حوارات

صلاح إنقاب: مجتمعاتنا منظورها للعالم أحادي الأبعاد!

حاوره / مهنّد سليمان

الكاتب الليبي صلاح انقاب

حول صدور كتابه الأول (ما قبل وما بعد حروف العلة) ارتأينا أن نُجري حوارًا مع الكاتب والباحث “صلاح إنقاب” نغوص بمعيّته في لُجج الأفكار وتلاطماتها فهو يرى بأن المجتمعات التي تعتمد في مداخيلها على الاقتصاد الريعي تصير بيئة طاردة لقيم التعايش السلمي المشترك ويُعزي فقر البيئة الليبية تحديدًا لمبدأ التعايش الأهلي إلى واقع العزلة التي فُرضتها سياسات النظام السابق، ففي باكورة إصداراته يطرح الكاتب رؤاه ويفصّل وجهات نظره إزاء جملة من القضايا الشائكة سياسيًا وثقافيًا ودينيًا واجتماعيا بموضوعية يبثها عصارة أفكاره وتصوراته محاولاً وضع إصبعه على مواطن الخلل الذي يعتري جوهر الكيان الليبي وما يطاله من جمود دوغماتي وتكلس حضاري خطير، بجرأة لعلنا قد عهدناها في قلم صلاح إنقاب الذي يعتز بلغته الأم الأمازيغية إضافة للعربية وإتقانه للإنجليزية والألمانية ونظرًا لتوجهه الفكري واختراقه لحُرمة الممنوعات حملته ظروف المطاردة والتضيق الأمني لمغادرة البلاد والاستقرار مع عائلته في ألمانيا، فقد دأب منذ سنوات في إطار مشروع تأسيسه لمجلة (أرمات) كأول مطبوعة ليبية تصدر باللغات الليبية القديمة(الأمازيغية، التباوية، العربية)على نشر مقالات ودراسات وأبحاث توخت تشريح الواقع الليبي الراهن بمشرط طبيب حاد بكل تقلصاته واضطراباته المزمنة، كما دعى إنقاب لضرورة فسح المجالات أمام التفاعل السلمي لتلاقح الأفكار والآراء والمعتقدات بغية صناعة وعي جمعي حقيقي وناضج، وفي المقابل شدد على أن الفقهاء ساهموا بدرجة كبيرة في اغتراب الناس عن دينهم ما كرّس حسب تقديره ما سمّاه بالجهل المقدس، الجدير بالإشارة أن الكاتب يستعد للمشاركة في فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي ينطلق أواخر شهر يونيو بمجموعة قصصية بعنوان (جمهورية الضباع) عن مكتبة الكون للنشر والتوزيع ومجموعة قصصية أخرى تحت الكتابة بعنوان(العودة إلى كهف أفلاطون).     

ما قبل وما بعد حروف العلة كتاب تطرح فيه وجهة نظرك حول قضايا الهُوية والمواطنة والدين والدولة والتعددية، هلاّ حدثتنا أكثر عن هذا الإصدار الجديد؟

الكتاب هو تجميع لمقالات كتبتها على امتداد سنوات، اخترت منها ما أعتقده اكثرها تناسقا مع جوهر أفكاري التي تصب في اتجاه خلق مجتمع إنساني تتجدّر فيه قيم العدالة والتسامح، وتتكرّس فيه مفاهيم المواطنة، وهي مقالات نشرتها على امتداد أكثر من 15 سنة في مواقع الكترونيّة ليبية أهمها ( ليبيا وطننا ) ومجلات مطبوعة في ليبيا وخارجها أيضاً أهمها ( ميادين ) ،وهي تتمحور حول مواضيع الهوية، حوار الثقافات والتعايش السلمي في مشروع بناء الدولة الليبية الحديثة، وتكريس قيم الليبيرالية وحياد الدولة تجاه هويات الأفراد و المجتمعات المحليّة، بالإضافة الى مقالات عن أنسنة وعقلة الفكر الديني بالإضافة إلى مجموعة مقالات تحوي توثيقا لتجارب شخصيّة عايشتها، رأيت أن أنقلها للقارئ لمشاركة التجربة الشخصية، التي أراها تمثل وجهاً يعكس أوجه أخرى يمكن الاستفادة منها عندما يرتديها القارئ نفسه كقناع بدلا عني كصاحب للقصة نفسها.

