النقد

رمزية المرأة في رواية (النص الناقص) للروائية عائشة الأصفر

خديجة مسروق | الجزائر

الروائية عائشة الأصفر وروايتها النص الناقص.
الروائية عائشة الأصفر وروايتها النص الناقص.

تنوعت الموضوعات الإبداعية لدى المرأة العربية الكاتبة، وتعددت التيمات في نصوصها الأدبية، وذلك منذ أن قررت خوض غمار تجربة الكتابة الروائية. وإذا كان الشعراء العرب قد احتفوا في أشعارهم بالمرأة بكل خصوصياتها الأنثوية، فالمرأة حاضرة في الرواية العربية بكل مقوماتها الإنسانية، ترمز للحب والحياة وللوطن.

الروائية الليبية عائشة الأصفر في روايتها ‘النص الناقص’ تستحضر صورة المرأة كدلالة رمزية تعبر بها عن الوطن بما له من قدسية، مماثلة لقدسية المرأة التي خصها الخالق بمكانة رفيعة وأكرمها أحسن تكريم.

وبعمق إنساني يعبر عن الموقف الانفعالي النابع من تجربة معيشة، أرادت الروائية الكشف عن الواقع وتعريته بكل جرأة، بإماطتها اللثام عن مظاهر الفساد والوقوف عند محطات المعاناة التي عرفها المواطن الليبي خلال حكم معمر القذافي.

رواية ‘النص الناقص’ الصادرة العام 2017, تتحدث عن الأزمة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) التي شهدتها ليبيا مع نظام القذافي. تدور مجريات أحداثها في منطقة ‘سبها’ التابعة لولاية ‘فزان’، فزان التي تعاقبت عليها العديد من الحضارات. هي منطقة صحراوية بامتياز، تكثر فيها أشجار النخيل. وتعد أول منطقة افريقية فتحها المسلمون.

في العام 1943احتلتها القوات العسكرية الفرنسية بعد أن حررتها من يد القوات الإيطالية، وظلت تحت السيطرة الفرنسية إلى غاية 1951. حيث تمكن شعب ليبيا من استرداد ‘فزان’ وإلحاقها للإقليم الليبي. كما تحتل موقعا استراتيجيا مهما، فهي بمثابة الجسر الذي يصل بين شمال افريقيا ووسطها، وبين البحر والصحراء.

مع انها من المناطق الليبية الغنية بالنفط، فقد عرفت ‘فزان’ تراجعا اقتصاديا فظيعا في حكم ‘معمر’. تردّت الأوضاع الاقتصادية والأمنية في المنطقة، وساءت حالة سكان ‘فزان’ بانتشار البطالة وانعدام الأمن بوقوع المشادات المستمرة بين الجيش وميليشيات مكافحة الارهاب..

‘النص الناقص” رواية تعبر عن رؤية فلسفية تطرح من خلالها الروائية تساؤلها الوجودي: هل العقل أداة بيد الإرادة؟ وهل حقا الإرادة لا تلتفت للأفراد الذين يعيشون حالة البؤس والشقاء؟

في أوائل التسعينيات، وفي صباح ليس ككل الصباحات يلتقي ‘عامر’ الرسام بالأستاذة ‘مريم’ أستاذة الرسم، خلال زيارته لها في مقر عملها بالمدرسة، بشأن يخص تلميذتها ‘نجمة’ ابنة أخيه المتوفي، بصفته وليا لأمرها. مريم تحمل ديبلوم في الرسم، وتتابع دراستها بالجامعة بقسم علم الاجتماع. بصدد إعدادها لمشروع بحثي بعنوان ‘ظاهرة النص الذي لم يكتمل’.

مريم الشخصية البطلة في الرواية، وعامر شخصية ثانوية أدى دور السارد العليم المشارك. كان قرينا للشخصية البطلة، قام بإلقاء الضوء على مختلف الأحداث السردية الواقعة في النص، ورصد تحركات كل شخوص الرواية.

