قصة

قلماي ولعنة الكوندودي

الكبري موسى

من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي

كنتُ أطوف بلا وجهةٍ.. أرجاء المدينة.. أنه يوم الجمعة ومن النادر أن تجد شخصا وحيدا في مثل هذا اليوم؛ ولكنني اليوم اخترت المكوث وحدي، ورحتُ أجوب الحواري والأزقة مستكشفاً بتيه كل ركن منها.. أنها بنغازي قبلة التائهين واستراحةُ لك واهِن، جئت من أقصى الجنوب من تازر لدراسة في أروقة جامعتها.. وها أنا الآن على وشك توديعها.

ركنت السيارة عند بحر الشابي وقت المغيب، سرعان ما مضى الوقت وكأنني قضيت وقتاً ممتعاً! أو غارقا في العمل!

اعتدتُ على أن أشاهد قرص الشمس كل يوم من شاطئ الشابي وهي تنسحب إلى مخدعها وراء الأفق.. وأصغي إلى هدير الموج ونسمة البحر تلفح وجهي بطراوة، أراقب المارة والصيادين بصنارتهم.. ومن بينهم رجلٌ عجوز نحيفٌ أسمر يميل إلى السواد دققت النظر إلى وجهه. وسيم ذو أنف نوبي تبدو على ملامحه القوة واللين.. حاز على انتباهي وصرتٌ أراقبه.. رمى صنارته للمرة الثالثة وانتظر قليلا ثم أخرج الصنارة فارغه. رماها مرة أخرى وانتظر وقتا أطول هذه المرة، ثم أخرجها ولم يجد فيها شيء ولكنه لم ييأس ورمى صنارته مرة أخرى وظل يعيد الرمي مرارا وتكرارا.

قلت في نجواي: رجلٌ صبورٌ مثله، لابد أن يكون له علاقة بالصحراء.. فالصحراء تعلم الصبر والقوة وتبعث في النفس السكينة. يقول الشيخ زايد بن سلطان “لقد علمتنا الصحراء أن نصبر طويلاً حتى ينبت الخير” وظل هذا العجوز يرمي ويعيد بكل رحابة صدر لعلى صنارته تثمر بصيدا وفير؛ سمكة تلو الأخرى.

أدرتُ محرك السيارة عائدا إلي البيت.. حاملا في جيوبي مخيلتي طيف ذاك المسن وهيئته التي تشعرني أنني أعرفه!!

دخلتُ غرفتي غيرت ثيابي ورميت نفسي على السرير، مستلقيا على ظهري.. أعيدُ رسم تفاصيل يومي كما العادة على سقف الغرفة.. ومن فجوة ما تسللت ملامحها أنها “بيلا”.. تقتحم اللوحة، حاولت أبعادها بأن أغمض عيناي وافتحها.. فأراها بهيةً تغزو المكان.. سمرتها ضحكتها جدائل شعرها.. كدتُ أن أغرق وأستسلم لحضورها.. ولكن صوت أمي جالسا بجانبي.. يردد كلماتها الصارمة:

“إنْقا تَنْقو دو آي بانم، إندا يَ مَرَى يَ بُسَرْ هوقنونديغدا بَيْ، مَدِي آي أمّا نُمَا بَسُو بُودُو دَكِّني، مَدِي آي كيْ آرْدى دَها يِي سُبْ”

بمعنى أن الارتباط بها شيء من محض المستحيل.. أنها أبنة عمي.. “والكوندودي” أي العادات والتقاليد عندنا شيء مقدس يمنع ارتباط الأقارب إلى الجد السابع.. وتقول أمي بأن عليّ النسيان وألا أخبر أحد من القبيلة حتى الرفاق.. وأن أدفن الخطيئة ها هنا بيننا وأحلف باليمين ألا أحلم بها، وحلفت اليمين لأمي.. صفعتني أمي وتلاشت “بيلا”، سمرتها ضحكتها جدائل شعرها وبقيت أمي تحمل الكوندودي في صدرها تسربها للأجيال القادمة كما سربت إليها من أجدادنا، وتفوز أمي والكوندودي وتخسر بيلا.

