طيوب النص

د. عبد السلام ميلود العايب.. اشتـاق إلى ربه فاجتباه إليه

د. الصديق بشير نصر

من اليمين: علي كاجيجي، نور الدين امعافه، محمد الحاجي، محمد الصادق الترهوني، عبد السلام قرقوم، محمد لطفي الحواسي، الشيخ عبد السلام العايب، الصديق بشير نصر.

الموت حق، ولا يُعْرَفُ يقينٌ أشبهُ بالظنّ كالموت. فكلّ ابن آدم ينتابه شعور مبعثه الظنّ أنه لا يموت، مع أنه مدركٌ في دخيلة نفسه أنه ميّتٌ لا محالة…

والسّر في ذلك أنّ الإنسان لو فكّر في الموت كلّ لحظة لمات من فوره، ولما أقدم على عملِ شيءٍ. ولذلك قال الباري سبحانه وتعالى: (واعبد ربّك حتى يأتيَك اليقين)، وقيل: ” اليقين الموت “، فلا شكّ ولا ريب، أنه القطع بحدوثه ووقوعه عندما توشك الروح أن تفيض، ولن ينجوَ أحدٌ من براثنه. لحظة رهيبة يتمثل فيها قوله تعالى: (فكشفنا عنك غطاءَك فبصرك اليوم حديد).

مات صاحبي عبد السلام، ولسانه يلهج بذكر الله، وكأني به يقول متضرّعاً مناجياً: “إلهي، اشتقتُ إليك، فضمّني إلى جوارك، واجمعني بخير خلقك في جنانك”. وليقيني بصدق وعد الله يجيبه: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار).

في عصر الخميس الماضي الرابع من شهر مارس 2021، فاضت روح صاحبي إلى بارئها يشدها الشوق والحنين إلى خير مستقرٍّ، إن شاء الله تعالى، عند ربّ رؤوفٍ رحيم. ووري جثمانه الطاهر بعد صلاة الجمعة بمقبرة بلعيد بمنطقة عرادة سوق الجمعة. ويشاء الله أن يكون قبره بجوار امرأة  كان يعودها ويسأل عنها ويتحدث إليها وهي عجوز ضريرة، وهي والدة السيد علي دربالة. فكأنّ اللهَ أراد أن يؤنسها به في عالم البرزخ كما كان يؤنسها في الدار الفانية.

وُلِد الشيخ عبد السلام العائب في عام 1950 بمدينة يفرن، وتلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدرسة سوق الجمعة، وتلقى تعليمه المتوسط في معهد مالك بن أنس في طرابلس، ثم غادر إلى الحجاز لتلقي العلم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكان ينوي الهجرة إليها لما كان يشعر به من وطأة الاستبداد يومئذٍ، فباع مكتبته لأصدقائه ظناً منه أنه لن يعود. ومن المفارقات العجيبة أنّ الشيخ عبد السلام كان له خاتم منقوش عليه (مكتبة عبد السلام العايب)، يطبع به كلّ كتاب جديد يشتريه. ولما باع كتبه، ووقع كثيرٌ ممن اشتروها في قبضة اللجان الثورية، وزُجّ بهم في السجن، وقد لاحظوا أنّ الكتب التي صودرت منهم أغلبها ممهورة بخاتم (مكتبة عبد السلام العايب)، فقالوا: هذا رأس من الرؤوس. ولم يكن رحمه الله ممن يتعاطون السياسة، ولا ممن يتتبعون أخبارها يومئذٍ.

