في جولة ممتعة بين عدة دواوين هي مغناة الليلك ومرافئ الغيم وديوان تحت الإنجاز ، للشاعرة ذات الجذور الفلسطينية رفعة يونس، شعرت ان روحي تحلق في فضاءات العديد من النصوص التي قرأتها، فقد أثارت هذه النصوص بجماليتها وما احتوته من لوحات وصور وارتباط بالأرض والمكان اشراقة روحي وقلمي، فمن يجول في نصوص الشاعرة يجول في المكان والزمان والأرض والإنسان والحلم، وهذه بعض من سمات ابداعات الشاعرة وتحليق روحها، وجماليات الشعر هي التي تعيد القارئ للتحليق الروحي مع النصوص في كل مرة تشده لقراءتها من جديد،
ففي نصها “نوّار الأرض” من ديوانها “مغناة الليلك“، رأيت الوطن حلم لا يتوقف، حلم ينبع “من رحمِ الأرضِ” من حيث تمتد الجذور من قلب الأرض، كما أسياف تقاوم المحتل، فيأتي شعبنا جيل بعد جيل “كفا للريح، قهرا للموت، مقصلة للعدى”، وأرواح الشهداء التي لم تزل تبحث عن مأوى في وطن حر، تنير كما “هالة الشمس”، تبتسم لـ “ثغر صغير، يناجي وعود السنابل”، ففي الوطن نبقى نحن “نوار الأرض” نغني في وجه المحتل “أنشودة الفجر”، وبالحجر المقاوم في وجه حراب الجند والأسلاك الشائكة نصدح “موال للندى”، ونطلق في السماء “نجوم تسطع في البال”، كي تكون مصباحا للأجيال الآتية “تشرق في الذاكرة”، وكأنهم يصرخون: نحن القادمون غدا “ربيع العمر”، نزرع في سهول الوطن “خضرة هذا الوقت”، آتون من بين أرض العرب “من بقعة الصمت”، لكي نكون في الوطن المحتل “عشبا يزهو”، ونروي للأحفاد القادمين “سفرا جديدا” نمتطي خيولا لها “صهيلا يدوي.. في أرجاء المدى”.
وفي نصها“دعنا” من ديوانها “مرافئ الغيم” نجد أن العنوان هو الكلمة المتلازمة في النص وهي طلب على صيغة التمني وليس الأمر، وفي الشطرات الخمسة الأولى يكون الطلب عبارة عن حلم جميل، التحليق فوق أجنحة الغيوم، قطف الأزهار والزنابق من أرداف الجبال بتشبيه ندر استخدامه بوصف سفوح الجبال، للوصول إلى إشراقة الأيام القادمة، لذا هو حلم يقظة تحلق فيه الشاعرة لأسباب تظهر في الخمسة شطرات التالية، حيث هناك جرح للعمر وسياط السنين وذكراها وندوب المواويل لحكاية نازفة، فالحلم الجميل الذي بدأت الشاعرة النص فيه كان رغبة للخروج من مرحلة زمنية سادها الكثير من الألم والتعب والمعاناة، لتنتقل بنا في الخماسية الثالثة الى الطلب من الآخر وإبداء الرغبة بوضوح، “دعنا.. نصفو”، وهذه اشارة أن الصفاء والهدوء شابه الكدر فأدى في الماضي إلى حكاية نازفة، فالصفاء وحده من يمكن أن يصل بالحلم إلى الفجر الذي يتجلى على وجه الربيع.
لتختم الشاعرة نصها بحلم آخر لا يمكن أن يتحقق بدون المراحل السابقة: الحلم، الواقع والماضي، الرغبة بالمشاركة، للوصول للوحة التي تحلم بها في سبعة شطرات رسمت بها لوحتها الجميلة التي تصبو اليها، حيث تستخدم استعارات جميلة للتعبير مثل: نصير فراشا، ولم تقل نصير كالفراش، نضوع بأنفاسه وبعطر ضفائره فأصبح الحلم ربيعا مزهرا بالورود حيث تحلق الفراشات فوق الأزهار والورود، وبعد عدة تشابيه لغوية رائعة الجمال تصل الى الهدف النهائي: “رعشات للخدر، في موجات سنابله الغامرة”، فالسنابل قمة النضج للقمح وهي استمرارية الأمل وكما قال الشاعر محمود درويش: “وحبوب سنبلة تجف، ستملأ الوادي سنابل”.وخلاصة الحديث ان الشاعرة وضعتنا بفضاء نص من عدة لوحات متلازمة لا يمكن أن نحلق بلوحة بدون اللوحات الأخرى، لوحات سادها الحلم والرغبة والماضي والأمل رسمتها بريشة لغوية متميزة بالتشابيه والوصف، فكأنها جعلتنا نستمع لرواية مكثفة لحكاية انسانية مرسومة بالحروف.