هذه المرة أطلقتُ عليه السلام.. رد بكل ودٍ عليّ السلام مبتسماً رغم تجاعيده الذي تفشي ما كابده.. ظل يتأمل الغروب لبرهة ثم على حين غفلة قال: أن الغروب يثير فينا المشاعر.

وتسامرنا أطراف الحديث.. لم يخطئ حدسي، العم “قلمي” جاء من عمق الصحراء ولكنه لم يأتي للدراسة إنما أتى فاراً من العادات والتقاليد.

يقول: بأنه متيمٌ بها كما هي الأخرى.. أنها قريبته “هردة” وقد هربا معاً بروحين متمردتين رافضين الانصياع إلي الكوندودي.

فاغرا الفاه في دهشة!! تجسدت بيلا سمرتها ضحكتها جدائل شعرها أمامي.. حضرت أمي والكوندودي في صدرها والعم قلمي يولع سيجارته:

احتشدوا حولي.. ويسترسل العم قائلا:

خططنا للهروب بعد ما ذاع هيامنا النزيه، وعوقبت محبوبتي ونبذت أنا.. رفضونا في مجالسهم أفراحهم أحزانهم.. أقصونا ونحن بينهم دون أن نرتكب إثما ألا أن قلوبنا تميل ولكننا كنا ثابتين… أقسم، أُرهِقنا ولم نتحمل وطأة الأقصاء فتمردنا.

بيلا تقترب سمرتها ضحكتها جدائل شعرها.. أمي تبعدها.. وتصفعني، ويتابع العم قلمي:

عند شجرة الطلح وتحت لوحة السماء وهوادة الليل.. كان موعدنا.. لم يقتفوا أثارنا، تزوجنا.. ومرت السنون.. ولكن لعنة الكوندودي لم تفارقنا وعشنا حياةً ملعونة، مآسي وأحزان، ولا طفل تؤنسنا، مشاكلٌ تكاد تفرقنا.. ثم يعيدنا الحب والوحدة، نتكئ على بعضنا نلملم جراحنا ونخبئ  ندمنا الأبدي.

وجهه أمي.. بيلا سمرتها ضحكتها جدائل شعرها والكوندودي يعزف “انغام شنغنى”

والعم قلمي يسترسل:

ماتت هردة قهرا ومت أنا على قيد الحياة، كنا ساذجين.. حسبنا أن العفو آتي لا محال وأن لنا العودة إلي حياة البادية وسط الصحراء ولكن هيهات هيهات.. الكوندودي يفوز، وخسرت خليلتي والقبيلة.

أبتلع الأفق قرص الشمس وأمي وبيلا سمرتها ضحكتها جدائل شعرها..

ومضيتُ أنا سيرا دون وجهة.. واجتمع الكل داخلي وفي ذهني عاصفة.. بلبل.. شوشرة وصداعٌ خام.. أبكي.. أجري.. أقفز.. اتدحرج وأصرخ تصفعني أمي يتلاش الكل وأقف وأردد كمن يؤدي اليمين الدستورية..

أقسم بأن المرء يستطيع أن يحكم عقله ويحافظ على نبل عواطفه دون أن يخوض مغامرات خاسرة..

تنفستُ الصعداء ألقيت النظر إلى ساعة يدي أنها العاشرة والنصف سرعان ما مضى الوقت..  وكان عليّ العودة مبكرا لأجهز حقائب السفر عائدا إلى تازر..

ضوء القمر

بهيمية الأفق

والنسمة الطرية

سَرتُ مبتعدا منعرجا نحو الأزقة..

أركان المدينة وحواريها ووقت المغيب والصيادون والعم قلمي الذي لم يكون له من أسمه نصيب.. في حقيبة سفري.. أقفلت الحقيبة بأحكام والكوندودي يعزف أنغام آلة شنغنى وانطلقت نحو الديار.

مقالات ذات علاقة

الكسوة البرتقالية

عزة المقهور

ما تبقى…!!

المشرف العام

أمنية بعيدة

المشرف العام

اترك تعليق