وُلِدَ “صالح السَّیِّد صالح” عام (1911م) من رَحِم المعانة، وُلِد عندما تفشَّى الانحطاط الأخلاقيُّ بين الدُّول العُظمى، عندما احتكم العالم إلى قانون الغاب، عندما افترس القويُّ الضعيف، والكبير الصغير دون رحمة، صارت أرواح البشر لا تساوي عشرين سنتًا، تزهق حرقًا، شنقًا، جوعًا، رشًّا بالمبيدات كالحشرات، والغازات القاتلة، رمیھم من على الطائرات؛ كي يستمتعوا ويروحوا على أنفسهم جنود الدول العُظمى، نعم ولد عندما ترك العالمُ العقلَ، واحتكم للشيطان، وانتُزِعت الإنسانية، ومات الضمير، ونضبت الرَّحمة من قلوبهم، بات المنتصرُ یحكم كأنه الإله على الأرض، یحیي ویمیت أُممًا بأكملھا، نعم تحول المنتصر إلى وحشٍ كاسرٍ متعطِّش دائمًا لسفك الدِّماء؛ دماء الأبریاء العُزَّل، لا لشيء إلاَّ إنھم دافعوا عن حقِّھم في الحیاة، دافعوا عن حقِّھم في العیش بكرامة وعزَّة، فوق الأرض، وتحت السماء، لكن الذِّئاب البشریَّة أبَتْ ذلك لھم، كیف لشعبٍ بسیطٍ طیبٍ، ینعم بملیون وسبعمائة كیلومتر مربع، وألف وتسعمائة كیلو تطلُّ على البحر، والأراضي زراعیَّة، وأودیة، وجبال، وصحراء، وكنوز مدفونة تحت أرضھا لا حصر لھا؟. دفعھم الحسد، والجشع، والكُره، إلى ارتكاب أبشع جریمة، دونت في التَّاریخ.
زھقت أرواحھم، واغتُصِبت نساؤھم، وقتِّلَ شیوخھم، ونُكِّلَ ویُتِّمَ أطفالھم، واستُبیحت أرضھم. ولد ولیبیا تقارع أعتى عدوان عرفتھ البشریَّة، بل أعتى استعمار على الإطلاق، فاق التتار في الھمجیَّة والعنجھیَّة، جاء من بعیدٍ یحمل الموت لا الحیاة المزعومة، یحمل الدَّمار، والطَّاعون، والجوع، لا كما یدَّعي أنھ یحمل التَّعلیم والصِّحَّة للشَّعب البسیط. جاء عابرَ البحار، في بواخرَ لا حصر لھا، وطائراتٍ تُحلِّق للمرة الأولى فوق ھذه الأرض الطَّاھرة.
دكُّوا الحصون الآمنة، والمُدن المطمئنة، مَن جاء یحمل كلَّ ھذا العتاد، المدافع، والدبَّابات، والصَّواریخ، ھل یعقل أنھ قادم للبناء، للزِّراعة، للصِّناعة؟! لا، وألف لا، بل یُریدھا أرضًا بلا سُكَّان، یُرید أرضًا محروقةً؛ كي یستصلِحَھا ویعیشَ بھا قریرَ العین.
ھیھاتَ أن یرضخ ھذا الشَّعبُ الأصیل! الشَّعبُ الطیِّبُ، ذو التَّاریخ المُوغل في القِدَمِ، في العراقة، في الحضارة، في البسالة، ھل سوَّلت لھم أنفُسُھم غیر ذلك؟ ھل كان في اعتقادھم أن یستقبلوا غازيَ أرضھم بالزُّھور؟ إذًا، لَمْ یدرس الغازي تاریخ ھذه البقعة من الأرض جیِّدًا، لم یَعِ أنَّ شعوب ھذه الأرض استعان بھم “فرعون” كي یوطِّد حُكْمَھُ، وكانوا نعم العون لھ، لم یَعِ ھذا الغازي أن ھذا الشعب لقَّن أمریكا درسًا لن تنساه، عندما أسر أكبر سفینة بجندھا وضُبَّاطھا، وجاءت أمریكا مذعنةً لمَا أملاه علیھا ھذا الشَّعب المغوار.
لو درسوا لأدركوا أنَّ ھذا الشعب لا یوجد في قاموسه كلمة استسلام، أو انبطاح، أو خنوع، أو تفریط في حبَّةٍ واحدة من ھذا الثَّرى الأغلى من نفوسھم.
