رواية المغبوب رواية بوليفونية أي متعددة الأصوات والمنظورات السردية، تدور أحداثها عن حادث شاحنة يقع لأحد المثقفين الذين تعرضوا للاضطهاد في بلادهم.
دينا نبيل
قد يُظن بالأعمال الأدبية التي تدخل في نطاق الواقعية السحرية أنها متضمنة حكايات الجن والعفاريت، والحقيقة فإنّ الفنتازية وحدها لا تكفي كي تقدّم فن الرواية المعقدّ الذي يجسّد ملحمية الحياة البشرية. فلا تقتصر الواقعية السحرية على ما هو عجائبي على الرغم من كون العجائبية وشيجة رئيسة في هذا التيار؛ وإنما هناك الجانب السريالي الباحث في الماورائيات والأغوار النفسية للإنسان وانعكاسها على نظرته لما حوله، وكذلك الأسطوري على حدّ قول الأديب الأرجنتيني بورخيس: “إنّ الأسطورة تقع في بداية الأدب وفي منتهاه”.
وفي رواية “الفينيكس” للكاتب الليبي محمد المغبوب نلحظ ملامح الواقعية السحرية، يتوازى بدقة محسوبة الجانب الواقعي الممثل لأحوال ما قبل الثورة الليبية في السابع عشر من فبراير/شباط وأوضاع الفساد المتفشية، جنباً إلى جنب مع عوالم ماورائية تتبدّى في الأحلام والتخاطر والأحوال الصوفية والعالم العجائبي الذي يزوره البطل أثناء غيبوبته فضلاً عن الدلالات الأسطورية ذات المحمولات الرمزية المنسوجة حول بطل الرواية الذي يشترك مع طائر الفينيكس في كثير من الملامح، حتى إنّه من الممكن إطلاق اسم “الرجل الفينيق” عليه.
تقع الرواية في تسعة فصول يشترك في روايتها أربعة رواة (الدكتورة وُدّ – راضية – سارة – البطل) فالرواية رواية بوليفونية أي متعددة الأصوات والمنظورات السردية. تدور أحداثها عن حادث شاحنة يقع لأحد المثقفين الذين تعرضوا للاضطهاد في بلادهم فاختاروا المنفى في تونس، مما أدى إلى إصابته البالغة ومن ثمّ دخوله في غيبوبة طويلة. تظهر على صعيد حياة البطل ثلاث نساء يتبادلن الأدوار بين ظهور واختفاء لتتضح لهن حقيقة مشاعرهن تجاه البطل. تختفي كل النساء من حياته وتبقى وُد حتى إفاقته من الغيبوبة لتبدأ معه رحلة العلاج، مما يصادف اندلاع الثورة في بلاده فكان قراره بالعودة إلى الديار مجدداً. وهكذا تبدو المعلومة السردية الرئيسة حول الرواية واقعية للغاية ولكن الكاتب يدمج مع تلك الواقعية المريرة عوالم سحرية ليعطي مستوىً جديداً للعمق الدلالي والجمالية البنائية لعمله الأدبي.
* السريالية:
يلجأ الكاتب للمزج بين العالم الواقعي والسريالي، فقد يبلغ النفور ببعض النفوس حداً لا تستطيع معه أن ترى ما في الواقع من قبح إلا إذا مسته بجناح الخيال؛ فيرفض التسليم بما هو واقع ومألوف وتقليدي بما يعيد اكتشاف الأشياء في نقاء وتلقائية. وقد كان أكثر ما أعان الكاتب على الولوج إلى أعماق وأغوار النفس الإنسانية اعتماده تقنية “تيار الوعي”، وهو أحد أنماط الخطاب المباشر الحر الذي يركز على التدفق العشوائي للفكر؛ فيقدم كلا الانطباعات والأفكار حال ولادتها ويرصد تداعيها؛ مثال تقاطع السرد مع ذكر وُدّ لانطباعات نحو راضية وتداعي أفكارها وتدفق مشاعرها المتضاربة حولها بحسها الأنثوي ثم التعريج للحديث عن رجلها الفينيق الذي يستحيل بشخصيته أن تكفيه امرأة واحدة ثم الانتقال لبعض الاسترجاعات الخاصة بها أو بالبطل وربطها بالتاريخ ثم العودة إلى الواقع.
يستعين الكاتب بتقنية الأحلام وهي حد ذاتها صورة مختزلة للواقع عبر الرموز ذات الإحالات ومن ثمّ ترتبط الأحلام بالواقع الذي لا يمكن فصلها عنه. يأتي الحلم في خمسة مواضع متفرقة على لسان الرواة (راضية – سارة – ود) وكلها تدور حول “الرجل الفينيق”.