معظم مجتمعات العالم الأول اهتدت لإحلال معايير التعايش الأهلي المشترك بين النِحل والملل المختلفة بعد قرون من العنف والاقتتال فيما بينها، متى يعي مجتمعنا الليبي أهمية هذا الحل الحضاري؟

الموضوع ليس مرتبطا بالزمن، المسألة كما أشرت لك عميقة ولها أبعاد كثيرة، لكن وهو ما أتمناه، سوف يستوعب الشعب الليبي أن الحروب لا تجلب سوى الأيتام، وأن العنف ليس خيارا لحل أي مشكلة، بل هو مشكلة تتراكم فوقها مشاكل أخرى، فالتعايش السلمي لا يكون إلا بوجود سلطة قادرة على احتكار استعمال العنف تحت سطوة القانون لا شيء آخر، وهنالك تجارب لدول مرت بمآسي أكبر من المأساة الليبية واهتدت إلى حتمية حل السلم، بدلا من الحرب التي لا تنتهي، رواندا خير مثال على دولة حدثت فيها حرب دموية لا تقارن بالقصة الليبية، فملايين من الروانديين قتلوا بعضهم البعض بسبب اختلاف في مسألة طول الأنف، لتنطلق رواندا لعد مشروع عدالة انتقالية ومحاسبة للذات، وتكريس فكرة أن رواندا ليست ملكا للروانديين الذي يعيشون فيها اليوم فقط، بل هي ملك للأجيال القادمة، فاستقرت الدولة وهي الآن تمر بحالة نمو اقتصادي ومجتمعي يحتذى بها، وبناء عليه على الليبيين أن يفهموا أن ليبيا أيضا ليست ملكا لهم فقط، بل هي ملك للأجيال القادمة التي لا ذنب لها، كي تجد نفسها تولد في بلد دمرته الحروب والكراهية، وليحملوا تارات لا ذنب لهم فيها سوى أنهم ولدوا في المكان الخطأ.

هل على صعيديّ المجتمع والدولة الفرد الليبي مؤهل بما يكفي حضاريًا وعقلانيًا للامتثال لقواعد العصر الحديث؟

واحدة من مجموع المشاكل التي تقف عائقاً أمام تحقيق قيمة التعايش السلمي المشترك في ليبيا، هي حالة العزلة التي فرضها المناخ السياسي للنظام السابق على الوعي المجتمعي عن مفهوم (الأنسنة) و كون المجتمع الليبي كما هو حال جل شعوب منطقة شمال إفريقيا و لشرق الأوسط، ترفض قبول حقيقة أننا كبشر يجب أن نستفيد من التجربة الإنسانية ككل، فبعد الحرب العالمية الثانية تغير مفهوم الدولة من مفهوم الدولة الامبراطورية الى مفهوم الدولة الوطنية القومية، والتي هي أيضا بعد دخول الكوكب عصر العولمة تتجه نحو قيمة عليا منطلقها ترسيخ قيمة الفرد ككيان مستقل له مساحات خارج حدود الدولة الوطنية نفسها.
فالمجتمعات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط لا زالت عالقة في ما أشبهه بكهف أفلاطون، حيث منظورها للعالم أحادي الأبعاد، يرفض قبول نتائج التجربة الليبرالية الغربية التي هي أساس تكوين المجتمعات الحديثة التي تأسست وفق قيم الحريات تقديس والحقوق الطبيعية واحترام خيارات الأفراد وهويات المجتمع المتنوعة، ضمن إطار دور الدولة الأساسي الذي هو فك التشابك المجتمعي وتحقيق السلم الأهلي عبر حماية الجميع من الجميع، فقيم الديمقراطية، السوق الحرة والعلمانية هي قيم رئيسة أنتجت مناخا صحياً يفتح مجالات للأفراد بأن يكونوا رجالاً ونساء، مواطنين كاملي الأهلية لديهم الحق والقدرة لتوفير الرفاهية والبحث عن اجابات أسئلة الوجود نفسها والغاية العليا من الحياة نفسها، والمثير للاستغراب أن دولنا تستخدم منتجات الحضارة الغربية والتي هي بالأساس ليست منتوجات منعزلة عن قيم ومخرجات الحضارة الإنسانية ككل، والتي تعتبر الحضارة الإسلامية منبعا من منابعها و رافدا مهما لها، فكتب ابن رشد هي التي أسست لفكر سارتير جون لوك مثلا، المثير للاستغراب أن مجتمعاتنا تستخدم مخرجات هذه الحضارة المادية ابتداء من المحرك وصولا إلى الانترنت مرورا بكل أدوات العصر الحديث والتي لم تنتج إلا داخل المناخ الديمقراطي الليبرالي، وبناء عليه يجب أن يتوقف المجتمع الليبي عن التعامل مع الغرب كعدو هو ما حدث في فبراير قبل عشر سنوات عندما استنجد بالغرب للتخلص من نظام القذافي، بل أن يتعامل مع منتجات الحضارة الغربية ويتفاعل معها كونها منتج إنساني، لم يجد الليبيون سبيلا للاعتراف به والدخول به ولو ظاهريا بعد سقوط القذافي باتخاذهم منظومة الديمقراطية والانتخابات وسن عقد اجتماعي باسم الدستور وكل هذه الأفكار ليست سوى جزء من المنتوج الليبرالي لفكرة الدولة الحديثة.