يتفاجأ عامر بمريم التي تحمل روحا طيبة وعقلا متفتحا. فينبهر بشخصيتها المميزة وبثقافتها العالية. تكررت لقاءاتها، وفي كل مرة كان يكتشف جوانب خفية في شخصية مريم. وتضاعف انبهاره بها إلى درجة أنها كانت تغيب منه العبارات في حضرتها وهو المثقف صاحب الحس الفني والذوق الجمالي الرفيع.

مريم وعامر يتمتعان بنفس الحس الجمالي باهتمامهما بفن الرسم.. تعلق قلب عامر بمريم، أحبها حدّ الجنون لكن العصبية القبلية للعائلتين وقفت في وجه هذا الحب الطاهر. مريم اختارت لها أسرتها الزوج الذي يرونه مناسبا، وعامر اختارت له أمه ابنة أختها لتكون أما لأولاده..

بعد ثلاث سنوات من اللقاءات الحميمية تنتهي رحلة الحب النقي، وتبدأ رحلة الحب الآثم. تسع سنوات من اللقاءات المحظورة بين مريم وعامر، والمكالمات الهاتفية التي يتنديان فيها عطشهما. عامر لا يسعد بقرب زوجته ومريم لا تحب زوجها..

الأستاذة مريم كانت تراودها فكرة العقل الناقص، وظاهرة عدم الاكتمال لا تفارق خيالها. كل الأشياء التي أماهما كانت تبدو لها غير مكتملة. تشعر أن هناك أزمة عقل واضطراب في التفكير. كل هذه الإشكالات التي تستحوذ على تفكيرها كانت تبحث لها عن إجابات. تريد تجسيدها في مشروع بحثها العلمي.

مريم بسبب أفكارها وتمردها على السائد تتهم بالجنون، ويُلقى بها في مصحة عقلية ويتم اخضاعها للعلاج النفسي. تسع سنوت داخل مصحة المجانين كانت مريم قد كتبت لعامر سبع عشرة رسالة، لم تصله إلا في الليلة الأخيرة من حياتها. تحكي له فيها عن يومياتها مع عالم الجنون. الجنون يمنح صاحبه رخصة فعل أي شيء.. الذين أدخلوها المصحة العقلية واتهموها بالجنون وعملوا على مصادرة رأيها وإعدام أفكارها، تراهم هم أنفسهم الذين عرقلوا مشروعها الأكاديمي ويصرون على عدم اكتماله.. اتهموها بالعقم وهم يجهلون أن المرأة لا تلد من رجل لا تحبه، وما أكثر العقم عندنا وما أكثر أشكاله؟ يخافون أن تنتشر عدوى أفكارها بين الناس فيصيبهم جنونها.

في رسائلها لعامر كانت مريم تحكي له عن مشروعها ولوحاتها ونصها الناقص، وعن هاجس المعرفة الذي يسكنها. كانت تصف له معاناتها داخل المصحة، والمعاملة السيئة التي تتلقاها هي وكل النزيلات من طرف المشرفات. وظواهر الإهمال والتسيب هناك. تحكي له عن الإزعاج الذي تسببه لها المختلات عقليا اللواتي يتقاسمن الغرفة معها، وعن صديقتها ‘سعاد’ التي تعرفت عليها بالمصحة، اتهمتها زوجة أبيها بالجنون لتتخلص منها وألحقتها بعالم المجنونات. اغتصبت أكثر من مرة داخل المصحة العقلية من طرف مجهولين…

كل قصة أو رواية أو مشروع أو.. في نظر مريم غير مكتمل ‘أو غير مكتملة ‘الروائية بلسان بطلتها تكشف للقارئ أن بلادها فشلت في الخروج بمشروع مكتمل، وأن هناك أزمة عقل يمرون بها، أو يمر بها الإنسان العربي، ‘وراء ظاهرة الارتباك هذه أزمة مردها طريقة التفكير.. نتخبط في الارتجالية ‘لذلك يكون مصير كل مشروع حكومي الفشل لأنه يفتقد للتخطيط المسبق. كل شيء في شريعتها ينتظر الاكتمال..

