النقد

مفرداتٌ شعرية.. قصائدٌ في جيبك ومعاني في قلبك

بمناسبة إصداره مجموعته المميزة  (مفردات شعرية) أهدي صديفي وأخي وأستاذي الشاعر الكبير محمد المزوغي هذه المقالة حولها، متمنياً له دوام التوفيق والتألق.

ديوان (مفردات شعرية) للشاعر محمد المزوغي
ديوان (مفردات شعرية) للشاعر محمد المزوغي

أول ما يلفت انتباهك حين تقلّبُ (مفرداتٌ شعرية) للشاعر الكبير محمد المزوغي أن حجم الكتاب لا يعكس قيمة محتواه ومضمونه الشعري. فالحجم الصغير الذي يستريح بين يديك يذكرك بكتيبات قواميس الجيب للغات الأجنبية، حيث يكون دائماً برفقتك وفي متناولك للبحث في معاني كلماته ومفرداته وترجمتها بكل سهولة وسرعة ويسر. أما المظهر الشكلي واللوني فهو يؤكد براعة الفنان محمد الخروبي في التصميم الإبداعي وربط دلالات ومعاني الأبيات الشعرية بالخطوط والرسومات والتشكيلات التي خطها بقلبه وفكره قبل قلمه ومداده، فصارت تحمل ترابطاً بين النصِّ المكتوب والصورة البصرية الإبداعية استحالت به منارات هدى وقناديل هداية، رغم سواد اللون الوحيد الذي اختاره بكل فطنة ودراية لأنه الأكثر انعكاساً ووقعاً في النفس وجاذبية للعين باعتباره سيد الألوان رغم عدم الاعتراف بتصنيفه لوناً وفق قوانين الفيزياء والطبيعة الجوية المتأسسة على سباعية قوس قزح اللونية واعتبار الأسود ماصاً لكل الألوان الأخرى.

يقول الشاعر محمد المزوغي في مقدمته القصيرة التي عنونها (البيتُ الذي يضيء القصيدة) موضحاً بأن كتابه هو (محاولةٌ لجمع ما تناثر من دواويني الشعرية مما أظن أن أغلبه يدخل تحت مسمى “قصيدة البيت الواحد”، أو البيت الذي يحمل على كتفيه حضور القصيدة، وهي محاولة لا تتكرر في كل وقت، إذ أنها نتاج تجربة تمتد عقوداً من الزمن يتسلل خلالها قليل من اللؤلؤ في أصداف القصائد ثم يجمعه الشاعر ربما في آخر العمر في فنجان مركّز من قهوة الشعر ويقدمه لأصدقاء الكلمة الشاعرة ليقول: هذا أنا في أحسن حالاتي.)

وكما نعلم فإن التجربة الشعرية لشاعرنا محمد المزوغي تتأسس على خمسة دواوين تتابعت منذ أولها (بعضُ ما خبأ الياسمين) الصادر سنة 2013م، وقد اختار منه في (مفرداتٌ شعرية) 33 ثلاثة وثلاثين بيتاً، ثم ديوانه (لا وقتَ للكُرْهِ) الصادر سنة 2017م واقتطف منه 38 ثمانية وثلاثين بيتاً، تلاه ديوانه (العارفون) الصادر سنة 2018م واختار منه 47 سبعة وأربعين بيتاً، ثم ديوانه (نوستالجيا) الصادر سنة 2020م وانتقى منه 28 ثمانية وعشرين بيتاً، وأخيراً ديوانه (مُتيّمون) الصادر سنة 2022م واختار منه 44 أربعة وأربعين بيتاً.

وخيراً فعل شاعرنا الكبير محمد المزوغي حين جمع مائةً وتسعين بيتاً من أبياته الشعرية المكثفة التي أبدعها وأسكنها مبثوتة منزرعة بين ثنايا أبيات قصائده الطوال المتعددة، وخصّها باستقلالية مميزة في كتابه (مفرداتٌ شعرية) واحتضنها بكل جدارة تحت تصنيف “قصيدة البيت الواحد”، وهو بذلك لا يجاري الأديب الكبير الدكتور خليفة التليسي في مختاراته التي جمعها في كتابه المهم الصادر بعنوان (قصيدةُ البيت الواحد) في طبعته الأولى سنة 1983م، بل يتميز عنه ويتجاوزه بتوثيقه وإهداءه المشهد الشعري أبياتٍ شعريةً ليبيةً مكثفة، تمثل نماذج ليبية لقصيدة البيت الواحد، في حين اختار الدكتور التليسي رحمه الله عدم تضمين كتابه أية نماذج من أبيات الشعر الليبي، بل والقصائد العربية الحديثة كافةً عدا بيتٍ للشاعر أحمد شوقي، رغم إشارته في مقدمة كتابه للشعراء المعاصرين “أبي القاسم الشابي” و”نزار قباني” و”أدونيس”، وهو ما يجعلنا نطرح سؤالاً مهماً حول مدى قبول ورضى الدكتور خليفة التليسي عن مستوى الشعر الليبي والعربي الحديث من حيث المضمون والصنعة الفنية؟ ولماذا لم ينتقي منه نماذج في دراسته المثيرة المهمة عن قصيدة البيت الواحد؟

