المقالة

شر البلية ما يُضحك

تابعت على مضض، الندوة التي قدمتها قناة الحدث مساء الأربعاء الماضي عما أثير من لغط حول كتاب “شمس على نوافذ مغلقة”، الذي نشرته مؤسسة أريتي للثقافة والفنون كأنثولوجية لمختارات من بعض إبداعات الشباب في صنوف الأدب في العقد الأخير. وحقيقة عكست هذه الندوة مدى التركة الثقيلة التي ورثناها عن عقود من التجهيل المبرمج قادها نظام استخباراتي أدرك مبكرا أن الثقافة إحدى العوائق أمام مشروعه في الانفراد بالسلطة المطلقة والانفراد بالغوغاء وقيادتهم نحو ما يريده، لذلك شتت المثقفين ذوي الرأي بين القتل والسجن والإعدام، وحرَق الكتب وأمم الصحف، وأنشأ مؤسسة لرقابة المطبوعات هي في الواقع مقر أمني للرقابة على الوعي ومصادرة كل ما يعكر صفو الدكتاتورية التي تبنى بنشاط منقطع النظير.

لن أتحدث عن جابر العبيدي أو خالد التهامي لأنهما كان يعرفان ما يتحدثان عنه، وهذا هو الطبيعي في مثل هذه الندوات.

وسأبدأ بمقدم البرنامج د. أحمد القماطي الذي كان واضحا أن لا معلومات لديه مبدئية حيال موضوع الندوة كلها، وكان طيلة الوقت يكرر عبارة “رواية شمس على نوافذ مغلقة” وكأن أحمد البخاري هو من كتب هذه الرواية والحديث المتعلق بصفحة من كتاب شارك فيه 25 مبدعاً ومبدعة انصب على صفحة واحدة أُصبغت على كل الكتاب الذي تحول بقدرة قادر إلى رواية بذيئة كتبها الشاب أحمد البخاري، أحترم السيد القماطي في حواراته في الشؤون السياسية لكن إخفاقه في إدارة هذه الندوة وفي اختيار بعض الضيوف حولَها إلى جلسة كوميدية مضحكة مع احترامي لفن الكوميديا الذي بالتأكيد لم ترق لمستواه.

المحامي أمام المحكمة العليا السيد سميح الأطرش كان مثل الأصم في الزفة. فهو لا يعرف شيئا عن الموضوع من أصله ولم يطلع على الكتاب وواضح أنه لم يقرأ في حياته كتابا أدبيا، أو يرافع في قضايا تتعلق بالثقافة أو الفكر أو الأدب، ومن باب أخلاق المهنة كان من المفترض أن يعتذر عن المشاركة في ندوة لا يعرف عن موضوعها شيئا لأنه كمحامٍ يدرك أنه لا يمكن أن يرافع في قضية إلا بعد أن يعرف تفاصيل تفاصيلها، فطالب بكل استخفاف بمحاكمة جنائية لشاب في مقتبل العمر اختلست كلمات من روايته التي كتبها العام 2010 وصدرت في 2012 وربط هذا العمل والكتاب كله بمؤامرة استخباراتية دولية على النسيج الاجتماعي الليبي وعلى الأمن القومي، تهمة تفسر في عالم القوانين بالخيانة العظمي وعقوبتها الإعدام، والإعدام لمن؟ لمحرري الكتاب وللروائي الشاب ولكل من ساهم في ظهور هذا الكتاب للضوء. وما أذهلني، بالرغم أنه لا يعرف عن موضوع الحوار شيئا كان هو أعلى صوت في الندوة وكان أكثر الحاضرين يقينا بكل ما يقول.

المحامي الذي نراه يوميا يصرخ ويزبد في القنوات الفضائية التي يُعرّف ضمنها كمحام وحقوقي يقول ردا على مطالبة أحد الضيوف بحرية التعبير، يقول بالحرف الواحد :”نحن لسنا أحرارا ولا نريد أن نكون أحرارا” والسبب صفحة من رواية ضمن جزء منها في كتاب يرصد مواهب الشباب.

كنت دائما أقول لماذا لا تكون لدينا نقابة محامين قوية مثل تونس في هذه الظروف التي تنتهك فيها القوانين والحقوق بشكل سافر لتدافع عن ضحايا الانتهاك، لكن حين سمعت المحامي الأطرش في هذه الندوة عرفت السبب وبطل العجب. مع احترامي لقلة من المحاميات والمحامين المسؤولين الذين وللأسف يعملون بشكل منفرد.

الضيف الآخر الذي قُدم كشاعر وأديب وهو لا علاقة له بهذا الشأن وفق معرفتي بهذا الوسط التي تمتد لعقود، ولعل كلامه في هذه الندوة يثبت هذا لكل من استمع له، فحتى بيت أحمد شوقي الشهير الذي استشهد به قرأه بطريقة خاطئة تؤكد أن لا علاقة له بالأمر، وكانت محاولات نقله للحديث خارج موضوع الأدب إلى التهريج بسبب القصور في هذا المجال ونقل الحوار إلى الملعب التخويني والشعاراتي والتصفوي الذي يملك فيه خبرة طويلة وكان يجيده بامتياز، وما أذهلني أن يتحدث مع السيد جابر العبيدي عن المواقف رغم أنه كان يهتف في السابع من أبريل: “صفيهم بالدم يا قايد .. سير ولا تهتم” بينما جابر العبيدي يقبع في سجون قائده كسجين رأي. لم يقل جابر هذا ولم يزايد بنضاله لأنه لم يرد للحوار أن يخرج عن الموضوع، لكني مضطر لكتابته هنا لأني لا أطيق المزايدة بأي شكل من الأشكال.

