سرد

رواية الفندق الجديد – الفصل الرابع

 عائلة الأستاذ فوزي

من أعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني
من أعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني


من خلال نظرة وحيدة لكنها كانت ثاقبة جدا، وجهها (الحاج أنور) إلى القابعين في صالة الاستقبال بفندقه الجديد مع ابنه (أحمد)، أيقن أن الأمر جسيم والخطب جلل.

وبسرعة أبدي عدم الاكتراث وقدم كلمات الترحاب للضيوف المتعبين والمرهقين قائلا ً:

يا ميه أهلا وسهلا بأهلي وعزوتي وناسي.

…كانت العائلة الضيف منهكة جدا حينها، لدرجة أن أجسادهم قد التصقت ببعضها البعض من جراء الخوف والبرد الذي اعتراهم، كانت تصطاف بقربهم عددا من حقائب الملابس أو السفر كذلك.

الابن وشقيقاته الثلاث، كنَ في ربيع العمر، ويجلسن حول جدتهن الطاعنة في السن والتي كانت ممسكة بمسبحة، وتتمتم بكلمات الاستغفار والحمد، وبقربهن أيضا كانت والدتهن، وهي سيدة أربعينية تظهر على ملامحها سمات الجمال وصفات قوة الشخصية، كانت مُمسكة بمصحف صغير وترتل الآيات بصوت منخفض واهن، الكل كان ينتظر عودة (الحاج أنور).

… وعلى الفور أيقن (الحاج أنور) إنها (الأستاذة حورية) زوجة صديقه (الأستاذ فوزي) وبناتها (نسرين وريحان وياسمين) والجدة (مبروكة)، لطالما استقبلته بغاية اللطف والكرم، حين كان يأتي لزيارة صديقه لاستشارته في إقامة أحد المشاريع التجارية.

تنبه (الحاج أنور) أن الأمر في منتهي الخطورة، حين لمح شقيقة صديقه (الأستاذ فوزي)، وكان أسمها (ماجدة) والتي كانت حاضرة كذلك، لكنه لم ينتبه أن (مصباح) قد تعرف على (سند)، فهو نفس الشاب الذي أنزلوا والده أمامه واقتادوه.

كانت (ماجدة )، تلك المرأة الصلبة الجلف، التي طالما ساندت (القذافي ) طيلة سنوات حكمه في توجهاته، وعاقبت معارضيه، وجندت الكثير من فتيات المدارس في الخدمة العسكرية النسائية في ما كان يسمي ب ( مشروع تمكين المرأة )، أبان دولة الجماهيرية، والتي بدأت ملامح انهيارها تلوح في الأفق هذه الأيام، فتوجس شراً من قدومها، وتواجدها مع عائلة صديقه اللطيفة، لقد أيقن أن كل أفراد هذه العائلة الصديقة، قد لجاءا إليه، فيما عدا (الأستاذ فوزي )، ذلك الإنسان النزيه، وأبنه المغامر(خالد ) والذي كان علي خلاف مع أبيه وعمته بسبب علاقتهم الوطيدة مع ( القذافي ).

 وبعد أن أعطي تعليماته إلى (مصباح) وأبنه (أحمد) بوجوب الاهتمام بـ (المسكين علي)، وإيصاله إلى الغرفة الداخلية في الطابق السفلي من البدروم، والحفاظ علي سرية سبب قدوم العائلة، توجه (الحاج أنور) إلى صالة الاستقبال مُمسكاً بالرسالة التي قدمها إليه، (سند) ابن (الأستاذ فوزي).

كان (الحاج أنور) يعرف كل شيء عن طبيعة حياة أفراد عائلة صديقه (الأستاذ فوزي)، قبل اندلاع احتجاجات فبراير، لكنه غفل وأنشغل عن زيارتهم هذه الأيام.

رحب بالجميع من جديد، فأشارت إليه (ماجدة) بإيماءات وجهها وحركة يدها الصلبة أن يقرأ محتوي الرسالة قبل أن يتجه معهم في فتح أي موضوع يعتقد أنه هو الموضوع الأهم.