إنَّ كتاب (مفردات شعرية) لشاعرنا الكبير محمد المزوغي يهدينا باقات من خلاصة خلاصته الشعرية الليبية وهي كما عبر عنها الشاعر العربي الكبير نزار قباني في مقدمة ديوانه (كتابُ الحُبِّ) الذي يصفه بأنه (محاولة لكتابة القصيدة العربية بشكل جديد، وإلباسها ثوباً عصرياً ومريحاً وعملياً، بعد أن أُرهق جسدُ القصيدة العربية طوال عصور بأثوابٍ مفرطة في طولها واتساعها ورداءة قصتها … لأن القطاع الأكبر من شعرنا العربي التقليدي استهلك من القماش اللغوي ما يكفي لكساء آل سكان الصين !!)

ويسرد الشاعر العربي نزار قباني مرجعيته في ذلك قائلاً (كنتُ أؤمنُ أنَّ الشعرَ هو خلاصةُ الخلاصة، وأنَّ أيَّ محاولةٍ من الشاعر لمطِّ صوته بطريقةٍ مسرحيةٍ، ومدِّ انفعاله على سطحٍ أوسعٍ، يخرجه من حديقة الشعر ويدخله في سراديب الثرثرة الشعرية .. الثرثرة الشعرية هي فجيعة شعرنا العربي .. ونظرةٌ واحدةٌ إلى أهراماتِ القصائدِ العربية القديمة توضّح لنا أننا تكلمنا أكثر من اللازم .. الشعرُ هو خلاصةُ الخلاصة .. كما قلت .. لذلك كان أعظم الشعراء هم أولئك الذين كتبوا بيتَ شعرٍ واحداً .. وماتوا بعد كتابته مباشرة..).

وهذا تقريباً ما صنعه شاعرنا محمد المزوغي -أطال الله عمره- حين أحس أن بعض أبياته المتفردة هي قصائد متكاملة الأركان، تزخر بالحكمة السديدة، والبلاغة المكثفة، وجرس التنبيه والتقريع الرنان بإيقاعات موسيقية وأنفاس تستوطن القلب وتحرك العقل وتهز الوجدان، وإذا كان الشعر العربي قد أزادنت دواوينه العظيمة، وأطربنا لأجيال عديدة بنماذج مكثفة الصورة البليغة مثل قول قيس بن الملوح:

 تَعَلَّقتُ لَيلى وَهيَ غِـــرٌّ صَغـــــــــيرَةٌ وَلَم يَبدُ لِلأَترابِ مِن نهدِها حَجــــمُ

 صَغيرَينِ نَرعى البَهمَ يا لَيتَ أَنَّنـا إِلى اليَومِ لَم نَكبَر وَلَم تَكبَرِ البَهمُ

فها نحن في زمننا الراهن وببلادنا ليبيا الحبيبة نجد الشاعر الكبير محمد المزوغي يبدع أشعاراً أكثر براعة، وأعمق لغة ودلالة، وأسمى حكمة وبلاغة ليتحفنا بنماذج عديدة من أبياتٍ مفردةٍ في هيكلها البنائي الفني، ولكنها جامعة للكثير من الرسائل والقيم والدلالات النبيلة. وكإشارة دالة على انتمائها لقصيدة البيت الواحد سأعرض في هذا التقديم بيتين شعريين من كل ديوان لشاعرنا محمد المزوغي وذلك بحسب تسلسل دواوينه المختارة،:

أولاً/ ديوانه (بعضُ ما خبَّأَ الياسمينُ):

 لاَ يَخْلَعُ اللَّيْلُ أَثْوَابَ الظَّلاَمِ إِذَا لَمْ       يُشْهِرِ الضَوْءَ فِي وَجْهِ الدُّجَى الفَلَقُ

 ****

 وَالحَرْفُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْناً بِأَكْمَلِهِ      فَلَيْسَ إِلاَّ سَوَاداً ضَمَّهُ الوَرَقُ

ثانياً/ ديوانه (لا وقتَ للكُرْه):

 لَمْ أَعْرِف الحِقْدَ لَمْ أَحْمِلْ حَقَيبتَهُ     وَخَاسِرٌ خَاسِرٌ فِي الحِقْدِ مَنْ رَبِحَا

 *****

 نَثَرْتُ فِي الشِّعْرِ إِحْسَاسِي     إِذَا فَقَدَ الإِحْسَاسَ شِعْرٌ فَمَزِّقْ حَرْفَهُ الكَذِبَا

ثالثاً/ ديوانه (العارفون):

 تَأْتِي بِكَ الرِّيحُ أَمْ تَمْضِي بِكَ السُّبُلُ      كُــلُّ الدُرُوبِ سَوَاءٌ حِينَ لاَ تَصِلُ

 ****

 اللهُ حُبٌّ والسُّجُودُ مَحَبَّةٌ       فَاحْفَظْ لِقَلْبِكَ مِيزَةَ الخَفَقَانِ

رابعاً/ ديوانه (نوستالجيا):