لم يُكتب الله له البقاء في  الحجاز، فعاد إلى الوطن بعد حصوله على درجة الليسانس في علوم الشريعة من جامعة المدينة. وكانت تلك مرحلةً علميّةً خِصْبَةً في حياته، جمعته بخيرة علماء الأمة، فتلقّى عن بعضهم العلوم الإسلامية في الجامعة، وتلقى عن بعضهم الآخر دروساً غير منتظمة. وربطته صحبة مع ثلّة من العلماء والمفكرين والدعاة الذين كان لهم أثر ظاهر في حياتنا الفكرية، أمثال: محمد قطب، وأبي الحسن الندوي، والمحدث الشهير العلامة عبد الفتاح أبي غدة  الذي كان يحرص على اقتناء مؤلفاته. وكانت أوّل مرة أتعرف على كتب أبي غدة من الشيخ عبد السلام العايب، إذ كان يعيرني أياها دونما تردد مع نذرتها يومئذٍ، وأذكر انّ نسخته من كتاب أبي غدة (الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة) ظلّت معي لسنوات، ولم أرجعها إليه إلا بعد أن غادر السجن . ومن العلماء الأفذاذ الذين اجتمع بهم وتأثر بعلمهم  وسلوكهم العلامة المربي المفسّر السوري محمد أمين المصري، وكان للشيخ عبد السلام الفضل في معرفتي بهذه الشخصية الفذة أيضاً، ولا أنسى حديثه عن دروس هذا العالم في التفسير، وكيف أنّ هذا العالم الجليل جلسّ يفسر سورة آل عمران نحو سنة في المسجد تفسيراً لم تعهده كتب التفاسير، ولم يرتح لي بال حتى وقفت على نسخة من كتاب تفسير سورة آل عمران لأمين المصري، عثرتُ عليها في مكتبة الدعوة بلندن عام 1990. وشرعت أطلب دروسه ومحاضراته الصوتية، وشدتني إليها رخامة صوته، وعمق تحليلاته، فكان وقعها على نفسي لا يختلف عن وقعها في نفس أخي عبد السلام. كانت له رحمه الله ذُرْبة في معرفة العلماء والصالحين، وحدثته مرّة عن شيخ مصري كان يستضاف أسبوعياً قبل صلاة  الجمعة على قناة MBC في السنوات الأولى من ظهورها. وقد ساءني من هذا الشيخ تملّقه للحكام وتشديده في الفتوى على الضعفاء والمساكين داعياً إياهم إلى الأخذ بالعزيمة ، وتساهله فيها مع الأنظمة المستبدة مبرراً أفعالهم باسم المصلحة، ومحسِّناً لهم الباطل، فأجابني أنه يعرفه حيث كان أستاذاً لهم في الجامعة الإسلامية بالمدينة ويدرّس مادة أصول الفقه، ونعته بأنه من المتملقين للأمراء وأصحاب النفوذ في المملكة، حتى أنه خلع عمامة الأزهر وتزيأ بزيّ أهل البلاد، ولبس عقالاً وغترة، وكان الطلبة ينعتونه من وراء ظهره بنعوت سيئة. لم يكن الشيخ عبد السلام يعرف المداهنة، وربما خلقت له هذه الخصلة بعض المشاكل، وأذكر أنه حدثني أنه في محاضرة عامة، أو في مجلس درس شاهد شيخاً مصرياً يشرح كتاباً من كتب ابن تيمية ويثني عليه، فتضايق صاحبي، ونهض سائلاً المحاضر: ألست ياشيخ مُؤلِّف كتاب (ابن تيمية  ليس سلفياً) وقد طُبع الكتاب في ليبيا؟ هل صار اليوم سلفياً لأنك بين ظهراني السلفيين؟، تمعّر وجه الرجل لأنه افتضح، فلم يجد سبيلاً إلا أن  يتجاهل سائله. كان الشيخ عبد السلام ينزعج من ذلك التلوّن الذي لا يجد له وصفاً إلا النفاق.

