(الحذاء الأصفر) قصة أطفال في سلسلة رائعة اسمها (حكايات من الشرق) تأليف “فريدة خلعت بري” ورسوم “علي بوذري”، أما دار النشر فكانت الدار العربية للعلوم، والطبعة هي الأولي لعام2004.
هكذا كانت بداية مقالتي، والتي وعدت بها الأستاذة “عزة الشحاتى”، مديرة (مدرسة الفنون والصنائع)، وكان حديثا قد دار بيننا حين سؤالي عن عودة (مجلة مربعات) والتي صدرت عن المدرسة قبل عقد من الزمن، حيث صدر عدد تجريبي وعدد لاحق لتتوقف هذه المجلة.
وبدأب تحقق حلم عودة هذه المجلة وكان الموضوع الرئيس عن (مادة الجلد) وقد اقترحت السيدة “عزة” أن أكتب في هذا الموضوع واقترحت (حذاء السندريللا). فقلت؛ إنه حذاء زجاجي وأن ثمة قصة للأطفال أحببتها جدا وعنوانها الحذاء الأصفر، ثم توسعت الفكرة حين أعملتها بذهني إذ الإبداع الفني لا يخلو من هذه العلاقة الحميمة بالأحذية والمشغولات الجلدية المتنوعة رسما وشعرا وقصة ونحتا أيضا.
وهكذا بدأت عملية البحث مع الصديق (جوجل)، وتواصلت مع الفنان التشكيلي “علي العباني” وأيضا مع الفنان “مرعي التليسي” حيث أرشدني كلاهما إلي الصفحة الخاصة بالفن التشكيلي الليبي لن أخبر عن وقت كتابة هذه الأسطر، فقد مرّ وقت طويل علي الكتابة الأولي وتذكرت قصة (العين) للمبدعة “نادرة العويتي” والتي نشرت ضمن مجموعتها القصصية (لعنة الرواية) وظللت أبحث عن لوحة صانعي الأحذية للفنان الكبير “محمد اعبية” ووجدت لوحة علي كتاب يتحدث عن الموروث الشعبي الليبي لوحة لصانع أحذية، ولكن لم أجد في الكتاب إشارة أو لمحة عن هذه اللوحة وصاحبها، وتواصلت مع الكاتب والفنان “ناصر سالم المقرحي”، ليمدني بلوحتين (لوحة الحذاء البهيج) كما أسميتها، ولوحة أخري عن حذاء رجولي خشن عبر دروبا وعاصر خطوبا، ولكن لماذا كل هذه الرحلة فقط مع الأحذية، أليس ثمة حقائب ومشغولات يكون الجلد هو روحها، ثم لماذا أنسى مصنع الجلد وذلك النداء بيوم عيد الأضاحي، وجلود الأضاحي المكدسة بتلك السيارة التي تأخذها إلى حيث تغدو مشغولات جلدية متنوعة، متى اختفى ذاك المصنع واختفى الصوت الذي ينادى؟
ها أنا أشرد بعيدا عن الحذاء الأصفر، وعن الحذاء البهيج ولكن صبرا فأنا شاعرة وأحبّ استعراض عضلاتي اللغوية وها نحن سنبدأ.
الحذاء البهيج الحالم بالقدم الناعمة
هو حذاء يموج بألوان نضرة حذاء عروس ربما فاللون الوردي والأزرق الزاهي والبرتقالي والأخضر بلون الزرع النضر، ينسجون حكاية حبّ، ويترقبون تلك اللحظة، حين تضع قدم صغيرة وناعمة أصابعها الخمس وتزداد المتعة حين تنام القدم كلها داخل الحذاء الناعم، والذي صنعته يد عاشقة، يد تحلم بالجمال والحب، هكذا تقول هذه الألوان، أما تلك الوردة من الصوف الملونة والتي تتوج الحذاء فهي إضافة لمسة حنو، كي تشعر القدم الناعمة بالدف والراحة، وأيضا هي غيرة عاشق لا يريد أن تطأ نظرة مريبة ذاك الفضاء الخاص بقدم حبيبته وكأن الرسام حين أبدع لوحته أراد أن يقول بعضا من هذا، ولقد سألت الأستاذ “ناصر” عن كيفية الرسم فأجابني أنه وضع الحذاء أمامه وبدأ الرسم وأنا هنا أحاول قراءة اللوحة حيث حذاء مبتهج بألوان زاهية ألوان تحيل إلي الضحك والاستغراق في الحلم، ويشكل الصوف الملون الذي هو بطانة هذا الحذاء تناغما بلونه الوردي ويمنح شعورا بالحنان، ربما صانع الحذاء قد أبدعه لعروس كان عرسها بالشتاء وهل يكون دفء بالشتاء دون صوف ناعم وملون بلون المحبة؟
وحين أنظر إلي اللوحة الثانية فأول ما يلفت النظر هو نوع هذا الحذاء: فهو حذاء برقبة عالية تضم قدم من يرتديها حتى تغطي كعبيه ولكنها لا تتطاول أكثر والنظرة الأولي منحتني شعورا بالخشونة، وإيحاء بأن ثمة قدم كبيرة وربما متشققة من أثر العمل المضني ستكون داخل هذه المساحة الكبيرة، لكن الرسام أيضا منحني شعور بالارتياح حين اختار اللون الرمادي الدافئ (إن صحت التسمية) ليكون لون هذا الحذاء، وثمة الشعور بالقوة التي تكمن في صلابة الجلد ورشاقته أيضا فكأن الحذاء يحكي تاريخ القدم تاريخ الإنسان الذي عبر دروبا كثيرة وسار علي أشواك، ولكنه ظل صلبا لا ينحني، وهذه مجرد ملامسة لروح اللوحة، واللوحة مثل نص شعري أو قصصي تنفتح علي مدى من الرؤى والتأويلات، بل وتمنح كل منّا خصوصية القراءة، مثلما حاولت في هذه القراءة.