وبسرعة انضم المغربي إلى لهجة الإرهاب اللفظي التي بدأها المحامي واعتبر الكتاب مؤامرة من المخابرات على ليبيا، وكنت وقتها لا أفكر سوى في هؤلاء الشباب في مقتبل العمر الذين كتبوا بعفوية هواجسهم وهمومهم، كتبوا عن ذواتهم وعن وطنهم وعن أحلامهم، ليجدوا أنفسهم في دائرة الاتهام بالخيانة العظمى، ومن قبل من؟. من قبل شخص يقدم نفسه كحقوقي وشخص يقدم نفسه كشاعر وأديب؟

لكن أجمل ما في الندوة كانت جرعات الضحك التي كم نحتاج لها في هذا الوقت العصيب، خصوصا حين يقول “الشاعر والأديب” المغربي في سياق حديثه عن كره الأجنبي وحبه لكل ما هو وطني: شوف الفرق بين الخروف الوطني والخروف الأجنبي، ويبدو أنه لم يجد ما يتباهي به في هذا الوطن سوى اللحم الوطني، وطبعا دون أن يعرف أن الخروف البلغاري هو خروف وطني بالنسبة للبلغاريين والأسباني والبرازيلي أيضا.

كان لابد من هذا الفاصل الفكاهي. لكني مضطر لعرض مثال بسيط حول ما يعنيه الفن الدرامي عموما، والرواية خصوصا، لأن الرواية ليست كتابا فكريا أو منهجيا أو تربويا، وهي كفن درامي تقدم حياة الناس وفق شخصيات محورية يختارها الروائي، سواء كانت بالمفهوم التقليدي شخصيات شريرة أو خيرة، بمعنى أن الشخصية في الرواية قد تكون ملحدة وتتحدث بأفكارها أو شخصية بذيئة تتحدث بلغة البيئة التي عاشت فيها، بمعنى أن ما تقوله الشخصية الروائية ليس بالضرورة رأي الروائي أو مقصد الرواية.

وسأضرب مثلا بسيطا للضيفين، الأطرش والمغربي وكل من هاجم هذا الكتاب دون أن يقرأه أو قرأه دون أن تكون له معرفة بفن السرد وفن الدراما عموما، واستعين بفلم الرسالة كعمل درامي باعتبار الجميع قد شاهده.

فلم الرسالة الذي يروي قصة أيام الدعوة المحمدية الأولى، عبارة عن سيناريو مكتوب في كتاب، ما يجعله شبيها برواية تسرد أحداث حقبة زمنية بكل شخصياتها، وحين تتحدث شخصيات في هذا السيناريو بكلام مقذع عن محمد النبي،حاشاه، أو تشتمه، أو حين تقول إحدى الشخصيات : أي دين هذا يحرم النساء والخمر!، فلا يمكن أن نجتزئ هذه العبارات ونحاكم بها العمل الدرامي ونصادره ونتهمه بالبذاءة والتجديف بناء على أسطر بذيئة وردت في كتاب السيناريو، ونصف كاتبه بالفسق أو الكفر أو شتم النبي، والسبب أن هذه العبارات صدرت عن أشخاص في الحكاية كان لابد أن يتحدثوا بهذه الطريقة. لكن لأن الأطرش أو غيره ممن حاكموا الكتاب كله من خلال عبارات إحدى شخصياته قد شاهد فلم الرسالة كله ولديه خلفية عن موضوعه، لم تستفزه هذه العبارات التي كانت تصف النبي بالمجنون أو الرجل الذي يسعى لتفتيت النسيج الاجتماعي في مكة، لأنه يدرك أنها صادرة عن شخصيات متسقة مع ذاتها وأفكارها ولابد أن تتكلم بهذه الطريقة، وأن ثمة وجهات نظر أخرى في العمل مختلفة. وهذا هو باختصار الفرق بين أن تقرأ كتابا تربويا أو قانونيا أو مذكرة اتهام وبين أن تقرأ عملا روائيا مبنيا على صراع الأفكار والتضادات والتناقضات فيه.

في النهاية ما قرأته على مواقع التواصل من إسفاف وبذاءة في الهجوم على الكتاب المذكور، هو انعكاس للنموذج الذي طرحته رواية البخاري، ذلك الشخص الذي يلقي العبارات جزافا، ويتحدث ببذاءة وبصوت عال عن أمور لا يفقه فيها شيئا. هم فقط جسدوا النموذج الذي قدمه البخاري في روايته وسبب انفعالهم أن هذا النموذج فضحهم وعراهم لأنهم أحسوا أنه يشبههم، لذلك أجد العذر لانفعالهم.

_______________

نشر بموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

الخال يوسف القويري (2)

سالم الكبتي

مومياءات ليبيا أكثر قِدَماً من المصريّة

منصور أبوشناف

السيف والوقت

محمد دربي

اترك تعليق