وشاء الله أن يعمل الشيخ عبد السلام العايب بالهيئة المشتركة للمراكز الثقافية الليبية الإماراتية التي تاسست في عام 1974 بموجب اتفاقية مبرمة بين ليبيا ودولة الإمارات لتأسيس مراكز  تقافية إسلامية في أفريقيا. وهناك اجتمع بأخصّ أصحابه الأستاذ الشهيد محمد القايد الذي اغتالته الأيدي الأثيمة في مجزرة أبي سليم. وقد شاء الله أن نتجاورَ في السكنى ثلاثتنا في حي جامع بن لامين بطرابلس، وما كنت أعرف محمداً يومئذٍ حتى عرّفني به الشيخ عبد السلام. وكنا نقضي أوقاتاً ممتعة، وهي على الأغلب في بيت عبد السلام. كانت جلساتنا أشبه ما تكون بالمناظرات العلمية، كلّ واحدٍ منّا يدفع عن رأيه باستماتة، غير أنّ المحبة كانت هي المعيار الذي نحتكم إليه إذ اشتد الخلافُ بيننا، عاملين بالقول المأثور للشافعي: “كلامي صواب يحتمل الخطأ، وكلامك خطأ يحتمل الصواب“.

في المركز الثقافي الإسلامي برواندا، عمل الشيخ معلماً ومرشداً وداعياً إلى الله مع صديقه الأثير على نفسه محمد القائد، الذي كان يومئذٍ مديراً للمركز كما أظن.

والشيخ عبد السلام العايب رجلٌ مبتلى. ابتُلي بمحنة السجن مرتين: الأولى عندما جيء به مخفوراً على متن طائرة ليبية خاصة ليِسُلَمَّ إلى الأمن الداخلي بتهمة علاقته الوطيدة بالشيخ الشهيد محمد البشتي وكان ذلك بعد عملية مداهمة جامع القصر واعتقال الشيخ وتلاميذه ومريديه والتنكيل بهم.

وقد أمضى في تلك المرة سنتين ونصف في الاعتقال، ثم أعيد إليه في الثانية عندما زجّ بصاحبه محمد القائد معه، فأمضى إحدى عشرة سنة وستة أشهر تقريباً في زنازين الإجرام، وقضى صاحبُه نحبَه في مجزرة أبي سليم الرهيبة التي أودت بحياة أكثر من ألف سجين هم من خيرة أبناء ليبيا.

كان يمضي وقته مع زملائه نزلاء الزنزانة معلماً ومرشداً. يعلمهم العربية: النحو والصرف والبلاغة، ويعلمهم علوم الحديث والفقه والسيرة.

وحدثني بأنه اجتمع بكثيرين من المعتقلين، ومنهم من نال حظاً من العلم ، ومنهم من يُدرج في عداد المثقفين ، ومنهم رجل الشارع، والطالب الذي لم يكمل دراسته بعد ولم يصب قدراً  كافياً من العلم. وكان يأخذهم بعطفه ولينه، لاسيما أولئك الذين شَدَوا شيئاً من المعرفة، ولم يتلقوا شيئاً من التربية، أو ممن كانت ثقافتهم لا تعدو سماع الأشرطة وقراءة الكتيبات. وكان يدعوهم رحمه الله إلى الانفتاح على كلّ فكر، إذ لا يخلو فكر من صواب.