وماذا بعد، ثمة حذاء في قصة ينتظرني، كتبت حكايته ولكن حين قرأتها علي الصديقتين الشاعرة “وجدان عياش” والشاعرة “مريم سلامة”، لاحظت مريم أن ثمة مؤامرة تحاك ضد أحلام البسطاء منذ زمن، مثل القصص التي قرأتها وهي طفلة قصص البنات الصغيرات الحالمات بعوالم أجمل ولكن المفاجأة التي تأتي بنهاية القصة، أن تلك الأحلام ستؤدي إلي الألم ومسارب الخوف، لذا ينكصن ويرجعن إلي عوالمهن البسيطة، هكذا واجهتني مريم بتفسيرها والذي جعلني أعيد التفكير، ليس في الحذاء والجلد الأصفر اللامع الذي صنع منه ولكن في متن الحكاية ونهايتها.
هل يتذكر أحدكم حذاء جلديا عشقه وهو طفل ورفض أن ينزعه من قدميه حتى غلبه النوم؟ هل تتذكر إحداكن حذاء ملونا ظلت تحفظه تحت وسادتها حتى لا يعلوه الغبار، نعم جميعنا كان لنا أحذية أحببناها، فما هي حكاية الحذاء الأصفر هذا؟
حكايات من الشرق
الحذاء الأصفر حكاية أطفال حكاية ترويها طفلة، طفلة ضجرة ومثقلة بأعباء كثيرة، يا ألله كم هي مسكينة هذه الطفلة، تقول: (أنا طفلة والدّي الوحيدة) ص 3، لكنها لا تبدو مدللة فهي كما تقول تشعر أنها (كالخادمة).
تبدأ القصة حين تسرد علينا جملة الافتتاح: (صباح الخير: اسمي سلوى)ص 3، لكن لماذا هي منزعجة لأن والديها كما تقول (لا يستطيعان أن يشتريا لي كل ما أريد) وهي كما تخبرنا عنهما: الأم ربّة بيت أما الأب فهو مدرس (وماذا تطلبين من مدرس يا سلوى)؟ سلوى تواصل الحكاية تبدي تذمرها وانزعاجها، وتأخذنا معها إلي عوالمها المليئة بالتعب والأعباء المنزلية، رغم أنها تلميذة تنوء بعبء واجباتها المدرسية، صديقتنا سلوى حقا كم هي مسكينة، لأن لها أما لا تطيق رؤيتها مرتاحة : (لا تحتمل رؤيتي مرتاحة ولو لبرهة)ص4، وحين تناقش أمها طالبة بعض أحلامها البسيطة ،فإن هذه الأم ترد قائلة : (نحن لا نملك المال، لا مال لدينا، لا مال)ص 4، وحين أحست أنها قد أكملت كل واجباتها المنزلية وأرادت أن ترتاح قليلا، ارتفع صوت أمها مجددا (اذهبي إلي المخبز واشتري بضعة من أرغفة الخبز وعودي بسرعة) ولأنها طفلة تمنت (لو ولكنها عادت بالخبز وتناولت وجبة الغذاء ( استغرق شراء الخبز والعودة إلي المنزل سنة كاملة)ص5.
ولكنها عادت بالخبز وتناولت وجبة الغذاء مع أمها وأبيها: (البطاطس باللحم وهي وجبة كثيرا ما كانت أمي تحضّرها للغذاء، كم كنت أكره البطاطس) تواصل سلوي الطفلة المثقلة سرد الحكاية، فالأسرة ككل الأسر تستعد للاحتفال بالعيد، والعيد يريد ثيابا جديدة والتسوق حتما سيكون ممتعا صحبة أبيها، ولكن هذه الصغيرة تفاجئنا بمزيد من الضجر والتأفف (لا تظن أنني استمتعت بالتسوق لشراء فستان العيد فالأمر لم يكن ممتعا أبدا، كان علينا أن نقف في طابور طويل منتظرين وصول الحافلة وأن نركب الحافلات المزدحمة التي تعبق فيها الروائح الكريهة لنصل إلي السوق فأبي لم يكن يشتري إلا من السوق في وسط المدينة، هل تعرف لماذا ؟لأن البضاعة أرخص في تلك السوق)ص7، وهناك في السوق اشترت حذاء ورديا وفستانا ملونا.
