قصة

سيرة ضحكة (3).. (لابلاكا ذات صيف).. الأخيرة

محبوبة خليفة

من أعمال التشكيلي عبدالقادر بدر

(وضحِكْنا ضِحكَ طفلين معاً)

لم تتمالكا نفسيهما من الضحك. حتى الوقور أطلقت العنان لضحكة هي بين تخيّل منظر المسكين يعدو فَزِعاً يحاول النجاة ممن يتوعدونه غاضبين، وكأن الحياة والموت تجاورتا في لحظة بؤسٍ وقلة حيلة…

وبين الصورة التي تُظْهِرهُ وحيداً في أزقة المدينة التي (يقيّل)* أهلها تلك الظهيرة فلا مُنجِدَ له مما يجري إلا البحر، والبحرُ في حالة جزر تلك الساعة! في خروج فاضح على قوانين الطبيعة، كأنه يتآمر مع هؤلاء الشباب الغاضبين، فالرجل يعدو والبحر يبتعد والنَفَسُ المرعوب يتعالى وحَرُّ ذلك الصيف تعامد مع الخطوب التي تحيط بالصياد الأهوج الذي غرس قلبه في أرض ليست له فأثمر فَزَعاً وغَضَباً، وهاهو بائسٌ ووحيد يلوم درنة ويصرخ يائساً أمَا مِنْ قلبٍ يتعاطف يامدينة يعشقُ أهلها العِشْقَ ويكتبونَهُ شعراً ويغنونَهُ طرباً، أين مزماركم الذي ينوح كلما ذَكَر َ(الصوبَ)* الذاكرون أين كل هذا من رجل مرَّ بمدينَتَكم واحبَّ صبيةً في أحد أزقتها فناله ما ناله من الهوان.

لمحتا نظرة عَتبٍ منه لأنه ما حكى لتضحكا.. هو يستعيد في حضورهن العجيب بعض حياته التي كان سلمها ذات نهار لبنت جميلة بدرنة فكادت هذه المدينة ان تفتك به.

انتبهتا لصمته فسألته الضحوك وماذا بعد؟ هل أخذك البحر الى كريت واقفلتَ باب درنة وابنتها (ام النفايل)* وتابعتَ حياتك بعد أن نجوتَ بفعلتك؟.

واصلتْ ضحكاتها، ومِنْ حولها يتمشى السواح والمتسكعون في لابلاكا، متنسمين هواء أزقتها الرطب وظل التاريخ يتبعهم، ويتبعونه طائعين، محبين، وحالمين، فللتاريخ سطوته على البشر، وفي تلك المدينة بدأ، وانتشر أهلها في الدنيا غزواً واستلاباً لمدن الناس، لم يتركوا مكاناً في الأرض لم تطأه أقدامهم، وها هم الناس الآن يتأملون ويتبرّكون بعظمتهم مذهولين بمساعيهم في نشر الحضارة كما صار إسمها بعد أن تقادم فعل الغزو وإلاحتلال، إنهم المستعمرون الأوائل أجداد مستعمروننا الجدد، وأحفادهم الآن المزهوون بعظمة التاريخ وقصصه التي تزداد وضوحاً وعجباً كلما تراكمت السنون وبهتت الألوان وصار ما جرى محموداً بل ومقبولاً ويجلب البشر والرزق الكثير.

إبتسمَ العجوزُ وكأن صورتها واقفةً امام بيتها قد عادت حيَّة هذه المرة، وراح بعيداً حيث تلك الأيام التي لم تَطُلْ بهما، ثم استدرك: لا لم أتوقف لقد حاولتُ وأرسلتُ صديقاً الى أهل المصطبة* الشهيرة، مجلس درنة البلدي، ومحل إجتماع رجالها لبعض راحة ولتأمل النساء الغاديات والرائحات، ولتداول مايجري في المدينة من حكايات أو حوادث وأداء الصلاوات أيضاً فجامع الصرواحي الشهير الذي سُمّيَتْ المصطبة بإسمه مجاورٌ لهم.

تقدم المرسال من كبيرهم وسلّمَ وأخذَ الأمان فما سوف يقوله ليس سهلاً ولا مقبولاً ربما، لكنه سيتكلم على كل حال وما إن بدأ الحديث حتى وقف الرجل وأخذ الرقريقي* جانباً وقال له إسمع يا أخي قل للصياد الذي أرسلك لقد اخطأت بحرك هذه المرة سمكتنا عزيزة على أهلها وانت إبن بحرٍ وتفهم ما أقول.

عاد الرجل وأخبرني ففهمتُ وحزنتُ وعشتُ بعضاً من عمري تائهاً موزع القلبَ والعواطفَ لكنني واصلتُ بعدها حياتي الى أن كان ذلك النهار.

كنت أتمشى مع حفيدتي وبينما كنت أهمُّ بدخول المحل واذا بي أسمعُ الصوتَ الذي أعرف ولا تخطئه أذناي، كانت تحكي جذلةً مع الصبية التي لا تفهم مما تسمع شيئاً ! لقد سألتها جازمةً في نبرة لا شك فيها: وين جدك الرقريقي؟ وخرجتُ مسرعاً لأجدها أمامي بديعة المحيا كما هي، وجهها الصبوح لم يستطع الزمن هزيمة جماله، وطلتها كما هي وجسدها الفارع ظل فارعاً ومنطلقاً لا يعبأ بعمرٍ مرّ بجماله وبمُرّه وحلاوته وبعناد الظروف الحافلة بالهزائم والإنتصارات.

هكذا رآها قلبي قبل عيناي! وضحكنا ضحك طفلين معاً*، لا أعرف هل ضحكتنا تلك الساعة لسعادة اللقاء أو للسخرية من الزمن أو من (عرب درنة) فلقد أفلتتْ يدها من قبضتهم وجالتْ الدنيا وحطّتْ رحالها حيث يقودها ذلك الخافق المسكين؟ أو لأن حفيدها الصبي الذي كان معها يشبه أحد الرجال الذين كادوا أن يفتكوا بي تلك الظهيرة أمام بيتها في ذلك الزقاق الدرناوي العابق ببهجات قاطنيه وبالحب الذي يعرفونه جيداً وينكرونه على من ليس منهم.


* يقيِّل: نوم الظهيرة قيلولة.
* الصوب: الحب.
* أم النفايل: ذات الوشم وصاحبة الحكاية الثانية (أم النفايل).
* المصطبة: مصطبة الصرواحي من معالم درنة الشهيرة.
* الرقريقي: هكذا يسمي الدراونة (أهل درنة) صيادي (كريت).
* وضحكنا…: مقطع من أغنية الأطلال لأم كلثوم.

مقالات ذات علاقة

العـهـد

المشرف العام

الجري في منطقة الظل

عبدالله الشلماني

قرية كل صباح

جمعة بوكليب

اترك تعليق