كتاب ما قبل وما بعد تحريك حروف العلة للكاتب صلاح إنقاب

ما هي أبرز المعوقات التي تجد بأنها تقف حجر عثرة في مسار تحقيق دولة المواطنة الحقيقية في ليبيا؟

ليبيا مشكلتها عميقة في واقع الأرض لأسباب تاريخية وجغرافية وثقافية بالإضافة إلى سبب أراه سببا مركزيا هو العامل الاقتصادي، فالمجتمعات التي تعتمد دولها على الاقتصاد الريعي تتحول إلى بيئات طاردة لقيم التعايش السلمي، تكريس قيم التعايش السلمي وحماية حقوق الإنسان، كون الإنسان ككائن اقتصادي والدول الريعية بطبيعتها أيضا تتجه نحو تكريس الدكتاتورية وخمول المواطنين في المشاركة في الحياة السياسية و الشأن المجتمعي، بالإضافة إلى سهولة اشتعال فتيل الحروب الأهلية وتنامي النزعات العنصرية، الموضوع ليس مجرد رأي بل هو تعبير عن قراءة للواقع المجتمعي والسياسي للدول الريعية في كل العالم، والحل ليس سوى بإعادة الوعي المجتمع تجاه قيم الأنسنة ومفاهيم الدولة الحديثة التي تأسست في العالم الحديث عبر أسس تكريس قيمة حقوق الإنسان و قيم الفردانيّة ، تعزيز التنوع، المساواة أمام القانون، ترسيخ قيم المؤسسات الديمقراطيّة ابتداء من العائلة نفسها كمؤسسة هي المنتج الأول للإنسان ( المواطن ) والتي هي الأصل لتكريس وتعظيم الحرية السياسية، حق الاختيار والقرار الفردي، ترسيخ قيمة العمل التطوعي بل التشكيك ومعارضة السلطة، كل هذه القيم تحتاج الى وقت للأسف حتى تترسخ بسبب العائق الذي أشرت، وهو العائق الاقتصادي.

برأيك هل أسأت المؤسسة الدينية للتشريع الديني بترويجها للعديد من المفاهيم والتأويلات المتطرفة؟ وما هي الألية المناسبة للحد من هذا التغول؟

مشكلة الخطاب الديني ( لا الدين طبعا ) أنه دائما يتحول إلى أداة قمع تبرر الاستبداد عندما، وفقط عندما، تصبح شريكا للمؤسسة السياسية في عملها، بمعنى أن السلطة السياسية بطبيعتها النفعية ( البراغماتية ) تتلاعب بقيم الحق و الخير التي يأتي بها الدين بطبيعته لأجل الحصول على مكاسبها وتحقيق أهدافها، ولطالما كانت الشراكة بين مؤسسة الدين و مؤسسة الدولة منذ زمن أخناتون إلى عصرنا الحديث( في حال استثنينا سنوات وجود الأنبياء أنفسهم ) لطالما كانت هذا الشراكة بابا لتحويل الدين من أداة علاقة عمودية بين الله والإنسان، إلى أداة تبرر استبداد الدولة أفقيا على المواطنين جميعاً، ولا حل من هذا التغول سوى إعلان حياد الدولة تجاه ضمائر المواطنين وترك المجال للمجتمع والأفراد بأن يكونوا هم أصحاب الحق في توجيه ضمائرهم على المستوى الفردي أو الجماعي دون انحياز لمؤسسة الدولة ناحية فقه أو مذهب أو تيار ديني بعينه، وترك التفاعلات بين هذه التيارات بطريقة سلمية هي الحكم في توجيه أو تحديد ضمائر الناس عبر تدافع طبيعي لا تحكمه قبضة البوليس أو رغبة ونزوات الحاكم، فالدين لله والوطن للجميع، وليس تحييد الدين عن الخوض في المسألة السياسية، وابعاد منبر الجامع من الخوض في الصراعات الأيديولوجية سوى حماية للدين، وإرجاعه من قبضة الدولة المتسلطة بطبيعتها إلى قبضة الناس.