وأرادت أن ترتدي هذا الحذاء الوردي حين ذهابها للمدرسة ولكن الأم قالت (لا أحد يلبس الحذاء الجديد إلي المدرسة قبل العيد) إذا ثمة حذاء وردي تختاره سلوى والوردي اللون الحالم والذي يخبرنا عن تعطش روح هذه الطفلة لعوالم أكثر اشراقا وتلبية لرغبات طفلة صغيرة، تعود من مدرستها وتستقبلها الأم كالعادة بسيل من الأوامر حتى قبل أن تلقي التحية (اجمعي الملابس الناشفة)ص9، واستجابت للأمر، ثم دخلت غرفتها لتبدل ثياب المدرسة (رأيت علبة الحذاء الذي اشتريته بالأمس فتحت العلبة وأخرجت الحذاء الجديد واعتقدت أنه من حقي أن أنتعله متى شئت لأنه لي فانتعلت الحذاء ومشيت وإذ بأمي تناديني مرة أخرى ” أين أنت يا سلوى خذي كيس النفايات هذا خارجا وضعيه قرب الشجرة) ص11، هل تخلع الحذاء؟ تقول سلوى: (نظرت إلي حذائي الجديد ورأيت أن أفضل ما يمكن أن أقوم به وأنا منتعلة هذا الحذاء هو إخراج النفايات، فحملت الكيس الثقيل بغضب ووضعته عند كعب الشجرة)؛ يبدو أن علينا التفكير بحل عاجل وسريع لإنقاذ صديقتنا الصغيرة؟
لحظة ها هي الصغيرة تجد شيئا قرب الشجرة، عند مكبِّ النفايات (علبة أحذية ذهبية) ص11، حتما ستفتحها وحينذاك ستصرخ بدهشة (يا له من حذاء أصفر جميل)ص12، وفي غرفتها رمت حذائها الوردي وكان الحذاء الأصفر ملائما لقدمها (فالحذاء وكأنه صنع خصيصا لي).
يمكننا التخيل والتفكير أن سلوى تستحق مكافأة صغيرة علي كل انصياعها (وفجأة رأيت الغرفة ترقص بي وشعرت بأنني سافرت إلي مكان وزمان آخرين) ص13
أول المكافأة
إذا هذا الحذاء الأصفر الجميل كان أول الهدية التي ستنالها الصغيرة سلوى لقد فتح لها باب العالم الذي تتمناه، التنعم باللعب والكسل والثياب الثمينة والطعام الشهي والحلوى، تصوروا حتى الفصل كان موجودا ومعلمة أنيقة وحديقة وأراجيح، ولكن يبدو أن التذمر صفة تلازم هذه الطفلة، لقد أخبرتنا حين دخلت هذا العالم الوردي (خلتني أحلم يا له من حلم لطيف، لم أكن أريد أن استيقظ من هذا الحلم الجميل فقررت أن أطوّل نومي قدر المستطاع) ص14
ولكن لماذا تبكي الآن، وهي في هذه الغرفة الرائعة بهذه الثياب الأنيقة وهذه الخادمة تحوم حولها وتلبي كل طلباتها؟ إنها بنت غريبة الأطوار ولكن ما الذي تفتقده سلوى؟ ها هي علي طاولة مليئة بأطباق شهية، تسأل الخادمة :(هل سأتناول الغذاء بمفردي) فتجيبها: (أنت تعرفين أن السيد والسيدة منشغلان جدا فلا يستطيعان المجيء إلي المنزل في مثل هذه الساعات)ص19، هل تذكرون كيف كانت مبتهجة وهي تلبس هذا الحذاء الأصفر؟ ها هي الآن في غرفتها الواسعة الأنيقة تبكي وتخلع هذا الحذاء وترمه بعيدا، (وفجأة أصبح كل ما حولي يدور وشعرت بأنني أسافر إلي مكان وزمان آخرين) ص23، ويبدو أننا وصلنا إلي نهاية الحكاية فقط علينا أن نراقب صديقتنا الصغيرة وهي تضع الحذاء الأصفر في علبته الأنيقة وتضعه بمكانه تحت الشجرة عند مكب النفايات لقد عادت لحذائها الوردي، وارتفع صوت أمها (أين أنت يا سلوى ؟ تعالي ساعديني في غسل الخضار) وسيرتفع صوت سلوى (نعم يا أمي العزيزة بكل سرور سأنفذ أوامرك كلها).
يا له من حذاء عجيب هذا الحذاء الأصفر، ولكن الأعجب منه هو حال صديقتنا الصغيرة، سنتركها الآن تغسل الخضار قرب أمها التي تعدّ الغذاء ونقفل الباب، لنتذكر أي حذاء ظل معنا في الذاكرة، ،يختبئ من مخالب النسيان ويمرح في حديقة طفولتنا التي تنتظر أن نفتح الباب ونكتشف أحذيتنا التي عبرت بنّا كل هذي الدروب.