المقالة

شاب حزين يذهب على الدوام للكبترانيا

وائل عقيلة

الكابترانيا (المصدر: وائل عقيلة)

في الكبترانيا كل شيء يتكرر بصورة حتمية، الهدوء، القهوة الرديئة من المقهى المقابل، الأسماك التي تستعرض قوامها بالقفز خارج الماء، الشفق، الأكواب الورقية المرمية على الأرض، رائحة البول التي قد تنبعث وتفاجئك في أية لحظة، حتى أحاديثنا باتت نفسها لكن نعيد صياغتها من جديد، كل شيء هنا متكرر ورتيب وقد يصل إلى حد الملل، كأن الزمن يسير على نحو دائري لا بشكل خطي، ومع ذلك لا أنكر أنني هنا بشكل مؤقت أجد بعض السلام الداخلي الذي أحتاجه، باعتبار أننا لا نمتلك حدائق عمومية جديرة بالجلوس فيها، أو أنهاراً ترى على سطح مائها كم أنك مريع وحزين، وتحتاج إلى الترفيه عن نفسك.

عندما أصاب بالضجر جراء مكوثي في البيت، في حال لم أفكر للذهاب إلى المقاهي فإنني في العادة أذهب للكبترانيا وملاقاة الرّفاق، نضحك، نتحدث بسخرية، ندخل في جدال عن ماهية الحب، نحاول التقليل من ضبابية المستقبل، بكل تأكيد أن هذا الشيء هو تخدير لما أحس به من إحباط وحزن.

في الكبترانيا يجلس المرء، يتذكر، يتأمل، يطمح، وقد يصاب بعد هذا بخيبة أمل نتاج أن كل شيء لا يسير مثل ما يريد، الكثير من الكتاب والمبدعين تجدهم يفضلون الذهاب إلى أمكنة غير مزدحمة، مريحة، يشعرون فيها بحاجتهم إلى الانتعاش والاسترخاء والحديث مع أنفسهم أكثر، لأن ما يحدث في العالم يبث فيك شعور الخوف والتوتر وأن كل شيء لا يبدو على أفضل ما يرام، ومثل هذه الأمكنة وظيفتها أن تنقذك من كل هذا، أن تدب فيك ما أنت في حاجة إليه من سلام وطمأنينة، أنها بمثابة ملاذ آمن وأخير، أنها ترياق لتصغير الإنسان لذاته. ولشح الأماكن هنا في مدينتي فإن الكبترانيا تؤدي بالنسبة لي دور المنقذ في بعض الأحيان، ما يميز الكابترانية هو وجود الكاتدرائية البارزة من وسط النخيل والأبنية، لدى هذا الكاتدرائية تاريخ، وهي معلم مهم من معالم بنغازي.

تعتبر هذه الكاتدرائية الكاثوليكية هي الأكبر في شمال أفريقيا من حيث المساحة، نصب الحجر الأساسي عام 1929 أثناء الاستعمار الإيطالي، وبعد حوالي عشرة سنوات افتتحت الكاتدرائية لأول مرة، تم بناء هذا المعلم من قبل الطليان، من تصميم مهندس إيطالي يدعى ottavio cabiati. تتميز هذه البناية بقبتيها النحاسيتين والصليبين اللذان كانا منتصبين على القبتين، إلا أنه إلى الآن لم يتم بناء كامل التصميم المقترح بما في ذلك الجرس كما هو موضح في الخريطة. في الحرب العالمية الثانية وأثناء قصف المدينة تعرضت الكاتدرائية للضرر بعد ما تم قصفها من قبل الطيران الإنجليزي عام 1940، لكن بعد ذلك تم ترميمها وعادت الأمور إلى نصابها لتظل تعمل، حتى جاء الوقت الذي تم تحويلها فيه عام 1971 إلى مقر للاتحاد الاشتراكي العربي.

بعد مرور خمس سنوات نشب حريق بهذه الكاتدرائية لتغلق بعد ذلك للترميم، وإلى الآن لا تزال مغلقة، بل زادت الأضرار أكثر وأكثر بسبب حرب الكرامة.

إن هذا المعلم يعاني الآن، وهو في أمس الحاجة إلى الاهتمام والصيانة، أتمنى لو أنه يتحول في يوم ما إلى متحف حاضن للقطع الأثرية، لكن لتحقيق هذا الهدف يتطلب الكثير من الصدق والشغف، وهذا الأمر أقرب إلى المستحيل هنا.. في ليبيا من العسير تقدير كل ما له علاقة بالفن والآثار والثقافة بمجملها، إن هذا في نظرنا لأمر تافه، مضيعة للوقت، أمور جانبية.

إنني أفكر على الدوام وأنا جالس في الكابترانيا معطياً بظهري لأشعة الشمس كيف أننا بلا حياة وبلا شغف بهكذا أمور، كيف أننا سذج ومتوهمين بأن الزواج والإنجاب وامتلاك اكبر قدر من المال هو أهم ما في هذه الحياة، بكل تأكيد أن للأخير أهمية بالغة في حال أنه لا يعمينا عن مناح عدة وممتعة في الحياة كالأدب والفن والسفر وكل ما له علاقة بالثقافة.

بورخيس قد أبدى استياءه من سؤال حول فائدة الشعر، وقد أجابهم: حسنًا، وماذا يفيد الموت؟ ماذا يفيد طعم القهوة؟ ماذا يفيد الكون؟ وماذا أفيد أنا؟ ماذا نفيد؟ ما أغرب أن يُسأل هذا السؤال! أليس كذلك؟”. نعم يا بورخيس ما أغرب أن يسأل هذا السؤال، لكن في المجتمع الذي أنا فيه فهو ليس بسؤال غريب، بل هو متوقع ومألوف جداً.

مقالات ذات علاقة

أسباب غياب الإنتاج الفكري في الحركة الثقافية الليبية

عمر أبوالقاسم الككلي

القبلية والديمقراطية والمغالبة

صالح السنوسي

صراخ القنفذ

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق