النقد

وجها القمر

الشاعر والروائي جمعة الموفق؛ وروايتيه القمر العاري، عار.

منذ زمن لم أقرأ رواية كاملة، هي بضع صفحات منها تكفي لجعل قطعان الملل تسرح في المكان فأنشغل في هشها وأركن الكتاب على رف موعد غير معلوم.

في أسبوع واحد قرأت روايتين لجمعة الموفق هما “القمر العاري” و”عار”، أنا لم أقرأهما فهذا الفعل لا يكفي لأصف التهامي للكلمات في سلسلة طويلة تبدأ بالعنوان ولا تنتهي بانتهاء القراءة، الكتابان بحر عظيم يستغرق الخوض فيه جهدا ووقتا لتخرج منه منهكا خائر القوى ترافقك هالة من “الإشراق” الذي تحدّث عنه الموفق في “عار”.

لعلمي المسبق بموضوع رواية “عار” رأيت أن أبدأ بالقمر لأحظى بوقع المفاجأة، وقد كان لي ما أردت، موضوع مختلف _رغم وجوده الفعلي_ وطرق خفيف على أبواب موصدة بالغة الهشاشة وأقفال صدئة لم تصمد طويلا أمام صلابة المفاتيح وفعاليتها.

أغدق “الموفق” على عمله بالشخصيات التي انتزعها من بيئتها ووضعها في قالب محكم الأركان من الأحداث والمشاهد والصور الجلية حينا والغامضة حينا آخر، ولن يكون خفيا ذلك الشبه الكبير بين بطلي العملين “ناصر” في القمر العاري و”منير” في عار، كلاهما “فارغ يبحث عن السكينة والرهبة” وكلاهما “لا يليق به الورع”، في كل منهما يقبع “إنسان متعطش إلى المجون وبوذي ممتلئ بالضحك والسخرية محتقن بالوجود وعالق في الخراب، لا يعتبر الفرح تهمة، ولابد أن ناصر أيضا “لم يعرف في حياته كيف يواسي إنسانا يبكي” تماما مثل منير!

يزيح الموفق في روايتيه شيئا من العتمة التي يفرضها المجتمع الإله على سراديب الروح التواقة إلى الضياء، فيجعل من الشخصية الرئيسية في القمر العاري “ناصر” رجلا مراوحا بين التصوف والتيه والانغماس في اللذات وهو الذي تتلمذ على يد صديق عابر “لطالما كنت رهين الأسئلة، أمشي وراء الإيمان بخطوات جذلى، ثم أجدني أقف عند أول عقبة يضعها العقل وأقف مترددا مثل بندول أخرق”.

غير أن الكاتب استنادا على “سكون يخاله المرء طمأنينة أو وقتا مناسبا للحديث مع الله” و”عار لا يُغسَل لكنه قد يضيء” جعل من “منير” المغتصَب إلها من مادة خسيسة، إله نفسه، يستطيع أن يقول ما يشاء لمن يشاء حتى إذا خاطب آلهة أخرى، “الآن أستطيع أن أقابل الله بلا خجل، كما يقابله كل الأطفال المغتصبين، ببراءة”.

يسمو هذا البطل في جو فائض بالهستيريا والتحليق في مديات بعيدة، منتشيا بالسخرية والألم حتى يلامس “الإشراق” فيضفي “جمالا خلابا على روحه وهي تنتهك” قبل أن تتهاوى حصونه وتتناسل الأسئلة في روحه “أين كان الله، لقد تجاهلني تماما وتركني لهؤلاء”.

جموع من الشخصيات المركبة والكائنات الهائمة بين السطور، قبائل من القتلى وأجساد بلا رؤوس، أشباح وملائكة ينشغل بعضها ويأكل الملل قلوب البعض الآخر منها، رداء برتقالي لبوذي وجُبّة بيضاء لصوفي، لحيةٌ كثة لقاتل وكأس من الفودكا لهائم على وجهه في لجة الأيام، هكذا تحتدم الأحداث وتتوالى الصور لتجعل الركض بين السطور حلما نستعذب الإغفاءة التي تحاول إكماله.

حتى تلك المفردات البذيئة التي كانت طول الأحداث تتدلى من ألسنة الراوي وشخصياته شكلت نوعا من التوازن في سياقات طبيعية يهتز المتن إذا برحتها.

لست ناقدة، لكني انهمكت في العملين حد الشعور بأصابعي تمسح على رأس “ناصر” في جحيمه الذي صنعته “قمرة” وزوجها، وحد التجوّل في “السعادة الصغيرة” لمنير بيته الذي يطل على حديقة صغيرة وتحتل مكتبة حائطا فيه، حتى أنني أشبه الأول في أحلامه التي تدور في فلك الأحذية المفقودة وأشبه الأخير في ترتيبه لمن يعرفهم من الجزائر، كنت أيضا سأقول “خالد” قبل “مستغانمي”.

جميل وعظيم هذا الموفق، بكل الدهشة التي تصنعها كلماته مثل “مقاومة أخيرة للقبح والتاريخ الفاسد”.

مقالات ذات علاقة

عندما تلتقط الرواية أثر عبد الناصر في الوعي العربي

المشرف العام

اختلاس ذاكرة ليست صلبة “رواية حاضرة القلق”

مفتاح الشاعري

رمزية المرأة في رواية (النص الناقص) للروائية عائشة الأصفر

المشرف العام

اترك تعليق