كنت بحجم كرة المضرب.. اتدحرج حتى أقف عند نقطة معينة لتلتقطني أمي “سهير” وتدفئني في احضانها.. يزورنا أصدقاء والدي في دارتنا الانيقة بالظهرة.. كان البيت على الشارع الرئيسي الرابط ما بين سوق الظهرة الشهير شمالا وميدان الوسام الذهبي جنوبا ” ميدان القادسية فيما بعد”. موقعه بين ميدانين وبالقرب من سوق تجاري واتساعه وحديقته الغناء التي تتوسطها نافورة مبنية بالفسيفساء الزرقاء جعله قبلة للكثير من الاصدقاء خاصة من أهل الأدب والثقافة والأقارب…
اعتدت الدخول إليهم في الصالون والعبث بحاجياتهم.. والتودد إليهم.. إلا عمي خليفة التليسي.. كان جسده الضخم وملامحه البارزة وصوته الجهوري كفيل بقذفي ككرة المضرب نحو الباب ثم الى الصالة ثم حضن أمي… يحاول والدي في استحياء اعادتي الى الصالون آملا في تخفيف حدة الموقف دون جدوى.. ولم أر في عمي خليفة ما يشجع على العودة إليه.. كان لا يراني إطلاقا…
كبرت وأمسكت بكتبه وتراجمه وقواميسه ومعاجمه وتجميعه لقصيدة البيت الواحد ونفائس الشعر العربي.. كان أفضلهم بالنسبة الي كتابه عن “طرابلس” المعنون “حكاية مدينة/ طرابلس لدى الرحالة العرب والأجانب”.. والقصص التي ترجمها عن الايطالية ومنها كتاب عنوانه “ليلة عيد الميلاد”. كتبه أراها تزيد من قامته علوا حتى تكاد أن تلامس السحاب…
عرفت بناته في مدرسة الظهرة الابتدائية للبنات، ملامحهم قريبة من ملامح عمي خليفة لكن بشرتهن ناصعة.. شعورهن الكثيفة التي تتدلى أسفل ظهورهن في ضفيرة سميكة تذكرتي بكثافة شعره الذي يعطيه شكلا اشبه بالدب القطبي…
أخاف من عمي خليفة.. حتى عرفته عن قرب، فأحببته وتحصلت منه على مجلدات من روائع الشعر العربي ممهورة بتوقيعه، هدية لي عن عمل وجهد قدمته…
أول زيارة له كانت في الدار العربية للكتاب، أرسلني والدي لمقابلته في شأن يخصه، فإذا بي أتفاجأ بصرح أدبي محترم ومبنى من طراز عربي شمال أفريقي، وحجر مصقول، وجدت في البهو الأستاذ “عبد الحكيم المملوك” الذي أصبح صديقا لاحقا، فاستقبلني بحفاوة أهل الظهرة و”ولاد البلاد” وقادني الى الدور الأول.. لم أجد أية عوائق حتى طرق على الباب طرقتين وثنى مقبضه نحو الأسفل.. ودفعه.. دخلت خلفه.. فرأيت د. خليفة التليسي يجلس على طاولة عادية محاطا بالكتب من كل جانب.. كتب.. كتب.. كتب.. نهض وهو في حلة أنيقة داكنة عليها كنزة صوفية وربطة عنق.. وقف فرأيته كما هو، ضخم مع إنحناءه خفيفة هذه المرة.. وشعرت بذات الشعور كرة مضرب تتدحرج نحوه مع شعور بالمودة والألفة اشاعتها ابتسامته ودفء الكتب التي تغلف المكان…
اجلسني قربه وكان الشاي الأحمر قد وصل مع رجل طرابلسي ببدلة ومعرقة وكأنه أحد شخوص كتابه.. لأشعر بأن من يعاشره يبقى معه ولا يفارقه.. تحدثنا ولاحظت إنه من القلة الذين ينطقون إسم أبي مجردا “كامل” دون أن تسبقه الاستاذية.. إلا أن والدي رحمه الله كان يناديه بالأستاذ خليفة دوما…
خرجت من ذلك المكان الذي بدا لي وكأنه لا يمت للمدينة بصلة إلى الشوارع المزدحمة والسيارات الجامحة والمباني المهملة والمتهالكة…
فهمت يومها أن الأستاذ خليفة التليسي ليس كاتبا ولا مؤرخا ولا مؤلفا ولا جامعا ولا شاعرا فحسب لكنه مثقف ذواق يهمه الشكل بقدر ما يهمه القالب.. يعطي المكان رونقا وخضارا، يهبه احتراما وهالة من القداسة…
