فراس حج محمد (فلسطين)
الشاعر ناقداً أو الناقدُ شاعراً. يبدو الأمر على هذه الشاكلة من الاندماج، أو ربّما الالتباس المحيل إلى شيء من الجمال، إذ لا يستطيع الناقد الشاعر أن يتخلّص من ذائقته، وهو يدرس الأعمال الإبداعيّة، فـالذوق النقديّ من أدوات الناقد لمحاكمة النصّ، وملكة خاصّة، وأمر وجدانيّ تُمتلك بالتجربة والعلم، ولكنّ هذا الذوق مقيّد ضمن شروط في حين أنّ الذوق الأدبيّ مطلق[1]. وبين انطلاقيّة الشعر والنقد المقيّد يخلق الشاعر الناقد رؤياه من لحم لغته، معجونة ببصيرة ترى أبعد من الشكل، نافذة نحو العمق وجوهره، ولهذا فالمبدع- شاعراً أو غير شاعر- هو الأقدر على لمس جمال الأعمال الأدبيّة؛ لأنّه يحسّها شعوريّاً، بالإضافة إلى أنّه يدركها عقليّاً، فهو يمارس الصنعة من كلا جانبيها؛ إنشاءً وتذوّقاً، ولذلك فهو الأقدرُ على التعبير عنها نقديّاً والحكم عليها؛ جودة ورداءة. وحكمه لا يُنقض بوصفه “ناقداً عَدْلاً” وأديباً متمرّساً بالصنعة الأدبيّة، وكلّ من يحاول إنكار شهادته “جاهلٌ لا يطمئنّ أحدٌ إلى ذوقه وحكمه على المستوى النقدي”[2].
وبناءً على ما تقدّم، فإنّ انطباعيّة الناقد ليست عشوائيّة وفوضويّة، وإنّما تستند إلى ذوق مدرّب خبير، يستطيع التمييز والتعليل والتحليل، ذوق جماليّ أدبيّ يوجّه ركائبه نحو الخيال الجامح، لإدراك المناحي الجماليّة في النصوص الأدبيّة الإبداعيّة، وهذا ما فعله الناقد والشاعر العراقي عِذاب الركابي[3]في كتابه “النيل.. مبدعاً- قراءة في الإبداع المصري”[4]. يضمّ الكتاب إحدى عشْرة مقالة نقديّة موزّعة على ثلاثة فصول، احتوى الفصل الأول ثلاث مقالات حول الشعر، والثاني ثلاث مقالات حول القصّة القصيرة، واشتمل الفصل الثالث على خمس مقالات حول أعمال روائيّة.
يوضّح المؤلّف في توطئته القصيرة للكتاب أنّه أراد أن يحتفي بإبداعات هؤلاء الكُتّاب، واصفاً نقده الاحتفاليّ هذا “بنقد رؤيويّ غير مسبوق، مختلف في شاعريّته، نصّ مقابل نصّ، إبداع على إبداع، جوهر الجمال والمتعة والإثارة في الكتابة الجديدة التي أحرقت في طقوسها كلّ مفردات الملل”[5]. وسيرى القارئ فعلاً أنّ الناقد قد حقّق كثيراً ممّا وعد به في هذه المقالات الاحتفاليّة على ما سأوضح بعد قليل.
إنّ شخصيّة الناقد هنا كانت شخصيّة انطباعيّة، ذاتيّة شعريّة، تخطّ لها منهجاً محدّداً في تناول الأعمال الإبداعيّة، فنظر إليها نظرة جماليّة ذاتيّة كما هو تفاعل معها عند قراءتها. ليعيد “الانطباع- أو الأثر- الذي تركه في نفسه نصٌّ إنشائي، من قصيدة، أو قصَّة، أو مسرحيَّة، أو كتاب… كما هو في حالة حدوثه، وفي الساعة التي تلقَّى فيها الناقد النَّص، من دون إضافة، أو اهتمام بأمر سواه… ومن دون أدنى اهتمام بالصحَّة والخطأ والعلميَّة والموضوعيَّة… المسألة ذاتيّة صرف”[6].