فتح الرسالة فبدأت ملامح (الحاج أنور) تتبدل وتنقلب إلى الكآبة والحزن

لقد كانت الرسالة مكتوبة بخط يد (الأستاذ فوزي)، والذي أتضح من فحواها أنه يقبع في أحد سجون (المجلس الانتقالي).

كانت الرسالة تقول:

بسم الله الرحمن الرحيم

صديقي وصديق العائلة العزيز الحاج أنور.

بعد التحية،

من هنا من خلف قضبان السجن، أود أن أخبرك أني بحالتي الغير جيدة وصحتي التي تسوء يوما بعد آخر، من جراء كثرة الأسئلة الموجهة لي من طرف المحققين، أنا لست مذنب البتة، فأنا إنسان وطني، عملت بجد وإخلاص تحت إدارة حكومية جيدة، هم يعتبرونها إدارة فوضوية ظالمة، أما أنا فأعتبرها، وسيلة بررتها غاية.

التحقيق على مدار الساعة، الأسئلة كثيرة، لا تُعد، ولا تحصي، اعتقد أني سأسرد لهم من جراء التحقيق الممل معي، سأسرد لهم تاريخ القذافي عبر علاقتي معه طيلة العقود الأربعة السابقة.

صديقي العزيز،

لجأت إليك لأني أعلم أنك ذاك الإنسان المحبوب البسيط، والذي يعرفه سكان مدينتي بنغازي، أنك لم تهتم بالعمل السياسي الليبي يوماً، ديدنك إقامة المشاريع والمساهمة في بناء الوطن بُحسن إدارتك للمال الحلال الذي، أهنئك كونك قد جمعته بحكمتك وبعرق جبينك، وبفضل تربيتك وأصلك الطيب.

لجأت إليك لتقوم برعاية عائلتي وبناتي فلذات كبدي، فأرجو منك أن تستوعب الأمر وتأويهم في الفندق بشكل سري، وأنت الأدري بتفاصيل الإخفاء، قل لمن حولك أنهم أبنائك.

أرغب كذلك أن تقوم بمساعدة شقيقتي المتهورة (ماجدة)، ساعدها في الهرب إلى جمهورية مصر العربية، وكذلك إبني الطائش (خالد)، أرسله إلى مالطا أو إيطاليا، فأنت تعلم أنه على عداوة معلنة مع شقيقتي (ماجدة) والتي سوف تضع تحت تصرفك الملايين لتنفيذ هذه المهام، فعملية تهريبها، قد تتطلب شبكة دولية كونها من أفراد النظام المغضوب عليه وهي مطلوبة للعقاب، جراء ما اقترفته من رعونة طيلة سنوات حكم (القذافي).

أما أنا فأمري يسير برتابة، وتستطيع التدخل بدفع مبلغاً لا يتجاوز أثنين مليون دينارا، ستوفرها لك (زوجتي حورية)، متي حان وقت تقديمها إلى حكومة الثوار، قدمها تحت إطار دعم الثورة، وإقناع الفاعلين فيها، بأني لست سوي عبداً مأمور وعاملاً في منظومة عمل تطبق طريقة حكم (القذافي) ليس إلا.

أحييك وأتمنى لك التوفيق والسلام


 صديقك

فوزي عبد الصمد

.

أكمل (الحاج أنور) بسرعة قراءة الرسالة الخطيرة، وصمت برهة ثم تظاهر أمام الجميع بعدم الاكتراث من جديد، وقام باستدعاء (مصباح) إلى مكتبه، ليطلب منه الحضور إلى الفندق بشكل يومي، وبحسب جدول زمني معين، بعد أن تيقن أن (مصباح) صادق في المحافظة على الأمر البالغ الخطورة، جراء قدوم العائلة الضيف.

وبعد أن خرج (مصباح) مغادرا للفندق، طلب (الحاج أنور) من إبنه الحضور إليه في مكتبه كذلك، ليوصيه بعدم التحدث عن إي معلومات عن عائلة صديقه (الأستاذ فوزي)، وأنه سيكون هو الشخص الوحيد الذي سيتعامل معهم في توفير احتياجاتهم، وأن الطابق الرابع بأكمله سيكون محل إقامتهم المؤقت.

…. وعلي الفور خرج من مكتبه ليخبر العائلة بمحل أقامتهم وأوصاهم بعدم الاكتراث والقلق.