وكيف لا يعتد خليفة التليسي بنفسه؟ وكيف لا يستوعب البعض مكانته التي شرفنا بها إقليميا ودوليا فكان في مصاف الأدباء العظام الذين لم تعد بلادهم تتسع لهم…
كان يعيش في جزيرته الدار العربية للكتاب، بين الكتب المتنوعة، يقرأ ولا يتحدث إلا قليلا، وإذا ما تحدث ببطء وبلسان عربي، وهو يقف شامخا كنخيل سواني طرابلس، يصغى إليه الجميع وكأنهم يلتقطون حبات كلماته.. ويصفق له الجميع بدون استثناء.. صوته الرخيم يزيده ضخامة ويضفي عليه هالة من وقار…
عرف كبار الكتاب والمؤرخين وتحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة نابولي الايطالية…
كيف له إلا أن يتسع بمساحة الوطن.. وهو الذي ولد في حواري المدينة القديمة لأسرة تقتات مما يجود به البحر، لم يسعفه الحظ في تعليم متقدم، فالتحق بالمهن المتعارف عليها يجمع قرشا على قرش ليعاون أسرته ويشتري الكتب يلتهمها كما يلتهم ” الحرايمي”.. أغلق بابه وحصن نفسه بقلاع العلم، علم نفسه بنفسه، اللغة تلو الأخرى، فأتقن الايطالية كما مثقفيها لا كعوامها.. ومزق شرنقته يوما ليطل على العالم بعلمه ويقابل ادبائه حتى ألف اول قاموس عربي ايطالي.. ثم انغمس في التراث العربي فاكتشف قصيدة البيت الواحد، جمعها وبوبها وأخرج مجلدات لأبيات وحيدة تشكل قصيدة لم تعرف اللغات الاخرى مثيلها.. وحيدة مثله لكنها شامخة.. تطل من الماضي زادا للمستقبل…
خليفة التليسي الذي عرفت لا يدخل مكتبي إلا بعد استئذان ويناديني “أستاذة” حتى اتصبب عرقا من الخجل.. فأين لي لكل هذا؟ يجلس على كرسي صغير لا يسعه.. يحكي لي ما يشغله.. بلهجة لا تنتمي لبقعة محددة، لكنها مطعمة بكلمات لغة الضاد…
طرقت بابه طالبة منه أن يكتب مقدمة كتاب والدي الذي أشرفت على إصداره عقب وفاته، إستقبلني في قلعته وحرص على أن أشرب شايا من أيادي الحاج “ضو”.. وقال لي.. من أجل كامل أقل ما افعله أن أكتب مقدمة كتابه.. تعثرت وأنا اقول له.. “ياريت ما تتأخرش عليا”.. ابتسم وهو يرتد إلى الوراء.. “ابدا سافعل مابوسعي”.. أوصلني حتى باب مكتبه وغادرت وأنا ممتنة له…
كتب المقدمة ولم يتأخر وطلب مني الحضور لأخذ رايي فيها.. أخجلني.. كان فخر لي أن يزين كتاب والدي بعد وفاته بمقدمة للأستاذ خليفة التليسي.. كما سبق وأن زين خطه المميز غلاف كتاب والدي “محطات / سيرة شبه ذاتية”.. أصر والدي على أن يوضع ما كتبه التليسي على الغلاف بخطه كما هو.. ضحك التليسي يومها.. هذا العمل الذي خرج بغلاف لفنان ليبيا التشكيلي عبد المنعم بن ناجي، وخط خليفة التليسي وكلماته التي اكاد أن أحفظها عن ظهر قلب وهو يقول: “لم تكتب قصيدة، في وصف حي الظهرة، ورثاء ملامحه القديمة بأبلغ من هذه القصيدة التي كتبها كامل المقهور. ولم يرسم لوحة عريقة زاهية بالألوان الحادة كما رسمتها ريشة كامل المقهور”. ومقدمة للقاص إبن فشلوم الأستاذ يوسف الشريف تحت عنوان “عودة الفارس القديم”…
عاد الفارس بمحطاته ومعه أصحابه من أهل الأدب والفن والثقافة.. أبى كامل المقهور إلا أن يعود للقصة القصيرة صحبة جيله ممن تقدم أو تأخر عنه بسنوات.. كان التليسي وخطه على غلاف كتاب محطات، كما كان ما كتبه في مقدمة “قصص” قد أشع على الكتابين وقار خليفة محمد التليسي…