كنتُ أزور أباه (الحاج ميلود) من حين إلى آخر، وهو في السجن، فلا أجد إلا رجلاً صابراً محتسباً، وكنت أعجب لهذا الأب من أين جاءه هذا الجَلَد لِيتحمل َ كلّ تلك المكاره والشدائد. كنت في بعض الأحايين أزوره برفقة صديقي نور الدين النمر لمواساته في مصيبته إذ سُجن ولدُه عبد السلام وزوج ابنته الشيخ الجليل محمد الحاراتي، فإذا به هو من يواسينا ويُخفّف عنّا وكأنه لا يُبالي بما يجري ويدور، مسلّماً أمره إلى الله. لم ألقَ الحاج ميلود رحمه الله إلا مبتسماً ضاحكاً، وكان لفرط كرمه يجبرني على البقاء لنتناول العشاء عنده، فيحدثني عن شبابه ومغامراته في الصحراء يجوبها على ظهور الشاحنات التي كان يقودها، ويحكي لي من الطرائف وعجائب المواقف التي مرّت به. حتى كان ذات يومٍ دخلت عليه فوجدته مكتئباً على غير عادته، فظننتُ أنّ شيئاً ما حدث لصديقي عبد السلام، فسألته: خيراً يا عم ميلود؟ فأجابني أنه اليوم بُعيد العصر وكان جالساً مع نفر من الجيران وقف عليهم شابٌ أرعن من اللجان الثورية وأخذ يستفز بكلامه الحاج ميلود عن السجناء الذين يصفهم بالكلاب الضالة، وهي مقولة سيدهم المفضّلة، ويحكي للحاضرين كيف كان يتسلى بتعذيبهم مع صحبٍ أوغاد مثله. وأوشك الحاج ميلود أن يضربه وهو قادر على ذلك لأنه رجلٌ شديد المراس، لولا أن حال بينه وبين ذلك الأثيم النفر الذين كانوا جالسين. وفي زيارة من الزيارات اللاحقة وجدته متهللاً منبسط الأسارير، فسألته: خيراً؟. قال: ألا تذكر ما حدثتك به عن ذلك المجرم الذي جاء يفاخر على رؤوس الأشهاد بتعذيب المعتقلين ؟ قلتُ: بلى. قال: لقد صدمت شاحنةٌ ضخمةٌ سيارتَه، وأخرجوه منها قطعاً وأشلاء. سبحانه الذي يمهل ولا يهمل!!.

خرج الشيخ عبد السلام من المعتقل الثاني بعد اثنتي عشرة سنة، دون أن يُجرى معه أي تحقيق، وليس له من تهمة إلا صلته بالشيخ الشهيد محمد البشتي. وقد انخرط في سلك التعليم قبل محنة السجن حيث عُيّن أستاذاً للغة العربية بمدرسة 11 يونيو للبنات بقرجي، وهناك ربطته صلة طيبة بصديقنا الشيخ عبد اللطيف امهلهل حيث تزاملا في المدرسة، وله معه حكايات تّذكر. وبرغم الظروف التي ألمّت به استطاع في عام 1985  الحصول على درجة الماجستير من جامعة طرابلس عن أطروحته (أصول تخريج الأسانيد).

وفي عام 2008 تحصّل على الدكتوراه عن أطروحته حول منهج البخاري في تاريخه الكبير. وعمل استاذاً بجامعة المرقب بترهونة عامي 2003 – 2005، ودرّس بجامعة طرابلس عام 1987 مادة أصول الفقه والنحو والصرف، وقام بالاشتراك مع أساتذة آخرين في وضع مناهج المعلمين لمادة التربية الإسلامية بأمانة التعليم عام 1987. وفي عام 2007 عُيّن  بكلية المعلمين بالزاوية، ثم اختير ليكون رئيساً لقسم لقسم اللغة العربية  والدراسات الإسلامية بها من شهر مارس 2008 إلى شهر أكتوبر 2010.