قد نتفق بأن الخوف هو أكبر مصدر للجهل بالأمور مما يعيق بالتالي عجلة نمو وتطور الإنسان وثمة صلة طردية بين الوعي والارتقاء الحضاري، هل تُعد القوانين والتشريعات خطوة نحو شيوع الوعي داخل الذهنية المجتمعية؟

يقول أفلاطون : إن الجهل هو أصل كل الشرور، والإنسان بطبيعته عدو ما يجهل، القوانين والتشريعات هي حامية للوعي لكنها ليست مؤسسة لها أو سببا في شيوعها، ما يسبب الوعي و يشيعه هو فسح المجالات للتدافع السلمي للحراك المجتمعي نفسه، بمعنى أن الوعي ينتشر عندما تتوفر مساحات التعبير عن الآراء واتساع مساحة المعرفة وهي امر حتمي اليوم في عصر ما بعد العولمة وهو عصر جديد من عصور الكوكب، و المجتمع يتحل الى قرية صغيرة فعلياً، فلم يعد بإمكان المجتمع أو الدولة تقييد الأفراد أو احتكارا لمعرفة ومنع التواصل المجتمعي بين طبقات وفئات المجتمع الإنساني ككل، فبعد ثورة الإنترنت سقطت كل الحواجز التي كانت تشتت العائلة الإنسانية بما في ذلك حواجز الجغرافيا واللغة، ولم يعد هنالك مكان للاستبداد ( الفصيح ) إذا صح القول ، فالعالم ليس وردياً طبعاً، لكن قتامة دول الاستبداد، أو دول الأخ الأكبر بلغة ( جورج أورويل ) لا مساحة لها في العالم اليوم، وموجات الديمقراطية الثلاثة حسب لغة ( صاموئيل هنتغتون ) وصلت إلى شمال إفريقيا ولا مجال للعودة إلى الوراء حيث الفرد لا يعني شيئا، والمواطن ليس سوى ظل للسلطة المستبدة والمجتمع الصامت.

المجموعة القصصية جمهورية الضباع للكاتب الليبي صلاح انقاب

الماضي تاريخ أتمّ تجربته بعوامل التراكم الزمني لكن الفقهاء والمحافظين وأنصارهم غالبًا ما يتخذونه كحُجّة يواجهون بها أية خطوة تشجع على التقدم نحو المستقبل؟ لِمَ كل هذا الرهاب إزاء المستقبل؟

أكرر ما قاله الفيلسوف الفرنسي بول فاليري، التاريخ، أكثر الخصائل ضرراً وخطراً بين كل ما عنيت به كيمياء الفكر ، وهذه هي مشكلة الفقه الإسلامي، كونه سجن الناس خارج الزمكان ونقلهم قسرا إلى زمكان آخر، وكرس فكرة كون دين الناس لا يجب أن يخرج خارج إطار فهم السابقين، والذين هم أناسٌ أيضاً، لا يمتلكون من القداسة شيئا سوى قربهم الزمني لزمن الرسالة الأول، وهذه مغالطة مقصودة الهدف منها إبعاد دين الناس عن الناس، وتكريس الجهل المقدّس إذا صح التعبير، فقط لأجل حماية سطوتهم والتي تصب في رغباتهم البراغماتية في امتلاك سلطة على المجتمع والاستفادة من هذه السلطة سواء مادياً أو معنوياً، وليس أسوأ من أن يلعب رجل الدين دور يد الله وصوته في دين أتى ليلغي هذه الفكرة من جذورها ويمنح الناس الحق في تقرير مصيرهم في الحياة الدنيا والتي لا يتوقف فيها الزمن، الزمن الذي يسير فقط إلى الأمام، الأمر الذي ينتج مسؤولية الإنسان عن قراراته في الحياة الآخرة أيضا، وهذا هو الصراع الحقيقي ضد التيار المحافظ والفقهاء المتزمتين الذين يمنعون الناس من أن يكونوا أصحاب ضمير مستقل وإيمان راسخٍ أساسه اليقين والطمأنينة لا الجبر و الإكراه.