وفي نصها في البعد من ديوانها تحت الإنجاز؛ نص آخر تحلق فيه الشاعرة رفعة يونس في فضاءات الشعر، فترسم بريشة روحها من ألوان فضاءات قزح مجموعة لوحات تصهرها بلوحة وهي في البعد كما “نجمٌ ٌيغرقُ في لجّة الانتظارِ”، ففي البعد عن المكان/ الحلم تعيش الروح في “شحوبُ اللحظةِ”، والإنسان في البعد هو النجم الذي تحدثت عنه الشاعرة بتشبيه جميل، لا يمتلك سوى الانتظار وهو يسهر الليالي ولا يمتلك إلا الدمع يترقرق بالعينين مع حكايات المساء في لحظات التذكر والتذكار، والتشبيه بالنجم كان تشبيه قوي وبليغ كونه البعيد في السماء. تنتقل بنا من لوحة الانتظار في اللوحة الأولى إلى اللوحة الثانية التي تصف فيها حالة البعيد عن وطنه/ أهله/ حلمه، حيث “لغة العابرين” تشتعل بجمر الشوق وتجلدها سياط اللوعة، في عمر الإنسان البعيد وهو يتمزق ويتشظى وكأنه قنبلة تنفجر من القهر، وهو يعيش في البعد غارقا بالحنين الذي يسكنه وكأنه يقف على الشرفات ينظر للوطن، والذكريات تعزف بداخله بحزن عزف الناي وتلويح الأيادي قهرا، وهو لا يعرف النوم والروح تنزف ألمها وقهرها شجونا في الليل الداكن بزرقته الكحلية في اللوحة الثالثة، ورغم القهر والألم نرى الأمل يبقى مرافقا الروح في أحلام تستمر “تعتلي نرجس الوقت”، في تشبيه جميل للوقت بجمال النرجس، فحين نتأمل النرجس وننشق عبقه لا نشعر بالوقت، والعيش بحلم العودة أشبه ما يكون موجات الوهم في أعين العاشقين الذين ينتظرون تحقق أحلامهم، أحلام وكأنها حدائق من وجد تمطر الفرح، تملأ المسافات سنابل ونوارس.
في اللوحة الأخيرة نجد الشاعرة تنتقل بالتشابيه من النايات في البداية بشدوها الحزين إلى شجو الكمنجات التي تلامس الروح وهي تعزف بفرح وقوة وكأنها تطلق من بين نغماتها، أحلام من في البعد، مهرا ينطلق للوطن، يعانق فضاءه، يتأرجح بأراجيح ملونة بالفرح، ألوان قوس قزح البهية، فيبوح الفجر رحيقا كما عبق الياسمين، بتحقق الحلم رغم كل الدم الأرجواني الذي عبد الطريق للحرية.. العودة..
وفي نصها “في الحلم” من ديوانها تحت الانجاز أيضا.. يبقى الحلم هو الأجمل حين يبعدنا عن الواقع المتعب في الحياة وخاصة في ظل هذه الظروف الوبائية التي غيرت مجريات الحياة، وفي حلم الشاعرة كانت تطير فراشات وتحط نوارس، والفراشات كانت ولم تزل بجمالها وحركاتها العشوائية بعض من الهام الشعراء العرب وربما غير العرب أيضا، ولم تخلُ حتى النصوص النثرية منها، ويبقى تشبيه الأنثى بالفراشات بعض من الصفات المحببة لها، والنوارس أيضا من الطيور التي لها مكانتها عند الشعراء والأدباء، فهذا الطائر الذكي والصاخب فوق المياه والشواطئ والذي يسافر عدة ألآف من الكيلومترات في الشتاء باحثا عن الدفء، يشده الحنين لوطنه فيعود بانتهاء البرد ليضع بيوضه بين الصخور وعليها ليحميها، لكن هنا كان كل ذلك في الحلم وليس في الحقيقة.هنا الفراشات والنوارس لها مهمات أخرى في حلم الشاعرة، فهي تحلق في “فضاء القصائد” لتحرسها وتحرس المعاني ورعشات الحنين، فلو لم تحرسها الفراشات من جهة والنوارس من جهة، هل كان الحلم سيكتمل بشدو الحساسين؟ هذه الطيور المتميزة بشدوها وجمالها، والتي ترى الشاعرة في حلمها أن هذه الطيور هي التي تشدو الحانا سماوية آتية من سحب الغيب ومن عطر الحكايات وواحات القلوب وعروش الغابات وشعاع الشموس، فشدوها كما “نجوى الكمنجات” والكمان من اجمل الوتريات التي تحلق بعزفها الروح، وتنزف مواويلها “في مساءات العاشقين”. تواصل شاعرتنا حلمها وترى أن هذا الحلم ” يرسم ُللغد ِ وعدا ًأخضرَ يشرقُ نجماً” ويحيل الواقع إلى شهد، فيحيل العسل المر في واقعنا إلى شهد حين تحقق الحلم، لكن يلاحظ على النص بأكمله أنه بقي سادرا في غياهب الحلم ولم ينزل من فضاء الحلم لصخور الواقع، تاركا للقارئ أن يتخيل اللوحة المقابلة للحلم، لوحة الواقع الوحشية، والتي لولا وحشيتها لما كان الحلم هو الوسيلة للتغيير، فالحلم دوما كان المقدمة الأولى للتغيير، ولنا في أحلام الثوار قبل أن يعلنوها ثورة وأداة تغيير خير مثال على دور الحلم.. وكالعادة كانت رفعة يونس وببساطة اللغة وكثافتها في نفس الوقت وبصمتها الخاصة بأشعارها، تحمل القارئ رويدا رويدا ليسأل نفسه في النهاية: لما لا يكون الحلم حقيقة؟ عندها تكون الثورة.. حين تحرس الحلم النساء الفراشات والرجال النوارس ويعزف الشهداء كما الحساسين اللحن الأجمل.
