشبه المزمار يتردد، والتأوهات تعلو وتعلو، ثم سمعت صوت، يشبه صوت أبو محمد، في لحظات رهزاته الأخيرة، حين كان يضاجعها في الدنيا.
دارت الدنيا بها، شعرت بغصة، وحزن، هل كان صوت أبو محمد، أيعقل أن يفعل بها ذلك وهو يعلم بمجيئها اليوم؟ وماذا يفعل هناك ومع من؟ وهل تزوج عليها؟ وما هي إلا أن خرج أبو محمد، متشمّلاً بقفطان ملفوف حول جسد ممشوق، أسمر مفتول العضلات، لم يخفِ رشاقته وطوله الملحوظين، فجحظت عيناها بقوة، وهي تركض نحوه.
ـ أبو محمد أبو محمد يا حبة القلب.
ـ وا شوقاه يا أم محمد كم صرتي جميلة.
تعانقا، فطرحت أم محمد رأسها الحار على صدره، تبكي وتمرغ وجهها في رمانة كتفيه. أبعد رأسها وهتف مقبّلاً جبينها:
ـ لقد صحح الله لكِ عيوبكِ التي بالدنيا، شعرُكِ الأكرد كالليف، صار ناعماً كحرير دود السدر، وصدرك الذي ضمر مبكراً، صار كبرتقالة ناضجة تشتهي يدي، وزالت الوحمة الكريهة عن ساعدك الأيمن.
ـ وأنت أيضا، تراجع كرشك، وتطاول جسدك، واكتست صلعتك التي كانت تبرق بعيني كمرآه بشعر كثيف، وصرت نضراً وسيماً.
ـ أما علمتي أن الله يكمّل لنا خِلقتنا بالجنة، حتى أنه أعطاني قوة مئة رجل بالفراش؟
ـ ماذا تقول؟
ـ لدي ثنتنان وسبعون حورية، يبدّلهن الله لي كل يومين أو ثلاثة، يغنين لي، يرقصن، يتغنجن، وأنا لا أتوقف عن الانتصاب طوال الوقت يا أم محمد تصدقين هذا، بعد أن كنت بالكاد قادراً على مضاجعتك مرة كل 4 أشهر؟
ـ أنت هو إذاً من كان يتأوه بالداخل؟
ـ نعم، نعم.
رد بحبور وفخر. لهذا غبت عني عشرين ألف ألف سنة يا أبو محمد، وتركتني لتنشغل بتلك الغواني؟
ـ لا تقولي غواني يا أم محمد، إنهن حورياتي اللاتي وعدني الله بهن، أنسيتي كيف مت؟
ـ لقد مت معك يا أبو محمد، أنسيت أنني كنت أحميك أحياناً بـ ….؟
ـ وما دخلك أنتي بهذا؟ الحوريات لي، لقد كافئني الله بهن، ما بك؟
ـ أنت زوجي يا أبو محمد بالدنيا وبالآخرة، تهجرني الآن إلى رفقة هؤلاء العاهرات؟
ـ اخرسي قبحك الله، هذه مكافآتي من الله على استشهادي يا امرأة.
ـ تشتمني وفي الجنان ممنوع الطعن واللعن والسب؟
ـ أنا زوجك ومؤدبك، كم أنتِ ناقصة عقل يا امرأة؟
ـ ألم تقل للتو أن الله يكمّل لنا خلقتنا بالجنان، ويعوضنا نقائصنا وعيوبنا؟
ـ إلا عقل المرأة يا أم محمد، عقل المرأة يظل كما هو، منقوص لا يكتمل ولا يقوّم، ألم ترِ كيف اهتاجت نفسك، حين عرفتي بمكافئتي بالحوريات؟
ـ تباً لها من جنة إذاً.
