يتجه الكاتب والباحث عمار جحيدر في مؤلفه (التليسي مؤرخا ) الصادر عن دار الفرجاني، الى رصد ملامح المنجز التاريخي في كتابات الشاعر والموسوعي محمد خليفة التليسي، والتي يتشابك فيها نتاجه الادبي بالتاريخي، وبذا فالرصد من هذه الزاوية يقتضي تبويبا لهذا المنحى لا يروم الى الفصل الكامل عن السياقين، فهما متسربان وذائبان في حبر التليسي نفسه وليس في تكوينه فقط، ولأن الاديب الراحل يجهد أحيانا في جعل احدهما يطفو بارزا على ضفة البحث بغية النحت في تفاصيل تعبر عن رؤياه الخاصة حول فكر ة أو قضية أو موقف أو تقديم وجهة نظر، سعى الباحث عمار حيدر لاستظهار الخصوصية التاريخية ووضعها تحت مجهر التحليل وتبيان ارتدادات هذه الرؤيا في أعمال المفكر الراحل من خلال الفصول الخمسة في الكتاب.
وهوما استلزم من المؤلف في مطبوعة عبر350 صفحة للوصل بين المخارج والمداخل الى مثلث الافاق البحثية بمنهج الموسوعي الراحل في التأليف والتحقيق والترجمة، وكذا جدولة الزمان والمكان والخصائص المساهمة في صقل شخصيته، اضافة الى للوقوف على محيط الدائرة الكبرى من اسماء مجايليه المصنفين زمنيا بين الحربين، كعلي مصطفى المصراتي، محمد مصطفى بازامه، مصطفى عبد الله بعيو، ومع خليفة محمد التليسي المولود 1930 تكون هذه الرباعية قد اكتملت مضافا اليها تقاطع اهتماماتها في مسألة البحث التاريخي، وان كان بنسب متفاوتة تخضع لميولهم الكامل والجزئي بالخصوص.
وتأتي شخصية الكتاب هنا في فلاش تعريفي مكمل كثبت ختامي للمجموعة، شخصية اعتمدت على تكوينها الذاتي، ولم يلتحق بالدراسة الجامعية، (وعمل بالتدريس والادارة والوزارة والسفارة، ثم تفرغ للنشاط الادبي والحياة الثقافية) ص37.
يمكن اعتبار ما سبق تجسير يصلنا بسؤال اخر يقف عنده الباحث عمار جحيدر وهو كيف يعرف التليسي نفسه؟ وبالنظر الى القاموس الجامع لمسالك الرحلة، يضعنا ذلك عند استنتاج يضع المؤرخ في قلب المدرسة الجامعة بين الاهتمام الادبي والتاريخي كما يصف الراحل نفسه في حوار اجراه معه الاديب يوسف الشريف بمجلة الفصول الاربعة سنة 1992 وضمنه المؤلف كوثيقة تعزز هذا الرأي.
واوضح في اجابته ان المؤرخ العربي كان أديبا والعكس، وبالرجوع الى المصنفات العربية، تجد صعوبة أحيانا في طبيعة تصنيفها أدبا ام تاريخ، هذا التشخيص يتواصل مع حلقة اخرى من السؤال وهو معنى التليسي مؤرخا ثقافيا؟ اضافة الى الاشارة السابقة في التداخل الجلي بين النقد الادبي والتاريخ الثقافي في أعماله نرى ان كلا الاتجاهين يتقدم أحدهما ويتراجع لصالح الاخر بحسب المعطيات الظرفية والزاوية التحليلية المنظور خلالها للشخصية المدروسة.
ففي كتابه (رفق شاعر الوطن) تناول الاسلوب والقصة والطبيعة في شعر المهدوي ممهورا بنزعة نقدية، الا أن أثر الالماحة الى التاريخ في مطبوعة ظل موجودا في تناوله للروافد الثقافية الممهدة لتطور الادب الليبي عبر فترات زمنية مفصلة تبدأ من اواخر القرن التاسع عشر وحتى زمن اعلان الاستقلال.
هذه التقسيمات التاريخية، فرضت نفسها على التليسي كأطوار متشابكة وذات اتصال طبيعي، بالفترات التي تكون خلالها الادب الليبي، وربما نجد ما يفسر المسارات المتداخلة بن شواغل التاريخ والفكر، هو شغف الذائقة البحثية لتأصيل حقلها المعرفي كهوية وطنية متأسس على مقومات مفهوم معنى الكيان ’ وقد المح الى ذلك، ضمن شهادته في ندوة المؤرخ احمد النائب الانصاري، متوقفا عند تطور التأليف التاريخي في محطات ثلاث ارتبطت بالوعي بالكيان والشعور به عند ابن غلبون، احمد النائب، الشيخ الطاهر الزاوي ومصطفى بعيو.
هذه المفاصل تقودنا الى ما اشار اليه الباحث عمار جحيدر في سبره لشخصية التليسي وقد استشفها من وصف الاخير لجيله قائلا :(ما شغل جيلنا هو اكتشاف والبحث عن ليبيا التي تحتل هذا الموقع الهام من البحر المتوسط؟ ما مكانها من هذا التاريخ؟ وما مكانها في كل ما طرأ على هذا البحر من حضارات؟ ما مكانها أيضا في الحركة الثقافية العربية الحديثة) ص53.
تلك هي اسئلة التليسي وجيله الذين شكلت لهم القاعدة الام في خوض مساراتهم التي ذهبوا اليها وهم يحاولون فهم كنه ومجال وحيوية الفضاء الليبي بأبعاده الثقافية والتاريخية، وربما وجب علينا وضع أسئلة ذلك الجيل الذهبي امامنا مرة أخرى لندرك معنى وقيمة كيان ووطن اسمه ليبيا.