كان السَّیِّد ینتظر قدوم “صالح” على أحر من الجمر، قدومه یعني استمرار نسل الأُسرة الذي كاد یندثر. سیِّد وحید والده، أنجبھ وھو في الستین من عمره، والیوم سیِّد ینتظر قدوم “صالح” وھو ابن الأربعین، فرحتھ وفرحة والده لا تُقدَّر بثمن، ینتظر ھذا الیوم منذ عشرین عامًا زواج، حتَّى تسلل الیأس إلى قلبھ وقلب زوجته. كان صالح الجد، رجلاً طیِّبَ المعشر، دمث الأخلاق، بشوش الوجه رغم التجاعید الكثیرة، التي تدلُّ على التِّسعة والثَّمانین عامًا التي عاشھا على وجه الأرض، یُحبُّ الخیر للجمیع، ویُحبُّھ كلُّ أھل “النجع”، كریمًا یساعد كلَّ محتاج، حتى إنَّھ حفر بئرًا وجعلھا سبیلاً في طریق حُجَّاج بیت الله الحرام، یتفقَّد الیتیم، ویعود المریض، ولا یترك واجبًا لأھل “النجع” إلاَّ وتجده الأول في تنفیذه.
كان كلَّ ما یتمنَّاه رؤیةُ حفید له قبل مفارقة الحیاة، یدعو الله في الصَّباح وفي المساء أن یرزقَ ابنَهُ بطفل، ذھب إلى الأولیاء الصَّالحین الأحیاء والأموات، حمل الھداية، ونحر الإبل والظَّان، ودَّع عند كل الأضرحة، أوصى كلَّ قافلة تنوي السفر إلى بیت الله الحرام بالدُّعاء لابنه، لم یغفل حكیمًا أو ساحرًا إلاَّ وقصده، وسبحان الله! عندما استسلم للیأس، شرع في تجھیز مثواه الأخیر، اختار مكانًا بالقرب من أبیھ، فوجد الأرض صخریة، اختار رقعةً بالقرب من قبر جدِّه، ما إن ضرب بالفأس ضربةً واحدة ً حتى سمع نفس الصوت الذي سمعه عند قبر أبیه، رمى بالفأس بكلِّ قوته، وجلس بجوار قبر والده، وتعلو وجھه كآبة، جال ببصره بین القبور، ثم رفع بصره للسَّماء، وقال مناجیًا ربَّھُ:
یا ربِّ، أنت تعلم طوال حیاتي لم أعصِكَ مرةً واحدةً، بل كنتُ أأتمرُ بأمرك، وأجتنب نواھیك، كنتُ طامعًا یا ربِّ في عفوك، ورزقك ورحمتك، تمنَّیتُ رؤیة حفیدي قبل وفاتي، یا ربِّ، أنت تعلم أن بعض الأقارب یسخرون منِّي، ویردِّدُون: “بیت رجال ولا بیت مال”، یا ربِّ رغم زواجي من أربع نساء، حتى صاروا ینادونني: “العاقر”، ولم أُبالِ حینھا؛ كنتُ في سنِّ الشَّباب، ولمَّا بلغتُ من العُمُر عتِیًّا رزقتني بالسَّیِّد، فرحتُ به فرحًا شدیدًا، وعقرتُ لوجھك الكریم عشرین كبشًا، لحجاج بیتك الحرام، وأجھش باكیًا، لك الحمد یا ربِّ على كلِّ نعمة أسدیت بھا عليَّ.
وعندما تملك نفسه قال بصوت مسموع: یا ربِّ.
وقف وحمل الفأس على ظھره وقال: یبدو أ َّن َّ الأرض ترفضني، أما إن الحیاة تنادیني (أو أنَّ الحیاة تُنادیني)، وقال: الأفضل أن أبحث لي عن قبرٍ بالقرب من أُمِّي، وقف عند قبرھا وقرأ لھا الفاتحة، واستأذنھا وجاء على جانب القبر من الیمین وھوى بالفأس، فسمع خلفه صوت شخص یركض ویصرخ، التفت، إذا به السیِّد یركض بكلِّ قوته ویصرخ: یا حاج یا “باتي”.
تفاجأ من ركض ابنه بھذه الطریقة، لا یضع على رأسه” الشنه” ولا یرتدي “الفرملة”، حافيَ القدمین، وصل إلیھ یلھث: یا حاج… یا حاج. أمسكه من كتفه: ما بك؟