ثم أمر أبنه (أحمد) بنقل الأمتعة إلى الطابق الرابع، وأثناء مغادرتهم الصالة في اتجاه السلالم، توجه (أحمد) إلى (نسرين) بنظرة تعاطف وإعجاب.

… أما الحاج أنور فالتقت عيناه بعيون (ماجدة)، فمرر لها ابتسامة ونظرة، طمنها من خلالها أن الأمور ستكون على ما يرام قائلاً:

 أني سأنجز المهمة في مدي لا تتعدي الثلاثة أيام، وأنها ستكون بخير في القاهرة إن شاء الله قبل نهاية هذا الأسبوع، وطلب منها ألا تقلق أو تنزعج أبداً.

عاد (الحاج أنور) إلى مكتبه وأخرج جهاز الكمبيوتر المحمول وشغل منظومة الانترنيت، ليبدأ في التواصل مع أصدقائه القاطنين على الحدود الليبية المصرية لتأمين خروج (ماجدة) ومن ثمة، شقيقها (خالد) إلى جزيرة مالطا.

قام (الحاج أنور) على الفور بإرسال بعض الرسائل إلى بعض من أصدقائه الموثوق بهم من تجار ورجال أعمال في المنطقة الحدودية (أمساعد) وما جاورها، ثم اطفي الجهاز، ومن ثمة اطفي نور المكتب وبعض من أضواء الفندق وأنسحب إلى حجرته في الطابق الأول ليحظى بقليل من نعمة النوم.

 في صباح اليوم التالي تحصل (الحاج أنور) على بعض الاستجابات والتي أتته من أصدقاء هنا وهناك، عن طريق مراجعته لبريده الالكتروني.

أفضل العروض كانت مقدمة من طرف صديقه (حمدي سعيد)، لكنه طلب مبلغا كبيرا وصل إلى المليون دينار ليبي، مقابل إتمام عمليه التهريب المزمعة، وأشترط أن يتم تسليمها له في مدينة (أمساعد) الحدودية، وأكد بأن لن يكون له أي شأن في تفاصيل أي عملية تسبق وصول (السيدة) إلى مدينة (أمساعد) الحدودية، وهو بنفسه سيتكفل بإتمام عملية نقلها وتأمين دخولها حتى مدينة (القاهرة) المصرية.

أستبشر (الحاج أنور) خيرا وكأن الهم الذي اعتراه من جراء وجود (ماجدة) بين أفراد عائلة صديقه، بفندقه الجديد قد بدأ ينزاح، لكنه لم يتحصل على ردود حول تأمين نقل (خالد) إلى مالطا.

وفي صباح اليوم التالي وعند الساعة الحادية عشر تحديداً أستطاع أن يحسم جدلية تفكيره وأن يختار طريقة لنقل (ماجدة) من مدينة (بنغازي) إلى مدينة (إمساعد).

لقد كان لدي (الحاج أنور) أصدقاء كُثر كان أغلبهم من جمهورية مصر العربية، كان بعضهم يمتهن مهنة البناء والتشييد، والبعض الآخر كان من تجار الخضروات، أما البقية فكانوا يمتهنون صيد الأسماك ويعتلون البحار عن طريق الجرافات المستخدمة لصيد الأسماك تلك السنوات.

أتصل بصديقه تاجر الأسماك (خليل)، وأخبره بالأمر، فطلب (خليل) من (الحاج أنور)، أن يمهله بعض السويعات ليرتب الأمر، وفي المساء سيخبره بموافقته بإتمام عملية التهريب من عدمها.

وبعد أن أكمل إجراء مكالمته الهاتفية مع صديقه (خليل) توجه إلى مكتب الاستقبال ليدير جهاز الهاتف الأرضي، وليستدعي (ماجدة) في مكتبه، فأخبرها عما تم التوصل إليه من ترتيبات في سبيل نقلها للقاهرة دون أن يهمل قيمة المبلغ المالي المطلوب والمتوقع.

وفي الحوار أوضحت (ماجدة)، أن المال لا يهما البتة، لكن همها ألا تقع في إيدي الثوار، ولن تمكنهم، من الإمساك بها للانتقام منها، فهي تعلم أن تاريخها كان حافل بالرعونة والتهور.