أحد أنجع الطرائق والأليات التي ساعدت الغرب على بناء حضارته هو إخضاعه لمكونات التراث الديني والاجتماعي والثقافي للنقد والمراجعة دونما تمييز، إلى أي مدى نحن أحوج إلى ذلك وفي المقابل هل ترى بأننا مستعدين لإجراء كهذا؟

لا مقدس سوى العقل، أو كما قال ديكارت : العقل هو أعدل الأشياء توزيعا بين الناس في العالم، فالعقل هو أساس وعينا بذواتنا و المجتمع بل الكون، وبناء عليه لا مجال لنمو أي مجتمع سوى عبر الخروج من قوقعة التراث ودفع النمو الى الخارج، أو كما قال ( النيهوم) الشجرة لا تنمو إذا قام المرء بجذبها من الخارج، الشجرة تنمو من الداخل، وبناء عليه لا مجال لإحداث أي تغيير إيجابي في أي مجتمع سوى بمراجعة الثوابت وإخضاع التراث للمراجعة والمحاسبة واعادة قراءة الواقع بأعين مفتوحة، لا كما هو حال مجتمعاتنا التي للأسف ترى العالم  كما يفعل أرنب ميت مفتوح العين، يرفض قبول التغيير الحاصل أمامه لأنه لا يراه أصلا رغم وجوده في واقعه، وهو ما حدث في ليبيا بعد فبراير والتي كان التغيير فيها كاذباً، عندما أعلنت الدولة نفسها ثورية لا ترضخ لقوانين التغيير التي فرضتها الثورة نفسها، في أعادة تكرار لفكرة الثورة التي لا تنتهي، فنحن في أمس الحاجة الى ثورة حقيقية ، لا ثورة تغير نظاما سياسيا بنظامٍ سياسيٍّ آخر، بل ثورة في الأفكار والقيم المجتمعية الرافضة للاندماج في سيرورة الحضارة الإنسانية التاريخية، فما لا يقبل النقد نهايته ليست سوى الزوال والذوبان من الداخل، فهذا الكون خُلق وفق نظام فيزيائي أساسه الحركة فلا شيء ثابت ببساطة، حتى الأشياء الميتة و المواد الجامدة تنهار بفعل الزن، فما بالك بكيان مجتمع إنساني أو أناس يتفاعلون كل لحظة مع محيطهم المتغير ليكون جمودهم ووقوفهم في وجه التغيير انتحارا لا غير.

عالم اليوم عبارة عن غابة تحكمها ثقافة (الضباع) مع مراعاة الاختلاف بين مجتمع وآخر، ألا يبدو هناك فجوة بين الحقوق المنصوص عليها وبين واقع رأسمالي مفترس؟

لا أوافقك الرأي، العامل اليوم يتجه أكثر و أكثر إلى الأنسنة، لو قارنا واقع العالم اليوم بواقعه قبل مائة سنة فقط لرأينا أن البشرية كانت غارقة في حروب دامية وكانت العنصرية والكراهية والتمييز أمرا بديهيا ومقبولا، على خلاف العامل اليم و الذي بدأ يتجه أكثر وأكثر نحو السلم و تكريس قيمة حياة الفرد، و إعطاء قيمة تصل إلى مستوى القداسة للروح البشرية، الأمر ليس مثالي طبعاً، لكن لا يمكن لأي قارئ محايد للتاريخ البشري أن ينكر أن البشر اليوم هم أكثر قدرة على التعايش مما كانوا عليه قبل مائة عام مثلا، حيث لم تكن هنالك ضوابط أخلاقية بالمطلق تضبط السلوك الإنساني، أما الرأسمالية المفترسة فهي أيضا تهذبت وتتجه نحو تكريس قيم الرأسمالية المتعاطفة، والتي هي نظام اقتصادي يهدف إلى جني الكثير من المال، وفي نفس الوقت مساعدة الكثير من الناس لأجل التمتع بالكثير من السعادة، والتي تعيد فكرة النشاط الاقتصادي إلى كونه يهدف إلى مصلحة الفرد، أو بلغة السوق (الزبون) الذي هو سيّده، فالرأسمالية ليست نظاما لا أخلاقيا كما يعتقد البعض، السوق الحرة هو نظام مبني على مبدأ العمل التطوعي والاختيار الحر للأفراد، وعدم الإكراه وتبادل المنفعة، فهدف الرأسمالي ليس هو الربح فقط، بل أيضاً رفع مستوى الخبرة ومستوى الحياة والسعادة للمنتج والمستهلك، وهذي أيضا من أهم عوامل الاستقرار في أي مجتمع، المجتمع المنتج والتي تتكرس فيه قيمة الإنتاجية والمبادرة هي المجتمعات الأقرب للسلم والأكثر ابتعادا عن الثورات والحروب و النزاعات الدموية.