ـ اخرسي يا لعينة، أنتِ تشاقّين الله في أمره؟
ـ لقد استشهدت معك، كنت أدافع معك عن الإسلام، وأرد معك عن حياضه، كيف تُكافأ أنت بكل هذا، وتهجرني لتلك العاهرات تضاجعهن على مسمعٍ مني، وأبقى أنا متربصة ببيتي عشرين ألف ألف سنة، كيف؟
ـ حتى بالجنان يا أم محمد تجادلين، وتعترضين، ويح المرأة، ويح المرأة.
قالها والتفت للمَلَك الكريم، الذي ينتظر بوداعة وتكلف جانباً.
ـ أم محمد زوجتي هذه معاقبة يا مَلاك الله الطيب، خذها ولا تحضرها لي هنا قبل خمسين ألف ألف سنة.
ـ ماذا؟ تجروء على أن تفعل بي هذا بالآخرة أيضا، تهجرني ملياً؟
ـ وأضربك يا امرأة على سلاطة لسانك ومعاندتك، وغيك الذي لم يبارحك، حين تعترضين على ما كافئني الله به من نهود وفروج لعذارى الجنان.
ـ لا.
ـ ماذا لا، ويحك؟
ـ لن أبرح مكاني هذا حتى تعود معي لقصري، أو أقيم معك وحدنا بخيمة الحرير هذه، أو أحصل أنا الأخرى على إثنين وسبعين ذكراً من الحور.
ـ تريدين ذكوراّ من الحور ليضاجعوكِ؟
ـ لقد استشهدت معك، لا تنسَ هذا.
صدم أبو محمد، التفت برأسه يميناً وشمالاً، وهو يزم شفتيه صائحاً في المَلَك، يقرّب الناقة من سيدته.
ـ اسرع يا هذا واغرب بها عن وجهي، هذه الشمطاء الحسود، لقد خنقتها الغيرة، تباً لنساء الأرض لا يتغيرن.
ـ طلقني يا أبو محمد.
بهت المَلَك واضطرب، حتى تراجع أبو محمد وأم محمد معاً، لشدة ما علاه من غضب.
ـ مولاتي الطلاق ممنوع بالجنان، هذا زوجك الذي دخلتي معه الجنان، وأدخلك برضاه للرضوان، هذا لا يجوز.
ـ لقد دخلت الجنة باستشهادي معه في سبيل الله يا هذا.
ـ وبرضاه يا مولاتي، لو لم يكن راضٍ عنك، لما دخلتي الجنان حتى باستشهادك.
ـ ما هذه الجنة التي أبقى فيها كالدنيا، جارية معلقة برضا سيدها، مركونة على رف مهمل، ولا أحصل فيها على طلاق أيضاً؟
زاد اضطراب المَلك وعلا حنق أبو محمد، الذي همّ بضربها، لولا أنها تراجعت بقوة للخلف وتعلقت بسرج ناقتها.
ـ اغرب بهذه المرأة من هنا أقول لك، وسوف لن أزورها أو أضاجعها قبل مرور مليون مليون سنة من الآن.
ـ إذا يا أبو محمد.
صاحت بقسوة واهتياج وأكملت:
ـ لن أدعك تفعل بي هذا مرتين، سأثور عليك وعلى جنتك الماخورية هذه.
ـ رباه جنت أم محمد، يا امرأة لا تجعليني أضربك، كبري عقلك يا امرأة كبري عقلك، ثورة ماذا هذه التي تعتزمين القيام بها في الجنة؟
ـ إنها مغادرة جنتك الماخورية، وعدم الارتهان لك ولإرادتك، ولا انتظارك حتى تجود عليّ بمضاجعة بعد مليون مليون سنة، سأذهب للجحيم، حيث أعذب بكرامتي، على أن أواصل الحياة معك كجارية للمرة الثانية.
وقبل أن ينتبه المَلَك من صدمته، أو حتى يفيق أبو محمد من الذهول الذي تلبّسه، تسلّقت أم محمد ظهر ناقتها، ونخستها بمهماز الفضة في خاصرتها، وطارت شمالاً باتجاه الجحيم.