ولم يُخفِ الناقد منهجيّته هذه؛ فأكّدها في خاتمة الكتاب بقوله: “كتابة مغايرة.. مختلفة، نوع من الكتابة- الحفر.. والكتابة- الخلخلة كانت مصدر إلهامي في رسم هذه اللوحات.. نقد ما بعد حداثي، الذائقة بوّابتي الدافئة للدخول إلى نصوص هؤلاء المبدعين الممتعين حتّى الدهشة والمفاجأة”[7]. فكأنّه لم يكتب النقد إلّا ليحاور الجمال بذاته الشاعرة التي تنفعل بالشعر فتكتبه على نحو مغاير أيضاً في مقالة نقديّة هذه المرّة، وليس داخل القصيدة.
ما بين المقدمة والخاتمة يوضّح الكاتب طريقة تعامله النقديّ مع الأحد عشر عملاً إبداعيّاً التي تناولها في نقده مستمتعاً متجلّياً، إذ كان واضحاً هذا التوجّه من خلال حديث المؤلِّف النقديّ الممتع الذي لا يخلو من تشويق وإثارة وتتابع سرديٍّ يريح القارئ ويدخله في صلب العمل الأدبيّ بلغة أدبيّة تنقل النقد من دوائره الجافّة التي يعتاش فيها “المنهجيّون الأكاديميّون” إلى دائرة رحبة من التلقي القائم على المتعة.
لعلّ ما قام به الناقد من إفصاح عن هذه المنهجيّة النقديّة الذاتيّة لهي جرأة محسوبة للناقد، ففي الوقت الذي يرمي به كثير من الدارسين والمبدعين كتابات النقّاد المعاصرين وخاصّة من الجيل الجديد بأنّها “نقد انطباعيّ” تهويناً من شأن ما يكتبون، والحطّ من جودة تلك الكتابات ورصانتها يأتي الشاعر العراقي عِذاب الركابي ليقول إنّني “ناقد تذوّقيّ” تقودني ذائقتي، ويوجّهني الشاعر الذي فيّ إلى رحابة النصوص وقراءتها بمحبّة وطلاقة وانطلاق.
لم يعد اليوم الصراع الاتّهاميّ بين الناقد والمبدع فقط، بل صار بين الناقد والناقد الآخر أيضاً، فيتّهم النقّاد الأكاديميّون المُقولَبون النقّاد المتحرّرين من قواعد المناهج الصارمة بأنّهم يخرّبون النقد. هنا وفي هذه المنطقة بالذات يجب أن نرفع القبّعة للناقد عِذاب الركابي لحسن صنيعه وقوّة شخصيّته النقديّة والأدبيّة في الإعلان الواضح عن منهجيّته الذاتيّة التذوّقيّة في هذا الكتاب، فهو إذاً “قراءة” في الإبداع، بكلّ ما يؤدّيه مفهوم “القراءة” من تذوّقيّة وفردانيّة ومتعة شخصيّة، كانت مصاحبة للكتاب في الإنباءِ عن طبيعته هذه، وأثبتها المؤلّف مع العنوان على الغلاف.
ولكنْ، ما علاقة ذلك بنقد ما بعد الحداثة الذي يشير إليه الركابي في خاتمة الكتاب؟ بدت لي العبارة أنّها نوع من “التضليل النقديّ”، فمن المعروف أنّ النقد التأثّريّ نقد قديم، ومارسه نقّاد غربيّون وعرب، ومن ثمّ تطوّر النقد إلى العلميّة في مناهج متعدّدة لغويّة وتحليليّة. هل أراد الركابي أن يحمي نفسه من أوثان النقد الأكاديميّ وأصنامه؟ أم أراد إرباك القرّاء والباحثين كما يفعل الشعراء عادة في ممارسة المراوغة والتحايل النصّي لتمرير أشد الأفكار توتّراً أو اختلافاً؟ أم فقط أراد أن يعيد للناقد بهجته النقديّة التي ذهبت بفعل الكتابة النقديّة في دهاليز مناهج النقد الحديثة والحداثيّة، مناهج أفقدته أدبيّته المؤثّرة، ويريد أن يكمل الدائرة، فيعود بالنقد إلى حيث بدأ، نقداً انطباعيّاً تأثّريّاً يقوم على الذائقة المدرّبة التي لا تخدع نفسها ولا تخدع القارئ؟ باعتقادي أنّه أراد أن يدافع عن حقّ التعبير النقديّ بطريقة تأثّريّة انطباعيّة إبداعيّة، ولكن بشروط موضوعيّة، لا تُحمّل العمل الأدبيّ ما لا يحتمل، ولا تقول فيه ما لا يستحقّ، ولا تبالغ في المدح، ولا تبني رأيها في الحكم على النصّ دون الاعتماد على تذوّق جماليّ مدرك في أعماق نفس الناقد ذاته، وأراد أن يوصله إلى القرّاء الآخرين، ويتشارك به معهم.