النخبة المستنيرة تقف دائمًا مكتوفة الأيدي وعاجزة عن الإتيان بحلول عملية خارج قالب التنظير ألدينا حقًا نخبة يُراهن عليها؟ 

للإجابة على هذا السؤال يجب أولا الإجابة على سؤال آخر، ألا وهو من هي النخبة؟، حسب تقديري وفهمي، النخبة هي مجموعة الأشخاص في المجتمع، والتي تكونت لديها مساحة وعي منفصلة عن مساحة وعي المجتمع نفسه، بقي الآخر والاختلاف وتقديس المصلحة العامة، النخبة هم أفراد مروا بظروف وتجارب تجعل نظرتهم للأمور موضوعية قدر الإمكان، ولا يعكسون نظرتهم الذاتية على قياس المسائل الجدلية أو تصورهم لإعادة تنظيم المجتمع، عبر ممارسة الحياد تجاه المشاكل والجدية تجاه الحلول.

النخب نوعان نخب منظّرة ونخب فعالة مجتمعياً، وفي حال انتشار السلاح وعدم السيطرة على استخدام العنف، يجد الاثنان مساحات ضيقة للخروج والتعبير عن الغربة في التغيير أو دفع المجتمع للخروج من أوهام (فرانسيس بيكن) التي يخلقها المجتمع ويرفض الخروج من كهفها : وهم القبيلة، وهم الكهف، وهم السوق، ووهم المسرح، والتي يحميها العنف المجتمعي، هنا لا تجد النخبة مكانا سوى الانزواء بعيدا للنجاة أو (وهو الحال الأسوأ) أن يتحول المثقف الى أداة في يد المجتمع أو السلطة لتكريس الأوهام وتعميقها، وفي الحالتين تفقد النخبة دورها كمجرك إيجابي للمجتمع وتصبح حجر عثرة وعقبة أمام المجتمع للخروج من دائرة العنف القابع فيها.

كلمة أخيرة: –

أخيراً لا يوجد أسوأ من أن يعيش المرء حياته يسير معتمداً على عينيّ غيره، فالإنسان يمتلك فقط عقله الذي يجعله إنساناً، و بدونه لا يكون سوى ( دابة ) بلغة القرآن نفسه، دابةٌ لا تستطيع التمييز بين الحق والباطل، وبناء عليه يسقط عنها التكليف وتحمل مسؤولية فعل الحق أو اقتراف الباطل، أما نحن كليبيين فإن التاريخ يفتح أبوابه أمامنا لنصنع بلداً يحتوينا جميعا في فرصة يجب أن لا نضيعها لنصل إلى فكرة مفادها أن التمييز بين الليبيين على أساس الغلبة أو الحجم أو العدد أو القوة أو الأصل أمر باطلٌ يهدم كل ما يكن بناءه ولا يترك للأجيال القادمة سوى سبباً لأن يلعنوننا جميعا، فنحن في نهاية المطاف و كما قال ( سعيد المحروق ) كلنا ليبيون بالوطن.

مقالات ذات علاقة

الكاتب الليبي إبراهيم عثمونه: أكتب لأمتع نفسي لا لأغير العالم

خلود الفلاح

سفيان قصيبات: إننا ضحية منظومة فجة، غاب عنها الاستقرار والمعرفة وروح النقد والابتكار

رامز رمضان النويصري

يوسف الحبوش لـ«بوابة الوسط»: «عمر المختار» يصحح المغالطات التاريخية

المشرف العام

اترك تعليق