حين قررت مريم الفرار من المصحة العقلية، وجدت أيدي الكائدين لها بالمرصاد. أعلنوا حالة الطوارئ ونشروا الإعلانات عبر التلفزيون وفي الصحف للبحث عنها، وخصصوا جائزة مالية لمن يعيدها للمصحة..

الذين أودعوها مصحة المجانين في حكمها هم المجانين، وفي ‘لائحة جنونهم لم يتطرقوا إلى ما وراء الرسم والألوان. لم يتطرقوا إلى النجوم والفراشات، إلى الحب والأمومة والوطن والتنمية ‘

تسع سنوات وهي تقبع خلف جدران مستشفى الأمراض العقلية. لم يمنحوا لعقلها طيلة هذه المدة فرصة للتفكير، كلما حاولت الانفلات من قبضة الجنون ضاعفوا لها جرعة التخدير. توقفت أنفاسها عن النبض بعد أن حكموا على عقلها بالإعدام.

في موكب جنائزي رهيب شيعت مريم الحب، مريم الحياة، مريم الوطن إلى مثواها الأخير، تاركة وراءها مشروعها النادر الذي لم يكتمل بعد، مركونًا في أرشيف البحوث الجامعية.

نُكست أعلام ‘سبها’ وغدا نخيلها بائسا والرمال زاحفة على طول الطريق. وغيوم السماء تجمعت في غير موعدها لتبرد قيظ القلوب المحترقة في يوم الوداع. ‘سبها’ ببناياتها التاريخية، بسكانها، بنخيلها، بصحرائها، بثرواتها تبكي رحيل مريم.

عامر بقي عاجزا مصدوما يسير حيثما يقوده المسير.. كم كان عنيفا حبها؟؟ حب مريم يختلف عن حب كل النساء. النساء لا يتشابهن في الحب، ومريم حبها ليس كأي حب…

مريم هي ‘فزان، هي ليبيا، هي المغرب العربي، بل الوطن العربي الكبير..

في ‘النص الناقص’ نقلت الروائية عائشة الأصفر للقارئ صور التمزق التي عرفتها بلادها؛ ‘شيء ما يشتتنا… رغم ترابطنا وحميتنا نحن مجتمع لم يكتمل البناء، إننا دولة لم تتحقق، مجموعات لكنها تشتغل فرادى في شكل جمعي، وجمعي متفرق.. إننا في حالة مخاض… دون ولادة ‘

‘فزان’ التي كانت مبعث الحضارات ترسم اليوم صور الخراب والدمار والقمع. وأمريكا بجبروتها وقوتها كانت ‘اللعنة التي سلطها الله على عباده المقهورين’. بسبب القهر والتهميش الكل يفكر في الرحيل إلى أرض غير تلك الأرض التي دنستها يد المستبدين.. ربما الفقر كان المسؤول عن مظاهر الفساد، عن عمليات تهريب السلاح وتجارة المخدرات، وكل أشكال النصب والاحتيال والتزوير…

مريم الصحراء الساحرة، ‘سبها’ الثائرة، مريم الوطن الصامد.. مريم ستبعث من جديد، وفي فضاء الصمت الغارق في رمال الذهب المرصع بالدرر الخالصة؛ ستُكتب حكاية حبّ عظيمة، وتظل أرواح العشاق تتلاقى وتتعانق فوق تلك الأرض الشامخة.

فهل يليق الحبّ بعد مريم…؟؟

مقالات ذات علاقة

(أبْجَدِياتُ الجُرح) بين البُنيةِ والتفكيك

المشرف العام

ريما معتوق – بين الرواية الرقمية والرواية الورقية (قتيلة السابعة مساء)

أحلام عمار العيدودي

قشر التفاح.. أو كشكول الفائدة

رامز رمضان النويصري

اترك تعليق