المتأمل للوحات الاديب الفنان رضوان ابوشويشة وكتاباته، ينطبع في ذهنه ارتباطا ضمنيا بين النص اللوني والنتاج السردي، وغالبا ما تتجه تأويلاتها الى اقتفاء إثر التشوه الروحي او فقدان البصيرة، مقرونا بسلم الخطايا وانعكاساتها على متون دفتر الحضارة البشرية بتاريخها الطويل، والذي تمثل الحالة الليبية احدى نماذجه، ارتكازا على فكرة مغزى الوجود، ملحوقا بأسئلة الذات انطلاقا منها ورجوعا اليها.
في لوحات ليبيا ما بعد النفط، أكانت مجسمة على هيئة براميل فارغة وبعض الخردة وبقايا اطارات متآكلة، أو تشكيلا بتموجات غارقة في تشابك غامض، تبرق جنائزية الصورة وهي تقذف بنا رأسا الى جدارية نصها الحبري المقابل، كإطلالة مكافئة لتفسير ملحمة السقوط الكبير.
مسرحية (حمودة الزاهي) وسيناريو (خوذ) لأبي شويشة المنشورتان في كتابه (نصوص درامية من التاريخ الليبي) هما جزء من تلك الفسيفساء المدونة لمشاهد الافول الانساني وهو ينحو صوب الاندثار، وذلك بتشخيصه ركحيا بوقع فلسفي يعتمد الابعاد الأنثروبولوجية والتحليق في فضاء الاحقاب السحيقة اتكاء على طقس اجواء صوفية كمظلة سوريالية عملاقة، متحررة من الزمن وغير مبالية بتهشيم قوانينه.
المكان في (حمودة الزاهي) ازيحت عنه الإكسسوارات وكاميرات الاضاءة، والديكور الذي لا يتعدى ثيابا بسيطة، أشبه بأسمال لأبطاله (الزاهي، رضا، صالح، فاطمة) ربما للوصول بالمناخات الصوفية لأقصى حدد ممكن، وفتح قوس نفسي للتأمل ينعكس في ايماءات جسدية وكذا نقلات محدودة للشخوص، وسط بيت ينتمي طرازه للقرن التاسع عشر بمنطقة الكدوة (العزيزية).
تومئ المسرحية منذ اللحظات الاولى الى صوت المواجهة بين الوثوق والاهتزاز أو لنقل الشك واليقين , بين رضا بأسئلته الريبية والزاهي بردوده الواثقة):نحن جميعا في مسرحية اسمها الحياة ) ص9 , غير أن نافذة العقل وحدها لم تكن كافية لاستكانة رضا الى مسلمة الزاهي , كما أن حدود المعرفة رسمت فارقا جوهريا بين القدرة على الاستقراء او البقاء عند عتبة الاستنتاجات الظنية , لذا يرد رضا ( هذا هراء من رحيق كتب الشرق )ص9 , في المقابل نرى صالح وفاطمة اشبه بنوابض تنعكس عليهما طاقة المناورة الحوارية لباقي المجموعة, وحتى بافتراض وجودهما جناحي امتصاص لحرارة الاشعة المنبعثة, فذلك لا يلغي وعيهما العميق بتداعيات الكشف الفلسفي وقدرتهما على المبادرة , لكن الاخيرة لم تحدث وظلت تلك الوثبة رهينة اشارة الراوي او الزاهي او طبيعة الموقف ذاته , في النهاية ينفر موقفهما التماهي لحظة بعد أخرى مع فورة الطقس الصوفي وهفوته.
وتمضي مفردات الايقاع السماوي منتشيه برغبتها اللامحدودة لتهشيم الزمن , فالحدث يتمنع الافصاح عن وقتيته ,اذ لا تبدو الحكمة معنية بالآنية بل بتمظهراتها المذهلة , فتنكمش احتياجات المشهد الى ادنى ضروراتها الفيزيائية , كالتفاتة أو تهويمه في الفراغ أو وضعية فنجان , لصالح هسيس روحي يطوف الجميع , يبدأ من احدهم لينتهي عند الاخر, لذا ليس غريبا ان تأتي التعليقات انعكاسا لذلك الشغف بالانزواء والتأمل طلبا لرؤيا داخلية , رضا اغلق باب غرفتي تهربا من الزائرين وارسم وأتطوع في الجنون ) , صالح :(الان أرى من دون عينين .. اسمع من دون أذنين) ص46,فاطمة: (نحن ما كان وما هو كائن وما قد يكون).
خلف التهويمات يختفي وميض ما يفصح عن نفسه في شكل اعتراف، يقول إن الزاهي هو الجزء الثاني من رضا او أن رضا هو الزاهي في صورته الاولى الباحثة عن الحقيقة، تداخل الازمان وامتدادها، زمن الحكاية وسالف ما حدث، تقترن بها رموز وومضات تحيلك موسيقى كلماتها الى تجليات الحلاج، فتوحات ابن عربي، وأقوال الشيخ الاسمر، كروافد تستند عليها رؤية الزاهي، ولكن كيف يمكن لهذه اللغة الصوفية ان تتشابك مع كامل اطوار المد البشري دون صراع او اشكال في فهم طبيعة الناموس الكوني وقوانينه؟ كان لا بد من حدوثه مع العرفانيين أنفسهم، ومع غيرهم من البشر، وتستمر من ذلك نظرتنا الى العالم مرتبكة وملتبسة ف (عندما نفكر بالماضي والماضي ميت، نفكر بالذكريات، وعندما نتطلع الى المستقبل والمستقبل لم يأتي بعد نفكر بالأحلام) ص12.
هذه الحلقات من علامات الاستفهام جالت في اذهان الزاهي ورضا وحتى فاطمة وصالح، ولكن بقيت بلا اجابة شافية، فظل الصراع معها ازليا ولازال، وكذا شواهد الإبراقات المضمرة في السرد الفلسفي لكشوفات المتصوفة عن عصور الخراب والمسخ ماثلة في ذهن الزاهي بأزمانه المختلفة، وهو يراها واقعا على مر العصور ولا سبيل لإيقافها.
وبلا مواربة وجب ابعاد شبح اقترابها من مراكز الثبات الروحي , والا تتسرب انساقها المرعبة حتى في شكل كلمات لأبطال عالم الزاهي , يقول رضا (انتم شجرة المسرحيات الميتة ومصيركم ,مكب الكدوة النهائي )ص146, اذ لم تكن هذه اليسارية المتطرفة الا عنما اصبح سادنا لها , فالبشر (سجناء ثلاث , دوائر أحادية المركز, الجسد ,العقل , القلب )ص12, والاطاحة بالجبروت الثلاثي , يرتهن الى التخلي (اجعل التخلي وطنك )ص16, ما يسوقنا الى بواكير مد التساؤلات وهو يتعاظم مع الزمن , لماذا كانت الخطيئة ,وكيف أصبحنا سجناها وكيف يمكن قراءتها ؟
2 تعليقات
شكرا بلد الطيوب
ورائعة هذه الإطلالة على علم ليبي مميز هو رضوان بوشيشة
وتحية للأستاذ عبدالسلام الفقهي الجاد في كتاباته وقراءاته المميزة
مشكر مرورك الكريم