طيوب البراح

استطعت تجميد الدمع بعيني

من أعمال التشكيلي الليبي توفيق بشير

حضر ليتفقدني، فوجدني لازلت مقيمة لصلاتي، جلس غير بعيد وبدأ يدير حواراً مع نفسه ظاهره الفكاهة. حتى وقعت عيناي على عينه في أول السلام، فلم تدع عيناه مجالا للشك وقد حجب التماعهما ضباب خطب ما.

منظرهما وهيأته شغلاني عن التركيز في تلاوة التسابيح، فعلى ما يبدو في الأفق خبر قبيح، فما كان مني إلا أن رسمت على شفتي ما يشبه الابتسام، وتهيأت لعصارة اضطرابه.

افتتح حديثه من غير التلفظ بإِسمي، ولم تكن بادرة جميلة على أي حال، فإسمي لا يُخْرِجُه عادةً إلا تنغماً، أمّا موسيقى تشكيله لحروف اسمي شاذةً عن أي قياس معتاد. وبدون أن يتعمق لَخَّص الحديث بفعل أَمرْ. أَمرٍ ما طُلب مِنّي إلا لأَجعله يَكونْ فيَكُنْ لأَمْرِهِ. استغربت ووثبت مدافعة وإن انهزمت، فلقد كان يناقشني في الأمر ذاته بتساهلٍ فيما مضى، فأُصارحه بأريحية بحقيبة الأمنيات خاصتي والمخبأة في سراديب الآمال، وكان يوافق اختياري ويَقبل رغبتي على مضضٍ، وأحيانا بفيض عطف محاولاً عبثاً أن يبقى عصي الدمع.

أما اليوم فأراه ثائرا جادًا وكأنه في صراع بقاء أو محاولة أخيرة للإنقاذ، فها أنا أراه يريد استئصالي عن آمالي البعيدة المنال ووضع خط نهاية لتأملي وصبري. ولهذا ارتفعت أصواتنا بجدالٍ لإيضاح وجهات النظر وخبايا الأمر، كان يريد نهايةً لآمالٍ باتت مستحيلة وبداية لحقبة الواقع المُعاش.

وكنت لازلت مستعدة لمزيد من الصبر وحرق بقايا أوراق العمر، متشبثة بأُمنياتي كغريق تشبث بطوق النجاة. أستميت صبراً علّني أُغير حقيقة الأمر وأُضيف لمعادلتي عوامل غير متبناة ولا مستساغة في محيط رث الطموحات متطرف المعتقدات. 

اليوم أراه يائساً من وصولي مقتنعاً بالتنحي والرضا بالحال، مُظهرا غضبه بجموح وعازماً على استئصال التفكير بما ليس سهل المنال.  لرُّبما كان عجزه عن مساعدتي سبب قسوته تلك وحدّته معي، فلقد وصل بيَ الطموح لمرحلة متقدمة من العبث بالملموس والرضا بانتظارٍ غيرِ مدروس. وهذا ما جعلني في شتات ولهذا تراني محاصرة بين ما أنا فيه وما أريده، وبينهما تقبع روحي القوية منزوعة الإرادة مسلوبة الحرية. ولكني رغم هذا ما كنت لأتنازل عن حربي وماكنت لأخفي عجزي رغم ادعاء صبري.

وبينما نحن نتقاذف بحدة رؤانا القريبة والبعيدة المدى تجمّد الدمع بعيني، وهذا ما أشعرني بثقة ونضج، وقد كنت لا أملك زمام أمرهما فكثيرا ما كانت تسبق دموعي كلماتي فأستثير قوته بغير قصد فيواسي ضعفي.

 كان هو يجادلني باسترسال منذراً بطفوح الكيل عن عبثي بحياتي، ومعلنا أنه لن يسمح لي!  بعدما كان يدعمني بأنه سيكون معي ما استطاع. لن يسمح لي! وقد كان يرغبني بالتأمل حباً، لن يسمح لي! وها هو يرهبني بحاضري خوفاً على المستقبل، ولهذا لن يسمح لي! الآن وقد استجديتك ألا تسمح لي قبل أعوام فسمحت لي.

لماذا الآن لن تسمح لي وقد دفعتني لأحلامي عندما أتيتك متنازلاً عنها ومُسلماً فيها، أتدري أن دموعي يوم سألتك تنازلاً واستئصال آمالي كان قراراً تصالحت فيه مع واقعي وحدود استطاعتي لكنك أجبرتني وسوَّلت لك نفسك أن تسمح لي لكيلا ينكشف عجزك عن مساعدتي أمام ضعفي.  اليوم اسمح لي أن أخبرك لقد أخطأت ترجمة دموعي تلك فلم تكن استجداءً بل كانت مرارة اقتناع بقرار غير مستساغ، فقط أردت أن أُبلغك بحقيقة قراري المرير ذاك ولهذا لم أتمالك دموعي.  وهذا كان ذنبي أن فاضت عيناي بأدمعها فأجبرتك على الاستفاضة بدعم غير مدروس ولا دائم. ماكنت أطلب هذا وما كنت لأكف دمعتي السخية على أمل بات بعيد المنال. عيناي لا تكذب لكنها لا تستجديك عطفاً. ولربما ضعفي ذاك حجب عنك صدق نيتي، دعك من كل هذا الآن فقد مر عليه من الزمن ما يجعله طيّ ذكريات غير قابلة لتغيير ولن تخضع لأي مبررات.

الآن أتركني أُنهي حربي بما يرضيني ولا بأس بدفع ضرائب ذلك، فمهما كان حرصك على سلامتي مسيطراً عليك وخوفك عليَّ يمنعك أن تسمح لي من الاستمرار بمعركتي لن تستطيع استئصال ما استفحل بكياني من آمال، فاتركني إليها إمّا أن تنهيني أو أُنهيها فلا مجال للتراجع عنها وقد خسرنا لأجلها أرتال عمر ولن أرضى سواها مآل، ولننتهي من هذا الجدال.

أنهينا جدالنا بعد اشتعاله بسرعة، بعد قناعته أنّ أوامره ستنفذ ولكن بطريقتي فلقد حددت لحربي زمن لن تتجاوزه فإمّا نصر موعود وإمَّا استسلاماً لقيود.

وهذا ما يحدث دوماً عندما تختلط المشاعر بالقرارات، تستدعي لأجلها مخزون العواطف وردود فعل مرتجلة وغير اعتيادية ولا دائمة. هذا كان خطؤنا، حديث متشنج بانفعالات، حيّد عن قراره العقلانية واحتضنها بعواطف مستثارةٍ لحظية.

وعليَّ اليوم الاستغاثة ببقايا ذرات التعقل، حين أُجادلك وأواجه كل ما تحاشيته على مدى الأيام.  فبقدر ما كانت أمانيَّ بعيدة المنال بقدر ما كانت في متناولي، غير أنها لم تراني جديرة بها وقد طُبع التردد والضعف على صحيفة قدراتي. ولربما هذا سيكون المكسب الوحيد في جدال اليوم أنني استعدت حشد جيش قدراتي، فقد أكون خسرت عمري وقد تكون قد استأصلت آمالي ولكني لأول مرة استطعت تجميد الدمع بعيني.

مقالات ذات علاقة

سأرمي حذائي وبأي ثمن!!

المشرف العام

هروب الثور

المشرف العام

رائحة الوعـود

المشرف العام

اترك تعليق