كانت علاقة التليسي بوالدي – وهو المعتد بنفسه – ملؤها الحب والاحترام والإعجاب.. كان معجبا بوالدي خاصة في مجال عمله “المحاماة”، وقد اختلطت العلاقة ما بين الأدب والقانون، فكان يثق به كثيرا ويستشيره في الشأن القانوني، وهو أمر انتقل إليّ فيما بعد، واعتززت بتلك الثقة التي لا تقوم مهنة المحاماة إلا على صرحها…
كتب الأستاذ خليفة يصف هذه العلاقة في مقدمة كتاب “قصص” تحت عنوان “ذكريات”: “قد تواصلت علاقتي بكامل المقهور منذ ذلك اللقاء (في المصيف البلدي عند عودته في العطلة الدراسية من القاهرة) حتى وفاته على أجمل ما يمكن أن تقوم العلاقة الأدبية نبلاً وصفاءً، وقد عبر عن مشاعره نحوي في أكثر من مناسبة، كما عبّرت أنا أيضاً عن مشاعري نحو أدبه وشخصه في أكثر من مناسبة. وكان يزورني كلما أراد أن يفلت من قبضة المشاغل الخانقة في صحبة الفنان المثقف الرائع عبدالمنعم بن ناجي، أو صحبة صديق الطفولة والصبا والشباب الأستاذ الجليل بشير النجار، فنكون من هذا اللقاء واحة فكرية هادئة وندوة أدبية رفيعة المستوى…
وكنتُ شديد الإعجاب بألمعيته القانونية حيث كان (كامل) من العناصر القليلة التي عادت من الجامعات المصرية تحمل علماً مشهوداً به، وليس شهادة بلا علم. وما أقل من كان في مثل ألمعيته القانونية، ممن كان يدرس معه في نفس المدرج، وهو أمر كشفت عنه الممارسة والتجربة والاعتراف بهذه الكفاءة القانونية العالية في تكليفها بالنهوض بمهام وطنية قانونية لا يوكل أمرها عادة إلا للجهابدة….”.
وصف والدي التليسي بأنه “وسام على صدر الثقافة”، وكتب فيه مقالا نشره في كتابه “نصوص”، يقول: “وإذ كبرت، وعلمت، عرفت أن ما كان يساورني لا يتعلق بشخص اسمه خليفة التليسي، يجوب معنا شوارع المدينة، يضاحكنا، يمازحنا، يشاركنا عواطفنا ويعيش الأيام مثلنا، بل إن شأني كان شيئا آخر متعلقا بقيمة نبتت في أعماقي، ونمت في جوارحي، وظلت تكبر معي حتى تجاوزتني، وتجاوزت العلاقات الشخصية لتربو علاقات إنسانية أعمق، زادها المعرفة والثقافة. إذ لم تكن جوارح خليفة التليسي إلا أدوات للعلم، عقله عدسة يلتقط بها المعرفة، لسانه القول ينشر الفهم، يده القلم يسطر الثقافة، رجله الوسيلة يطوف بها آفاق الإبداع”…
عشق التليسي الشعر منذ نعومة أظافره، فحفظ المعري والمتنبي، وخاض في التراث الشعري وتفنن في إعادة استكشافه فكانت مختارات خليفة التليسي الشعرية التي تذوقها وضمها في مجلدات خمس تحت عنوان ” مختارات من روائع الشعر العربي”…كما صادق الشعراء من مدرسة الشعر الحر.. أحب نزار قباني وأطلق على أحد ابنائه “نزار”، وصادق نازك الملائكة.. كان يعشق كل الكلمات التي تشكل بنيانا شعريا أيا كان الشكل الذي ترتديه. تظل قصيدة التليسي الشهيرة عن ليبيا “وقف عليها الحب”، أجمل ما نظم.. يقول:
“وقف عليها الحب شدت قيدنا
أم أطلقت للكون فينا مشاعـرا
وقفٌ عليها الحبُّ ســاقط نخلها
رطباً جنيا أم حشيفاً ضامـرا
وقفٌ عليها الحبّ أمطــر غيمها
أم شحَّ، أو نسيتْ محبًا ذاكـرا
وقفٌ عليها الحبُّ كرمى عينهــا
تحلو منازلة الخطوب حواسرا
وقفٌ عليهـا الحبُّ تنظـم عقدنـا
ركبا توحَّد خطوةً وخواطــرا”
كم نحن اليوم بحاجة إلى هذا الحب الذي فقدناه.. وإلى وقار وثقافة ومكانة د. خليفة محمد التليسي المثقف بمساحة ليبيا…
ديترويت – 20.10.2014