السقيفة الليبية – كتب: محمد التليسي.
الانتحار ليس ضعفاً كما ادّعى المحافظون. كان المنتحرون الأكثر كبرياء دائماً. كان مقاتلو الساموراي يحضّرون أنفسهم للموت على طريقة السيبوكو/ هارا كيري، وفقاً لقوانين بوشيدو/ طريق المحارب، المدوّنة في فترة إيدو…
يغتسل المقاتل ويلبس البياض، يأكل ما يحبّ من الطعام، يودّع العالم بكتابة مقطوعة شعرية، يستلّ سيفه من لباس الكيمونو التقليدي أمامه ويقطع به أحشاءه. كانوا يفعلون ذلك لتفادي الوقوع كأسرى في أيدي الأعداء ولمسح عار الهزيمة. كان ذلك أكثر الأفعال نبلاً وكبرياء في حياة المقاتل. لم أسمع في حياتي عن طريقة أكثر رقيّاً وشرفاً للوداع والاعتراف بالهزيمة، وها هي الحياة تهزمنا وتورّطنا في الهموم كل يوم.
شاعران وشاعرة بجمال كوكب الزهرة ينتحرون على طريقة الساموراي، فقد ارتدوا ثلاثهم حلة بيضاء وكان مصدر هذه الحلة نقاء قلوبهم وسعة أرواحهم النقية، حلة بيضاء تضيئهم (وشيء سماواي يتقد في وجوههم) وتشع من دواخلهم، وكما تفعل الساموراي تقريبا كتبوا ثلاثتهم أجمل المقطوعات الشعرية التي يمكن لنا سماعها في هذا الوطن الذي طغى فيه صوت الرصاص وصوت أصحاب المناصب والسياسيين الذي يزرعون الفتن على صوت الشعر، فيعود اليوم الشاعر أكرم اليسير والشاعرة هناء المريض والشاعر محمد عبدالله ليسكتوا أزيز هذا الصوت البشع بصوت الشعر، فقد علا صوت شعرهم الجميل في أسماع الحاضرين الذين استمتعوا معهم تماما بهذه الأمسية اللطيفة والناعمة رغم عنوانها الحزين…
وقد صعد الشاعر أكرم اليسير على منصة الانتحار (وهل للانتحار منصة؟! ربما، فالشعر يصنع المعجزات في بيت اسكندر). قال اليسير: قبل أن يبدأ في إلقاء قصائده العميقة علينا “لماذا تدفعون بي أنا أولا ككبش فداء”. ثم بدأ أكرم بقصيدة تتحدث عن الوطن والحرب والحياة اليومية بعنوان (مشيئة). ثم عاد ليتحفنا سندباد الخمس الذي جاء على ظهر بساطه السحري إلي طرابلس ليزرع فيها قصائداً تحييها شعرا، حباً وشغفاً رغم الشجن الذي يلفها، قصيدة ربما تكون من أروع ما كتب اليسير، عنونها بـ (ما الراوي أنفهُ طويل).
سافرنا مع قصائد اليسر إلى كل ركن من هذا العالم تستلطفه أنامله وذوقه اليراع، استمتعنا كثيرا حتى راقتنا كل قصائده. وختم اليسر انتحاره بأسلوب بديع وراقٍ في الإلقاء، بقصيدة كان عنوانها” مزاج”.
بعدها جاء دور كوكب الزهرة أو لنكون أقرب وأكثر دقة في تشبيهها، هي منارة ليلية لا تنطفئ، يستدل بحارة الشعر طريقهم بها.. (هناء المريض). صعدت على منصة الانتحار وهي تتمنى أن تقدم شيئا جميلة. حدث كما تمنت وأكثر لقد أبهرتنا بقصيدة (على الورق)، لامست بها قلوب الحاضرين وانسجموا جميعا معها كما لم ينسجم حضورا مع شاعرة من قبل. كانت المريض بقصائدها الجميلة والمبهرة حد السماء تبحر بنا في جمال الكلم والنبض. وكان أروعها والتي لا يمكن نسيانها لوهلة قصيدة بعنوان (أنا الصمت). وختمت هناء الزهرة أو المنارة انتحارها العمودي بقصيدة رائعة عنونتها ب (فكر في أمرنا مرة فكر في أمرنا مرتين او ثلاثة واكتبني شعرا نصا يشبهك لا يكترث لأمر الفضائح…).
وجاء أخيرا دور الشاعر المميز محمد عبدالله في الانتحار العمودي.. صعد على المنبر ومعه مولوده الجديد (دون ذِكر أسماك) وهذا من الجنون أن ينتحر الإنسان وهو يحمل مولودا جديدا عمره أيام… بدأ محمد في قراءة نصوصه من ديوانه الجديد، أخد يتنقل بين نصوصه المشاكسة وسط ضحكات الحضور وتعليقاتهم اللطيفة أحيانا، محمد شاعر مذهل له كوكبة مميزة من المتابعين على الفيس بوك لما يقدمه من فلسفة شعرية معاصرة. وقال عبدالله في قصيدة له: أنه يعيش في الدور الرابع ويريد الانتحار إلا أنه لن يفعل ذلك خشية أن يفسد مشهدا لطيفاً لأطفال يلعبون الكرة أسفل البناية. ثم فجأة لم يرد محمد الإطالة على الحاضرين فاستحضر مقولة لدوستويفسكي “إذا تجاوزت 20 دقيقة في الحديث أنك تثير غريزة القتل في المجتمع فأنا أخاف أن يحدث هذا“.
قمت بالتعليق على ما قاله وقلت له لحظة (أنت منتحر منتحر.. أكمل الأمسية). لو عرف محمد وقتذاك بقصة السموراي أو أنه كان يعرفها وتذكرها لقال لي لا أريد الموت على يدي أحد أريد الانتحار على طريقة الساموراي.
كانت السماء رمادية في الخارج والهواء جميل والبحر ينعش القلب، كانت الشمس تتوارى في الأفق تودع مدينة طرابلس التي شهدت انتحار شاعر عمودي. وكانت الغيوم تعبر السماء مرتحلة إلى البعيد مصافحة البحر في نهاية الأفق، وأحد النوارس كان يحلق لوحده يبحث عن رفيقته فوق قوس ماركوس.
ختامنا الجميل في الأمسية عودة شاعر السلام كبير الشعراء إلى المشهد الثقافي بعد وعكة صحية تعرض لها منذ شهرين الأستاذ/ محمد المزوغي، أطال الله في عمره وأمده بالعافية والصحة. احتفى الحاضرون بعودته وأنا أولهم.. كنت شغوفاً بلقائه كثيرا، وأصبح المنتحرون سُعداء بعد رؤيته، وسررت حد السماء.
* أمسية شعرية بعنوان (انتحار شاعر – قصيدة نثر ونص مفتوح)، بيت اسكندر للثقافة والفنون Eskender Arts House، الجمعة 28 مايو 2021.