سرد

رواية الحـرز (46)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر رواية (الحرز) للقاص والروائي “إبراهيم عبدالجليل الإمام“، على أجزاء بشكل أسبوعي!! قراءة ممتعة للجميع…

مدينة غدامس
مدينة غدامس (الصورة: عن الشبكة)

46

عم السكون ما أن شرعت العجوز في العزف على ربازتها العتيقة.. رافقتها ضاربات انداكلال الستة بايقاعاتها المختلفة.. يقال أن السحر يكمن في مزج ثلاث إيقاعات مختلفة ومتضاربة من ثلاثة أحجام مختلفة من انداكلال.. ينفي آخرون ذلك ويصرون أن السحر يكمن في عزف الآلة ربازة كانت أم غيطة.. يعترض طرف ثالث أن السحر يكمن في اللحون.. يعزز هذا الطرف قوله أن اللحون كانت تغنى دون غيطة أو ربازة في أحيان كثيرة وحتى دون إيقاعات انداكلال ومع ذلك يطرب لها السامعون.. هناك دائما قول الفصل في كل خلاف يحدث في الواحة.. لكن حكماء الواحة عجزوا في هذا الخلاف في الوصول لقول فصل.

اهتزت الرؤوس وتمتمت الشفاه بكلمات اللحن المعزوف.. تحمست إحداهن فاطلقت زغرودة طويلة.. كانت تلك الزغرودة كافية لانطلاق نوبة رقص.. شرعت فيها اثنتان من نسوة العرش توسطن سطح البيت.

في تمانحت البيت كانت ترتعش مع اللحن المعزوف.. تنتظر إشارة القادم الغريب.. رش مسحوقا آخر على الجمر.. أعطاها الإشارة المتفق عليها بينهما.. ارتفعت سحابة دخان كبيرة في نفس اللحظة التي توسطت فيها تمانحت الدار.. اهتز جسدها المغطى بثوب اسود.. فتحت يديها على اتساعهما.. تحركت قدميها بحركة متناغمة مع ضربات الإيقاع.. جثت على ركبتيها.. اهتز رأسها يمنة ويسرة بسرعة.. ارتفعت أكف النسوة بالتصفيق في سطح البيت المجاور..
رش مزيدا من المسحوق الغريب الرائحة.. غطتها سحابته الكثيفة.. كانت الشقيقة تتمتم بالأدعية والأذكار خوفاً على شقيقتها.. عرق غزير ينز من جبين الطفل النائم في الكوبت.

توقفت العجوز عن العزف بعد وقت طويل.. صرعت فيه ثلاثة نسوة أصابتهن نوبات الوجد.. لم يكن سبب توقفها تعب أصابها بل انقطاع الوتر الوحيد لربازتها.. ابتسمت عن فم خال من الأسنان.. قالت:
 – انقطاع الوتر علامة سوء.. يبدو أن شيئا ما سيحدث قريبا هيء هيء هيء.. عليكن الاستعداد .
أجابتها امرأة بحماسة:
– من يملأ سمعه وقلبه بعزفك لن يبالي ما يصيبه بعدها من سوء.

أمنت أكثر من واحدة على قولها.. عدة عجائز تمتمن بشيء مجهول.. يعلمن جيدا معنى انقطاع وتر الربازة أثناء العزف.. إنها علامة لوقوع شيء عظيم.. عادة ما يكون سيء.. فالأشياء السيئة لا تأتي عادة إلا عظيمة.
قالت إحدهن هامسة لرفيقتها .
– لا بد أن الحدث يتعلق بالقافلة المفقودة.. نسأل الله السلامة.

استبدلت الوتر بآخر.. ضبطت الربازة.. انتضمت جوقة الضاربات على انداكلال بعد انسحاب بعضهن وحلول أخريات بدلا عنهن… صعدت الشقيقة إلى سطح البيت.. نقلت لهن رسالة القادم الغريب:
 – يقول لك الغريب سرعي من وتيرة العزف.

 عادت مسرعة إلى شقيقتها.. كانت قد دخلت حالة الوجد.. لاشك أن تسريع وتيرة العزف ستعجل من صرعها.. كانت تتصبب عرقا.. اقتربت منها.. سمعت نشيجها وتسارع تنفسها.. همست لها:
 – تماسكي.. تذكري أنها فرصتك الوحيدة والأخيرة لا تضيعيها.

 انطلقت زغرودة أخرى.. تعالى التصفيق منذ بداية الوصلة.. كان عدد النسوة قد تضاعف عدة مرات بعد أن حملت النسائم صوت عزف الربازة إلى أبعد مكان في الواحة.. الرجال في مجلس العرش يستمعون كذلك.. ينتظرون في لهفة عزف الغيطة.. هي أكثر إطراباً لهم من الربازة .
رش المزيد من المسحوق الغريب.. تفاعلت مع اللحن المتسارع.. اهتز له كامل جسدها الجاثي في وسط التمانحت.. رأسها يتمايل يمنة ويسرة في تسارع مصاحباً للايقاعات.. سقطت أخيرا مغشياً عليها.. همت الشقيقة بإسعافها.. لكن شيخ العرش أوقفها بإشارة من يده.

بحثت عن القادم الغريب.. لم يكن في التمانحت.. ثلاث نسوة اصابتهن نوبة وجد ما أثار المزيد من حماسة باقي النسوة تصفيقا وغناءً.

مقالات ذات علاقة

رواية: بين بينين (مقتطفات من الفصل الأول)

حسن أبوقباعة المجبري

مقطع من رواية جايـيرا

سراج الدين الورفلي

سيرة بني غازي

أحمد الفيتوري

اترك تعليق