قصة

مخادنة

بورتريه صخري – من أعمال التشكيلي الليبي محمد بن لامين

نظرتُ إليه ملياً. كان دخان (الشيشة) يتصاعد من ثقبي أنفه المكور الكبير يشد النفس تلو الآخر، عبر المبسم الاسطواني الصغير، فكانت تسترسل أصوات الكركرات داخل الماء، مكونة فقاعات دائرية شبه منتظمة.. ضحكت عندما ضبطت نفسي أتأمله بشدة، كما كنت أفعل من قبل.. كانت سحابة الحزن التي علت وجهه، قد بدأت في الاختفاء..

تشجعتُ، حاولت التقدم منه كنت أقرأ في سري بعض التراتيل، وأكرر التعاويذ، هممت بإلقاء التحية عليه.. لكنه سبقني بنظرة بدأت من أسفل قدمي، متفحصة ببطء وحذر حتى استقرت عينيه بعيني.. ارتعد جسدي.. اختنقت داخل زنزانة صدري الضيقة، عاد يرمقني، ويقول لعل ما جاء بك اليوم هو الحاجة؟ تنهد، وأضاف، عاودني الألم أيها الشؤم اللعين، مهما فعلت ما أنت إلا صعلوكاً، هائماً، على وجهه لن تكون شيئاً قط! قالها وقد تقطعت حروف الكلمات من بين شفتيه، إثر تشنج السعال الحاد الذي اعتراه أشار بسبابته إلى نادل المقهى، طلبا للماء، رجع بجسده للخلف وأسند متنه على وسادة مقعده، استل من جيب سترته الداخلي، امبولا صغيراً.. أفرغ منه قرصين صغيرين، وضعهما على لسانه، ثم أرسل خلفهما جرعات ثالث من الماء، وألقى بالكوب، أخفى وجهه بين كفيه اللتين عالهما الشحوب، وزاد عليهما الارتجاف..

صمت لحظة، ثم بدأ يرفع وجهه تدريجياً، متطلعاً نحوي، وقد اخرج من جيبه لفافة من الأوراق النقدية.. انتزع بعضها، قال ُخذ هل يكفيك هذا، أم تريد المزيد؟ تسمرت قدمي مكانهما. تأرجحت الأرض برأسي.. باتت معالم وجهه غير واضحة أمامي. صرخ بي، ما بك؟ هل جننت أيها الغبي؟ هل أصابك الخرس؟ أدرت وجهي عنه. نظرت أمامي.. كان العالم شاسعاً منطلقاً، لا حدود له. كادت قدمي تطيران بجسدي النحيل، وكأنني أحلق في الأفق، تاهت عيني بين الأرجاء، ما زلت أجري، توقفت الوجوه المارة بي في الطريق اندهشت الأفواه، والعيون، لم يوقفني امتعاضهم، ودهشتهم.. باعدت بيني وبينهم مسافات الشوارع العريضة، ومنحنيات الأزقة.. ضاعت كل الأشياء حولي، توقفت، وجدت نفسي أعود إلى تلك المنطقة النائية، الخربة، هذا المنزل ذو الطابق الواحد، تلك الأحجار المسنة، العتيقة، هنا مرتع طفولتي، وبوادر أيام عمري اتكأت برأسي الواهن، وأعماقي البائسة إلى جدار بيتنا أفقت من مكاني على صوت تلاطم أمواج شديدة دون توقف.. أنفاسي تعلو، وتنخفض، وتضطرب مع عصبية الأمواج، كأن ثالثتنا في مشاجرة دامية جريحة تهاويت على الأرض، دفنتُ وجهي في الرمال، بكيتُ عندما رفع رأسي من الرمال، كانت عينيه العميقتين، تحملان دفئاً كبيراً قال وهو ينهضني، لم يطاوعني قلبي أن أتركك ترحل هذه المرة، كما فعلت في المرة السابقة.. لقد غبت فافتقدتك كثيراً، وبكيت من أجلك، ما عادت صحتي تقوى على هذا كم كان أبوك عنيداً مثلك، حين كان في سنك ضمني إليه اختلطت دموعه الساخنة بالعرق الذي تدفق من جبيني، قلت لم أتيك من اجل الحصول على نقودك.. لا يعوزني سوى البقاء معك ربت على كتفي برفق وقال لن ترحل عني فأنا أحتاجك أكثر من حاجتك إليَ كانت أمواج البحر قد عادت أدراجها في هدوء، وعدنا معاً.

2006

مقالات ذات علاقة

ونصوص قصصية ساخرة

حسن أبوقباعة المجبري

زاوية الساعدية

يوسف الغزال

سيـرة الجـد الهـارب

إبراهيم بيوض

2 تعليقات

حسين بن قرين درمشاكي 28 يوليو, 2021 at 07:34

كل الود وعطر الورد لموقع الطيوب على سخاء النشر والتوثيق..

_درمشاكي_

رد
المشرف العام 28 يوليو, 2021 at 12:14

وكل الشكر لك صديقنا

رد

اترك تعليق