تقول راضية: “جاءني يرتدي ثوباً أبيض ويضع على رأسه لحافاً يظهر وجهه الوسيم بلحية بيضاء أيضاً ساهم الطرف في هدوء كبير… كأنني كنت عارية وجدته يضع اللحاف على جسدي ، ويمسح بيده جبهتي” إن الجدلية بين التعرية والتغطية في الحلم على المستوى المجازي وثيقة الصلة بدواخل راضية ونهاية علاقتها بالبطل الذي أسهم في تعرية ذاتها أمام عينيها، تقول: “لقد اكتشفت نفسي من جديد وكان هو من نزع الغطاء عن جهلي وجعلني أراني في مرآة ذاتي” فقد كان للبطل دور كبير خلال مدة تعرفها إليه في تنوير عقلها وتبصرتها بحقيقة صراعها الداخلي بين البقاء في المنفى أو العودة إلى وطنها المشتعل وربط مصيرها بمصيره. وتكمن رمزية حلم سارة في استخراج بواطن سارة وإحساسها بالذنب بسبب خيانتها للبطل الذي تدعي أنها لا ينازعها فيه أحد، تقول: “هيئته كانت على صورة شيخ جليل يرتدي ثوباً ناصع البياض، بوجه له عينان قلقة تحملقان حولهما وتصيبني بسهام نارية”، فقد أفاقت إليها نفسها ولم تكتشف سوى أنها كانت تلبي نزواتها الداخلية وأدركت خلال غياب البطل البرزخي أنه كان حاضراً بقوة ينير طريقها في الوقت المناسب، تقول: “سأعود إلى النقطة التي انطلقت منها بمسوح ناسك وثياب راهبة”.
يختلف حلم ودّ اختلاف دورها عن سائر نساء البطل؛ فهو لقاء حميمي يجتمع به الضدان في رجل واحد العربيد والناسك – ولكن في عمق دلالة هذه الثنائية يكمن التكامل؛ الناسك كما ظهر في حلمي راضية وسارة كالشيخ العارف الذي يبصّر بحقيقة الطريق الذي يسلكانه ووجوب تعديل الطريق عن اللزوم. أما في حلم ودّ فلم يكن نقيضاً؛ إذ تكمن دلالة اللقاء الحميمي بين ودّ والبطل في التكامل بين عنصري الخليقة (الرجل والمرأة)، وتوحد الوجود، وهذا الاتحاد مرمى خلاصة الفكر الصوفي.
تتبدّى من خلال الأحلام ملامح الصوفية؛ التي دخلت ساحة الإبداع الأدبي بوصفها أحد تيارات السريالية. الصوفية تهدف إلى سمو الإنسان بروحه فوق المطالب الدنيوية فتتحرر الروح وتتصل بأصلها الإلهي مما يمكّنها من تكشّف المستقبل والرؤية السليمة لمجريات الأحداث، يقول البطل: “يبصر الصوفي جلال الله ونوره يرى به ما لا يراه غيره، ولا شغل له إلا المزيد من العبادة حيث تقربه إلى مولاه الذي يهديه إلى المعرفة وفك طلاسم كل شيء”.
يأتي دور البطل المجسّد لدور الصوفي المكاشف لحقيقة الآخرين أمام ذواتهم عبر تراسلهن معه روحانياً، إلا أنّ أكثر ما تتجلى فيه الصوفية هو مشهد قيام الثورة الليبية وعقد المقارنة بين البطل الفينيق وصديقه زهران الحمادي. يؤثر زهران الديمقراطية (الجاهزة) في المنفى على العودة إلى الوطن لمعاركة الفساد وتحقيق الرخاء كما يعزم البطل أن يفعل. وبناءً عليه يتضح كيف أن جوهر الصوفية يدعو إلى التجرد من المطالب الشخصية ونبذ الخمول في سبيل إعلاء الروح الإنسانية والثورة على شتى أنواع الجواذب الأرضية وهي مبادئ الثورة أيّاً كان نوعها؛ فالبطل الفينيق لم يكن شيخاً، وإنما كان صاحب قلم ثائر يطمح للوصول إلى مبتغاه.