في نصها “هو حب” من ديوانها تحت الانجاز أيضا نرى في هذا النص الجميل للشاعرة رفعة يونس أنه يبدأ بالتأكيد على محتواه قبل التحليق، “انه الحب”، لتحملنا للتحليق في فضاء الحب وكيف تراه روح الشاعرة، فهي تحلق به وفي فضاءه في ثلاث لوحات، فأي حب هذا التي حلقت به الشاعرة؟ ففي اللوحة الأولى تصوره لنا كيف يجول بجماله الأرض والانسان فيضيء الحنايا ويمخر في الأعماق ويجول المرافئ ويكون البديل للإنارة في المنارات البحرية المرشدة للسفن، فالحب هنا بنوره أقوى من كل المنارات وأشد قدرة من كل الغواصات التي لا يمكنها النزول لأكثر من مسافات محددة بالأعماق بسبب قوة الضغط عليها، لكن الحب الذي تتحدث عنه الشاعرة يقاوم كل الضغوط ولا يبالي، ويخرج من الأعماق وينتشر بالمدن والأرياف والموانئ.
في اللوحة الثانية تحملنا كلمات الشاعرة برقة من الأرض للسماء، فترى الحب شمسا لا تعرف الأفول ولا تعرف الغروب، انها مشرقة في قلبين جمعهما الحب ووحدهما في تعبير من حرفين “ح، ب” ضما بينهما كل حروف الأبجدية وجمالها، وفي القلوب يصبح ورودا وأطواقا من فل وعصافير سنونو تحلق في الفضاء.
في اللوحة الثالثة تعود بنا للأرض من جديد، فترى بالحب ماء للنسغ وحقول من قمح، متجذر كالزيتون، لتكشف لنا سر هذا الحب وسر العاشقين، عاشق أو عاشقة ووطن، فهو حب للأرض والوطن حيث يتجذر الزيتون منذ الآف السنين وزيتونة تورث التجذر والحب لزيتونة، وتعود لتحلق بنا الى ليل يطل علينا فيه قمرا ينيره رغم كل العتمة التي تحيط بنا، نور يجعلنا رغم كل الدم المنسال على أرضنا، نشعل من هذا الدم أعراس فرح لفجر آت لا ريب فيه، فجر حرية لشعب ووطن، حين تشب الزنابق التي ترضع عبقها من احلامنا، فرحة بتحقق الحلم وتبوح بالجمال لوطن اعتاد طرد الاحتلالات وتنشق نائم فجر الحرية..
هكذا رفعة يونس لا تتوقف عن العزف على أوتار قلبها وروحها للمكان والإنسان، تحلق مع لوحات وأشكال فنية مرسومة بالكلمات ومداد الروح، تختصر الزمن وهي تكثف اللغة، تنثر حلمها وفرحها وألمها في فضاء وطن تحلم به حرا وجميلا، تستخدم في قصائدها الموروث الوطني، تحلق في آفاق قومية ببعد انساني، لا تنسى بلدتها سلواد وتاريخها وأمكنتها وأسراها وشهداءها، وتجول روحها مع أرواح شهداء الوطن تبحث معها عن مأوى، ومنذ بدأت أقرأ لها القديم والجديد كان صوتها عاليا لم يصاب بالخفوت ولا اليأس ولم يعرف الصمت، وروحها لم تعرف الخنوع ولا الاستسلام في أقسى الظروف التي عاشتها ويعيشها الوطن المغتصب، بأفق من الابداع الجمالي الذي يعكس نفسه على روح القارئ، ترسم أجمل اللوحات المتتالية في مسيرتها الشعرية التي تحملها كرسالة تحمل هم الوطن حتى يذوب الخاص بالعام فيها، حتى توصلنا إلى لوحة واحدة ملونة بألوان الفرح.. الوطن..
“عمَّان 15/5/2021”