…لكنها تعجز عن إقناع ابن شقيقها المدعو (خالد) بفكرة الهروب، حتى أنها لم تراه منذ وصولهم إلى هذا الفندق، فقد غادرهم بمجرد استكمال نقل الأمتعة مع العائلة، كونه يكره حتى التواجد بقربها.

مضي الوقت رتيباً في الفندق الجديد، حتى حلت ساعات المغيب، وإذ بهاتف (الحاج أنور) يعلن عن وجود اتصال من طرف تاجر السمك (خليل)، ليخبره بموافقته على إجراء عملية التهريب نظير مبلغاً ماليا يصل إلى مليوني دينار ليبيا، ستوزع في حقائب وتوضع في عدد من الأكياس بمراكب الصيد المنتظرة في (البنكينة) الواقعة بمنطقة جليانة عند ساعات الفجر الأولي من صباح الغد حسب الاتفاق.

أما السيدة المراد ترحيلها، فسيتم أخذها، بعد منتصف ليلة الغد من الفندق الجديد، بعيدا عن الأعين إلى البنكينة، وسيتم نقلها مباشرة إلى مدينة (أمساعد) عبر إحدي جرافات صيد السمك المنتظرة.

في هذا الأثناء وبينما (الحاج أنور) منهمكاً في تفقد طوابق وغرف الفندق إذ به يلمح (خالد) الابن الغير مفضل لـ (لأستاذ فوزي)، يلج لعتبات الفندق محاولاً إخفاء بندقية نوع (كلاشن كوف) من طراز رفيع جداً، تُعرف لدي الليبيين العاميين بالــ (مطوية).

ولكنه يصطدم بوجود (الحاج أنور) أمامه، فيرتبك، ويقدم اعتذاره وأسفه عما يحدث من فوضي في المدينة ويبرر وجوده ووجود عائلته بالفندق، وكذلك لحمله للبندقية التي يستخدمها لضمان حالة الدفاع عن حياته وعن حياة أهله.

لكن (الحاج أنور) يتمتع بشخصية حكيمة فبادره بالترحيب ويخبره بوجود العائلة في الحفظ والصون بين أركان الفندق، وينبهه بأن الوقت قد لايسعفه في تجهيز نفسه والاستعداد للرحيل إلى مالطا، فقد أجري عديد الاتصالات بشأن تأمين رحيله، وينتظر الرد يأتيه في أي لحظة.

وتزداد حكمة (الحاج أنور) حيث تعمد عدم البوح لـ (خالد) عن ترتيبات ترحيل عمته (ماجدة) التي تستعد للمغادرة إلي حيث ترسو جرافة صيد السمك، وهي تخص أحد أصدقائه الموثوق بهم لنقلها إلى مدينة (إمساعد الحدودية).

وطلب منه تجهيز نفسه استعدادا للرحيل هو الآخر، فأشار (خالد) بالموافقة، وأستأذن (الحاج أنور) للصعود إلي حيث تمكث أفراد عائلته، ليجلس معهم قليلا ثم يهبط مع حقائب الأموال المطلوبة لتأمين العملية.

وجرت الأمور كما خطط لها (الحاج أنور) وقام بإيصال نصف المبلغ ووضعها في قوارب الصيد حسب تعليمات صديقه تأجر السمك (خليل).

ثم قام بإيصال (ماجدة)، إلى جرافة الصيد المنتظرة، ولم يغادر (الحاج أنور) المرفأ، حتى تأكد من مغادرة الجرافة للميناء بسلام في إتجاه مدينة إ مساعد الحدودية.

وبينما هم يؤمنان رحيل العمة ماجدة، إذ بـ خالد) يلمح جرافة للثوار تجهز نفسها للإبحار إلى مدينة مصراتة حاملة على متنها صناديق الذخيرة والمؤن وتكاد تخلوا من البحارة، ودون أن يستشير أحد نسل إليها قافزا بخفة ومودعاً (الحاج أنور)، دون أن يراه البحارة.

مقالات ذات علاقة

رحله الى اسطنبول

سالم الكبتي

شفرة لوتوفاجي (6)

علي باني

تخمين؟

المشرف العام

اترك تعليق