وله رحمه الله مع حوادث السيارات حكايات (تنذكر ولا تنعاد) على لغة أهل الشام، والله يتولاه برعايته في كلّ حادث. جاءني يوماً وأخبرني بأن الحدود الليبية التونسية قد فتحت بعد إغلاقها بسبب المناوشات السياسية بين القذافي وزين العابدين، وأنه ينتوي السفر إلى  تونس لصيانة سيارته المتهالكة (فولكس فاجن)، وطلب مني مرافقته بأسرتينا فأجبته إلى طلبه، وخرجنا في سيارتينا ولكنه تباطأ كثيراً فعدت إليه فوجدته يسير بسرعة لا تزيد عن ثلاثين كيلو متراً في الساعة، فتبيّن لي أنّ معجّل السرعات في سيارته محترق. قلتُ له لنرجع لأنك لن تصل إلى تونس وسيارتك على هذا الحال، لكنه أصر، وقال سنقطرها من الحدود إلى صفاقس. وعند الحدود فوجئنا بجماهير ضخمة تنتظر الدخول، فسألنا بعضهم كم لكم وأنتم تنتظرون الإذن بالدخول. قالوا لنا إنّ بعضهم أمضى ليلتين في الانتظار وبعضهم ثلاث ليالٍ. قلتُ لصاحبي الشيخ عبد السلام: “أمّا أنا فسأرجع، ولا يمكن أن أبيت في الفلاة، وأقضي حاجتي تحت الشجر”. اقتنع صاحبي بالرجوع. ولكن كيف وسيارته توشك ألا تتحرّك. كان معي في سيارتي البيجو 504 حبل جرّ معدني cabel  فقطرته وسرت بسرعة متوسطة، وهو مربوط إلى سيارتي، وبصحبته زوجه وابنه عبد الرحمن وابنته هاجر، وطفل صغير هو أحد إخوة زوجه. سرنا حتى بلغنا مدينة زلطن قبل الدخول إلى زوارة، ولم نلبث طويلاً حتى شعرت باضطراب سيارتي، فنظرت في المرآة فرأيت سيارة عبد السلام تطير في الهواء وتهوي منقلبة مرة أو مرتين. نزلتُ وزوجتي، ونحن في حالة ذهول، فهو حادثٌ لا ينجو منه أحد. كانت السيارة مستلقية على ظهرها والعائلة بداخلها، فأخرجناهم منها، لكننا لم نجد عبد السلام، فخُيّل إليّ أنه تحت السيارة (اللهم الطف بنا يا لطيف !!). نظرنا فإذا به قد قُذِف من نافذة السيارة بعد أن تهشم زجاجها نحو عشرين متراً، وسقط على كثيب من الرمل مغشياً عليه. حركته يمنة ويسرة فلم يتحرك، فظننتُ أنه مات. اجتمع علينا الناس من المارين، وسكبوا على وجهه الماء فانتفض، وعاد إليه وعيه. سألناه إذا كان به كسر أو جرح، فقال: الحمد لله أنا بخير.

حملناهم جميعهم إلى مستشفى زوارة، وهناك أجريت له ولزوجه الكشوفات السريعة، فتبين أن عبد السلام بخير إلا من بعض الرضوض، وأصر الأطباء على أن يمكت هو وزوجه في دار العناية مخافة أن يكونا تعرضا لنزيف داخلي، وإن كان ظاهر الحال يشير إلى سلامتهما. والله سلّم وعافى، فما رأى أحدٌ السيارة وظنّ أهلها ناجين.

وفي رواندا خرج مع صاحبه الشهيد محمد القايد، بصحبة زوجتيهما للتنزه في إحدى المناطق الجبلية، فهوت بهم السيارة من منحدر حبلي شاهق، وتعلّقت السيارة بجذع شجرة ناتئة في الجبل، ولولا لطف الله بهم لهوت سيارتهم وهم بداخلها إلى قاع ذلك المنحدر الجبلي. وظلوا عالقين داخل السيارة حتى جاءت فرق الإنقاد، وأخرجوهم وهم بداخلها بالرافعة.

وأذكر مرةً، أنه تعرّض إلى حادث  مريع آخر نجا منه بأعجوبة، وهو في طريقه إلى جامعة المرقب أو عند عودته منها. كان رحمه الله ذلك المبتلى الشاكر، وإنما يُبتلى المرء على قدر دينه. وقد جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ويُبْتَلَى الرجُلُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلِيَ على قدر دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركَه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).

