ربما اول ما يجذب القارئ لرواية “اغتصاب محظية” للروائية الليبية عائشة الأصفر هو اسمها الملفت الذي يثير في الذهن عدة أسئلة عن فحواها.
فاسم محظية المقترن بعنوان الرواية يحمل معنى الامرأةٌ التي تُفضَّل على غيرها في المحبَّة وبالأخصّ عند أمير أو مَلِك أو رَجُلٍ ذي سلطان، ولطالما كانت المرأة المحظية في التاريخ العربي هي العشيقة، ولكنها في الرواية هنا هي أبنة أمير وزوجة حاكم البلاد.
اقتران اسم محظية بفعل الاغتصاب يجعل ذهن القارئ يتخيل بأن محتوى وفحوى الرواية يدور حول جريمة جنسية يحدث فيها فعل اغتصاب لبطلة الرواية “محظية”، ولكن ما أن نتوغل بقراءة الرواية سنكتشف بأن العنوان رمزي وبه إسقاط قصدته الروائية باختيارها له بهذا الشكل الصادم للقارئ لأول وهلة.
تبدأ الرواية بحديث لصوت الراوي الذي يتحدث عن نفسه وعن ولادته وعلاقته بالآخرين، ونمضي قليلا في القراءة لنكتشف أن صوت الراوي المتحدث هو أصبع وليس شخصية من لحم ودم
وبأسلوب فانتازي تحملنا الروائية إلى عالم وحياة الأصبع الذى تطلق عليه اسم زايد ، وهو الأصبع السادس في يد شخصية “ابوستة” الذى تفرد الروائية مساحة لسرد حكايته مع الأصبع ومحظية والأمير حيث يختلط الواقع بالخيال في سرد القسم الأول من الرواية التي تتحدث بصوت الراوي “الأصبع زايد”، الذى هو في الحقيقة ليس إلا الأخ التوأم “لابوستة” الذى لم يسمح له بالتحقق والخروج للحياة من رحم أمهما ،وتحول إلى أصبع سادس في يده ، حيث بدا كجاسوس على أخوه حيث يشاهد كل تفاصيل حياته اليومية حتى الحميمية بفراش زوجته وحين يضيق بوستة من اصبعه ويشعر بالحرج من وجوده بيده امام زوجته محظية يقوم ببتره لينمو الأصبع في حوض مائي ثم يتحول إلى شجرة أصابع وتتقافز الفانتازيا عبر صور متعددة من خلال أصبع زايد وحكاياته وروايته للأحداث حوله ومحبته لمحظية التي تزوجها شقيقه “بوستة” بعد أن قتل والدها الأمير، وفى تفاصيل بارقة يلوح زمن القص بأنه في زمن الاستعمار الإيطالي ، حيث يبدو الأمير وكأنه اسقاط على شخصية الأمير إدريس السنوسي ومحظية التي لم تنجب” لأبو ستة ” الأبن وكأنها ترمز لليبيا التي غدت محظية ورهينة “بوستة” الذى يغتصب خيراتها ويستولى على كل الأراضي والكروم وبيت الأمير الذى غدر به وقتله و استولى علي حكم البلاد وعلى ابنته محظية بالزواج
فتبدو محظية وكأنها اسقاط على ليبيا التي يتوالى عليها المغتصبون لأرضها وخيراتها وتعذيب شعبها وقهره بالظلم والسجون وكبت الحريات.
تتدخل الصور عبر فضاء الفانتازيا الروائية في القسم الأول من الرواية ثم يكشف لنا القسم الثاني بأن كل تلك الحكاية التي رحلت بنا بين بيت ابوستة ومحظية والأصبع زايد ليست إلا هلوسات في عقل شخصية بطل الرواية الرئيسي زايد الذي وقع ضحية تفجير بمقر عمله بالشركة وبقي مصلوبا على نافذة مكتبه إلى حين حضور سيارة الاسعاف التي حملته للمستشفى ليدخل في عالم فنتازيا الأحلام التي تختلط بها صورة حبيبته الجليلة بمحظية التي تغزو أحلامه وهذياناته.
في الجزء الثاني من الرواية يدخل السرد في عالم أكثر اتساق ورسم واضح للشخصيات وللزمن حيث تنتقل الرواية لزمن آخر هو زمن جهاز المحمول والفيلات الفخمة التي تم بناؤها بعد هجر شوارع المدينة القديمة التي سكنها المهاجرين غير الشرعيين وانتشرت فيها الجريمة والمخدرات والسطو المسلح
وتدور احداث القسم الثاني من الرواية في شركة الاستثمار التي يعمل بها بطل الرواية زايد الذى ترك عالم الصحافة بعد ان اقفلت الدولة صحيفته وانتقل للعمل في شركة استثمارية يكتشف من خلالها عالم الوساطة ولعبة المصالح ، وفيما تستمر زميلته في الجامعة والفتاة التي احبها في المضي بعالم الصحافة وكتابة مقالاتها النارية عن الفساد والمفسدين، يختار هو طريق السلامة والمال وتحدث بينهما حوارات ونقاشات عن الطريق الذى اتخذه كل واحد منهما بأسلوب فلسفي كثيرا ما تحيل إلى مناقشاتهما في الجامعة حين كانا يشاركان في المحاضرات التثقيفية بالجامعة .
وتمضى الرواية في سرد قصة حياة زايد باللحى الذي نشأ به وتبدو صورة شخصية جليلة شبيهة بصورة محظية التي تزوره بأحلامه طيلة وجوده بالمستشفى.
تختلط الصور والشخصيات في عقل وفكر بطل الرواية ولكن تبقى الجليلة هي الحقيقة الراسخة التي يراها أمامه وتتجسد حضوريا في ايامه بأفكارها ومقالاتها وجرأتها وشجاعتها ، وتختم الرواية بنهاية مفتوحة بعد التفجير الكبير الذى دمر الشركة الاستثمارية وحولها إلى حطام في رمزية لانفجار الفساد ،بصوت الممرضة وهى تخبر بطل الرواية “زايد” بأن كل ما يتحدث عنه من حكايات وقصص عن بوستة ومحظية وحضور الجليلة ليس إلا هلوسات وهذيان نتيجة إصابته بالتفجير ووجوده بالمستشفى وهكذا تنتهى الرواية بشكل موازى مع الفانتازيا التي تداخلت مع الصور السيريالية طيلة تفاصيل السرد بالرواية التي نكتشف من خلالها أن للاغتصاب وجوه كثيرة فليس الجسد الأنثوي فقط من يتم اغتصابه بل أن البلدان أيضا تغتصب حين يستولى عليها حكام ظالمين يسومون أهلها سوء العذاب والظلم ولعل محظية في الرواية هي وجه ليبيا المغدورة التي يتوالى انتهاك روحها قبل جسدها عبر الأزمان والعهود.