* العجائبية:
1- يمتزج العالم الواقعي بالعجائبي؛ فالبطل الفينيق يدخل في غيبوبة لم يستطع العلم تفسيرها وينتقل خلالها إلى عالم جديد، لا نستطيع القول إنه حلم لأنه ليس نقلاً لبواطنه أو استشرافاً لواقعة ستحدث وإنما هو انتقال روحاني إلى عالم برزخي بين الدنيا والآخرة، وهذا العالم تعبر عنه ودّ بقولها: “تخوم الآخرة ” ويسميه البطل نفسه بـــ “مدينة النفق”. يسيطر اللون الرمادي على المشهد وهو لونٍ بينيّ بين الأبيض والأسود يمثل أجواء العالم الضبابي. تظهر في ذلك العالم متناقضات وفوضوية عمرانية وكلاب ذات أجنحة وأشباح وكائنات خرافية غريبة. وهكذا فإن العجائبية قد جسّدت الواقع بشكله الغرائبي الذي شوّهت فيه الملامح. فما عاينه البطل في مدينة النفق هو الحياة البينية التي تعيشها المجتمعات العربية حالياً فهم أنصاف أحياء، يزجّ بهم في السجون وتقيّد أفكارهم وتقهر أحلامهم وتضيع حقوقهم أو ينفوا من البلاد؛ فتتشوه أشكالهم وأرواحهم ورغائبهم ويصيرون وسيلة لإمتاع الطغاة بينما يرتع أصحاب النفوذ في كل مكان.
* أسطورة الفينيق:
يقوم الكاتب بخلخلة هيكل الأسطورة ليعيد ربطها بالواقع مما يفتح دلالات جديدة للأسطورة والعمل الفردي. يظهر الملمح الأسطوري في استجلاب مشاهد تاريخية إلى الواقع، فالتاريخ يخلل ويوضع جنباً إلى جنب مع الحاضر للوقوف على أوضاع التدهور والكساد في الحاضر بعد أن كانت أرضاً لأعظم الإمبراطوريات، فاستحضار التاريخ تقنية يعتمدها لتقديم وحدة الوجود الذي تنتمي إليه الإنسانية بأسرها، أو”الزريبة الإنسانية”. يتضح الملمح الأسطوري منذ عتبة النص الأولى “الفينيكس”. تأتي استعانة الكاتب بالأسطورة من خلال إسقاط سمات الطائر الأسطوري على البطل، بل وإعطاء أبعاد رمزية؛ كوسيلة للبوح بالمسكوت عنه. فيجرده من الاسم رجلاً خارقا؛ يهب الآخرين الحياة ويبصرهم بذواتهم، كما أنه في كل مرة يكون فيها محاصراً من الموت، يفلت منه بأعجوبة، تقول ودّ: “رجلي هذا كطائر الفينيق تماماً فأكثر من مرة يسحبه الموت إليه، ويلامس تخوم الآخرة، لكنه يعود به إلى حيث المكان الذي اختطفه فيه”. إن رحيل البطل عن موطنه ثم وقوعه في الغيبوبة ومن ثمّ عودته مجدداً للحياة وقراره بالسفر إلى الوطن تلتقي مع مراحل حياة الطائر الخارق؛ يقول: “أرادت العنقاء أن تولد ثانية، فتركت موطنها وسعت صوب هذا العالم وبنت لها عشاً. بعد ذلك تموت في النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد .. وتخرج عنقاء جديدة تطير عائدة إلى موطنها الأصلي”، فالعنقاء رمز للحياة المتجددة والبعث من الرماد. كما يقف البطل الفينيق معادلاً موضوعياً للثورة وكيفية انبعاثها من الرماد بعد عدّ همم شعوبها في عداد الموات ولكنها تنبت من جديد متحدية الموت الذي فرض عليها من قبل حكامها لتؤذن بولادة حياة جديدة.
إن قضية الحياة البينية التي لا تجد الروح مستقراً لها وتظل هائمة مترددة في الفضاءات بلا غاية أشبه بحياة الأحياء / الأموات التي يعيشها الإنسان العربي حالياً، فهو حيّ بلا حرية ولا حقوق ويعامل مهملاً كميت. فيطرح الكاتب قضية الوطن وحضنه الباعث للأمان والاستقرار، فقد ظل الشخوص يصورون مدى القلق النفسي الحاصل لهم بسبب الابتعاد عنه حتى وإن وجدوا المعاملة الإنسانية والكرامة في المنفى، فهل الوطن هو الذي يعطي الكرامة والحقوق للإنسان وإن كانت بلاد الغربة أم أنه الأرض التي نبت فيها وعليه فيبذل حياته فداءً لتخليصه من براثن الفساد.