كان الشيخ عبد السلام العايب رحمه الله من روّاد الصالون الأدبي الذي ينعقد في بيتي أوّل اثنين من كلّ شهر، ولم يغب عنه إلا مرة أو مرّتين، ولم يأتني مرّة إلا ويحمل إليّ كتاباً. حدثته  مرة عن شخصية رائعة لمفكر سوري متميز بكلّ معنى الكلمة، وكنت لا أتردد في اقتناء أي مؤلّف من مؤلفاته تقع عليه يداي، ففاجأني الشيخ عبد السلام أن مكتبته الخاصة تضم جميع مؤلفاته. كان ذلك المفكر هو الأستاذ جودت سعيد. وقد وضع، رحمه الله، أهم تلك المؤلفات بين يدي، وما كان يسألني أبداً متى أعيدها إليه. ظلّت كتبه في مكتبتي وكأنها لي . وقد لا يُصدّق البعض أنني كنت أذهب إلى والده الحاج ميلود، وعبد السلام في السجن، أطلب منه استعارة كتاب لا يوجد إلا في مكتبة الشيخ عبد السلام، فكان رحمه الله لا يتردد في قبول طلبي، ويقول لي: تعال ادخل إلى المكتبة وفتش عنه (براحتك)، فأنا لا أعرف. ويفتح لي المكتبة وكانت في الطابق الثاني من بيته القديم في قرجي بقرب جامع بن لامين، يتركني وحدي وينصرف ليأتيني بالشاي أو القهوة ، فاستخرج  بغيتي: كتاب (فكرة التاريخ) لكولينجوود، وكتاب (مدخل لفلسفة التاريخ) لـــ  وولش. وظلا الكتابان عندي حتى خروجه من المعتقل، فأرجعتهما إليه. كانت مكتبة الشيخ عبد السلام العايب متميزة تختلف عن مكتبات الآخرين، فهي جامعة لعلوم شتى، وكان حريصاً على اقتناء نوادر الكتب في اللغة، والفلسفة، وعلم الكلام، والأدب، والنقد. وكنا نقول: “الكتاب الذي لا تجده في المكتبة العامة قد تجده في مكتبة العايب الشخصية“.

والعجيب أنه لا ينظر في مذهب المؤلف أو فلسفته أو انتماءاته السياسية ليقتنيه، وهذا أكسبه رؤية عريضة، وعقلاً راجحاً فاجتمع له بذلك أصحاب من كلّ المدارس الفكرية، وحين أسأله عن فلان، وأنا أعرف يقيناً أنهما ليسا على هوىً واحدٍ، فيقول لي: صديق قديم. فأتساءل بلغة أهل الشام: ما الذي جمع الشامي على البغدادي؟.

لم يكن رحمه الله ممن تغريهم الأضواء،  كان رجلاً من رجال الظل على رأي أستاذنا الكبير علي مصطفى المصراتي عافاه الله من كلّ مكروه. ساهم مع صحبٍ له في تسيير قافلة الوفاء بعد الثورة لإغاثة النازحين الذين انقطعت بهم السبل. تولى في السنوات الأخيرة إدارة مدرسة الفنون والصنائع، وعمل جاهداً على إعادة مجدها القديم فتألّب عليه شذّاذ الآفاق من كلّ صوب، وفيهم من يسعى إلى تحويلها إلى مركز تجاري لينتفع بموقعها المتميز في قلب المدينة. ووقف رحمه الله حجر عثر في وجوه أولئك النفعيين الانتهازيين الذي لا يمتّون إلى هذا الوطن بصلة.

هذا هو الشيخ عبد السلام العايب كما عرفته. ولولا ضيق المقام لأطنبت في ذكر محاسنه ومناقبه، ولكن ألا يكفي أن أقول فيه: “رجل عظيم جمع من كلّ المحاسن أطيبَها، فرفع الله بها قدْرَه بين العباد، فأحبهم وأحبّوه”. كانت له قدرة فائقة في التعامل مع الأطفال، وكلما دخل إلى بيتي يسأل عن ابني أحمد ويسميه وليّ العهد، ويقرأ على أحمد من سورة القيامة قوله تعالى: (وقيل من راق). فيجيبه أحمد على الفور وهو يومئذٍ طفل صغير: “سكتة لطيفة، سكتة لطيفة”. وكان يعلّمه إياها، ويذكّره بها في كلّ زيارة. ولم ينس ذلك حتى وأحمد اليوم رجلٌ  كبير، فأطلق عليه اسم (أحمد السكتة اللطيفة).