فقيرٌ أَجَلْ

لَكِنَّ قَلْبِيَ مَنْجَمٌ

وَأَبْيَاتُ شِعْرِي

فِي الدَّوَاوِينِ ثَرْوَةُ

***

أُنَادِيكَ لَو أَنِّي تَوَقَّفْتُ لَحْظَةً

أَجَابَتْ نِدَائِي

وَحْدُهَا

أَحْرُفُ النِّدَاءِ

خامساً/ ديوانه (مُتيًّمون):

لاَ حُبَّ إِنْ أَعْلَى الظَّلامُ جِدَارَهُ

فِي القَلْبِ

إِنَّ الحُبَّ إِشْرَاقَاتُ

***

الحُبُّ مِثْلَ المَاءِ

ظَالِمَةٌ إِذَا

حَبِسَتْهُ عَنْ أَفْوَاهِنَا

الغَيْمَاتُ

الصورة البصرية والقيمة التعبيرية:

برع الفنان التشكيلي محمد الخروبي في تصميم (مفردات شعرية) وفقاً لرؤيته الخاصة وفكرته الفنية الجميلة، سواء من حيث المقاس والحجم، أو باعتماده في جميع كتاباته وتصميماته وخطوطه على اللونين التوأمين المتضادين وهما الأسود والأبيض. فإذا كان الأول يحيلنا إلى الظلام والحزن والغموض فإن الثاني ينقلنا إلى النور والضياء والنقاء والصدق وغيرها من الدلالات الأخرى. وهما لونان يتعالقان مع بعضهما بشكل تكاملي ويظهران متلازمين بصور كثيرة رغم التناقض الشكلي والتعبيري بينهما، مما يمنحهما بروزاً وظهوراً بصرياً بدرجةٍ عاليةٍ من الوضوح والشفافية والجاذبية، وراحةً وانبساطاً للرائي المشاهد والقاريء.

كما أتقن في تصميمه تكوينات تناغمية شكلية لبعض المفردات اللغوية مع نطقها صوتياً بروح شاعرية مثل كلمة (أناديك) ص162 التي رسمها بحرفي الألف والكاف طويلين ممددين عالياً وكأن الرسم والتشكيل يجسد النداء الصوتي ذاته، وكذلك أظهر حرفا الألف واللام متسامقين في رسم كلمة (النخل) ص74 بينما جعل حروف كلمة (سنفترق) ص 188 متفرقة ومبتعدة عن بعضها، واستطال حرف الراء بتكراره في كلمة (تثرثررررررر) ص201 ليؤكد برسم الحرف دلالة اللفظ ومعناه. وبالإضافة إلى تلك الصنعة التشكيلية الآسرة فقد عمل على تفخيم بعض الكلمات مثل (الله) و(الحُبّ)، وإبراز البعض الأخر بخط غليظ وعريض يظهر أبيضاً في الصفحة السوداء، وأسوداً في الصفحة البيضاء، وهذه المعاكسة الضدية تبعث فيه تفاعلاً بصرياً تأملياً وجمالية مبهرة تضاف إلى ما تمنحه من تميز ووضوح وإنسيابية صورية شكلية. وبلا شك فإن دلالات جميع مظاهر هذا التنوع التشكيلي الحروفي واللوني لا تقتصر على إضفاء وإظهار البعد الجمالي للكتاب فحسب، بل يؤكد على موضوعية تعالق اللون والتشكيل مع جنس الشعر وتكوين الحرف المرئي ليكون معاضداً وداعماً له في تأدية رسالته الإنسانية النبيلة الهادفة.

أخيراً

إنَّ كتاب (مفرداتٌ شعرية) يهديك -أيها القاريء- قصائد رقيقة في جيبك، ويوطن قيماً ومعاني إنسانية في قلبك، ويبهج بصرك بتشكيلات وخطوط ورسومات فنية مبهرة، ويحرك عقلك صوب اتجاهات الحق والخير والجمال والفضيلة والمحبة، فأقبل أبيات شاعرنا الكبير محمد المزوغي متماهية في حروفيات فنانا المبدع محمد الخروبي، وأسعد بهما وأمنحهما بعضاً من وقتك، وعمّق تأملاتك الفكرية وتدبرك العقلي الموضوعي، ثم أمطر كلا المبدعين الرائعين قُبُلاً وتصفيقاً حاراً يليق بهما، عسى أن تعبق عذوبة ومضامين الشعر والفن، فتغمر فضاء الإبداع الليبي ليضوع شذاه ولا يخبو فينا أبداً.

مقالات ذات علاقة

صلاح يوسف وفوزي الشلوي.. شاعران في حكاية اوان الشدو!!

المشرف العام

ايقظت فى ذاته أسئلة الوجود أحمد إبراهيم الفقيه أكثراً شغفاً بفتنة الرواية

المشرف العام

ريما معتوق – بين الرواية الرقمية والرواية الورقية (قتيلة السابعة مساء)

أحلام عمار العيدودي

اترك تعليق