رحم الله أخي وصديقي الشيخ عبد السلام العايب، الرجل الذي كلما أبصرته انتابني شعورٌ بالطمأنينة والرضا، وكأنه مغناطيس ينبعث منه يغمرني بالسكينة لا سيما إذا كنت متوتراً . ويخامرني اليوم إحساس بأن أمثالَ هذا الرجل قليلٌ في حياة الناس. والناسُ، كما قال المصطفى عليه السلام، كإبل المائة لا تجد فيها راحلة. فما طرقتُ بابه يوماً أعْرِضُ عليه مشكلةَ فلان إلا وهُرِع من فوره لحلها، أو للسعي في حلّها مع من يملك حلَّها. كان يحرص على جمع المال من الموسرين لمساعدة الضعفاء، والفقراء، والمعوزين، والمرضى. لم يكن رحمه الله من الأغنياء، ولكن الله رزقه القبول، فلا يقف بباب أحد يطلب العون لغيره إلا وفُتح له على مصراعيه.

رحمك الله أبا عبد الرحمن، وماذا بقي لنا من القول، إلا أن نقول مع الشاعر:

(الأمـــــرُ أعظـــمُ ممــا يزعــم البشـــرُ

لا عقـــلَ  يُدْرِكــــه كلا ولا نظـــــــــــرُ)

(فانظر بعينك أو فاغْمِض جفونَك وأحـ

 ــذَر أن تقـولَ عسى أن ينفعَ الحـــذَرُ)

(فكلُّ قولِ الــورى في جنب مـا هو في

نفسِ الحقيقــــــةِ إن iم فكّــروا هَــذَرُ)

(فاستغفــرِ اللهَ قولاً قــد نطَقــــــتَ به

فيما مضى وهو في الألواح مُستطــــرُ)

رحمك الله أبا هاجر.. كنتَ خير أخٍ وخير صديق، لا تفارقني صورتك وابتسامتك، والذكرياتُ الحِسانُ خيرُ ما يُعوّض المرءَ عن فقد الأحبة، وإن كانت تلك الذكريات تزيد النفس شجواً لا يقلل من وطأته إلا قولُه تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنّهم هم الفائزون).

رحمك الله أبا تسنيم..  ياموئل الخير والعطاء، العطاء  الذي لا يعرفه كلّ الناس، كالجوهر النفيس المستتر لا يدرك قدره إلا أفذاذ الرجال مثلك. إنّ لفراقك حُرقةً لا يُطفئها إلا يقيننا بأنك بين يدي رؤوف رحيم، وأنّك تنعم، بإذن الله في جنات الخلد مع صحبٍ لك جمعتك بهم في الدنيا الفانية أواصرُ المحبة والصدق، وجمعتك بهم كلمة التوحيد، دفاعاً عن  دين الحق غير مبدلين ولا مغيرين.

فعذراً أيها الصديق الأعز، فالخطب الجليل أضاع رشادي، ولم أُحسن أن أقول في مآثرك غير الذي قلت، ولعلي في قادم الأيام، حينما تهدأ نفسي واستجمع قواي، استدعي ذاكرتي الكليلة لعلي أكشف اللثام عن صفحاتٍ مطوية في حياتك الحافلة الغنية بكل فضل ومعروف.


#السقيفة_الليبية، 8 مارس 2021

* الصورة: من اليمين: علي كاجيجي، نور الدين امعافه، محمد الحاجي، محمد الصادق الترهوني، عبد السلام قرقوم، محمد لطفي الحواسي، الشيخ عبد السلام العايب، الصديق بشير نصر.

مقالات ذات علاقة

انطلاق الفعاليات المصاحبة لمؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب

المشرف العام

أنا البحرُ ..

جمعة الفاخري

اخصوا الرجولة .. احرقوا السلاح

خالد الجربوعي

اترك تعليق