لقد اختار الناقد عِذاب الركابي أعمالاً أدبيّة بدت لنا، نحن القرّاء غير المطّلعين قبلاً على تلك الأعمال، أنّها أعمال أدبيّة بديعة وذات سويّة عالية من النضج، لقد انحاز الناقد إلى أعمال ناحجة إذاً، كاشفاً عن جماليّاتها، من خلال لغة تجنح للشعر والشاعريّة والإطناب والتكرار الأدبيّ والصور الأدبيّة وأشكال متنوّعة من البلاغة، يقدّمها ويدفع القارئ بطريقة غير مباشرة إلى قراءتها وتأمّل ما فيها من أفكار، ومعاينة نواحيها الشكليّة التي حملت تلك الأفكار. إنّ الناقد هنا، وهو يقوم بهذا الفعل النقديّ، يمارس فعلاً دعائيّاً تسويقيّاً، موظّفاً أدوات السلطة الناعمة الخفيّة التي تدفع قارئ هذا النقد إلى أن ينحاز لتلك الأعمال الأدبيّة حتّى إذا لم تتوفّر له فرصة قراءتها، محقّقاً كثيراً من شروط النصوص الإبداعيّة في مقالاته النقديّة، فهو كما قال في التوطئة ينشئ نصّاً إبداعيّاً على النصّ الأصليّ، “نصّ مقابل نصّ”.
إنّ هذا النوع من النقد لن يتجلّى لأيّ كاتب إلّا إذا كان شاعراً وأديباً، وممتلئاً باللغة وإيحاءاتها واستخداماتها، ويمارس عمله النقديّ بحبّ وجمال وحرّيّة محلّقة في فضاء النصوص لتراها بعين الإبداع لا بعين التفكيك النقديّ الذي قد يحوّل العمل الأدبيّ إلى كومة ألفاظ خاوية من المعنى والتأثير. إن جناية النقد المنهجي “المتعالم” على الأدب كبيرة جدّاً، فهو لم يبعد القرّاء عن النقد وقراءته وحسب، ولكنّه كذلك استمرأ قتل الأعمال الأدبيّة، وسحب منها عصبها الذي يجب أن يكون واضحاً في الكتابة النقديّة، كما كان واضحا في العمل الإبداعيّ ذاته، وهو ما نجح فيه الشاعر الناقد عذاب الركابي نجاحاً كبيراً، فقد جعل النقدُ تلك الأعمال قريبة ومحبّبة إلى القارئ، أو على الأقلّ هذا ما أتوقّعه بعد قراءتي للكتاب.
يلاحظ على عمل الركابي هذا أنّ انحيازه كان للسرد، قصّة ورواية، ولم يكن للشعر، فقد اشتمل الكتاب على ثلاث مقالات نقديّة في الشعر فقط، واستولى السرد على ثماني مقالات، خمس منها للرواية، ما يعني أنّ اهتمام الناقد- وهو شاعر أيضاً- بالسرد أكثر من الشعر. ربّما أشارت هذه المسألة إلى قضيّة أخرى أبعد ممّا نظنّ من استحواذ الرواية على اهتمام الشاعر النقديّ بحيث لفتت نظره أكثر من غيرها من الفنون؛ فالشاعر- أيّ شاعرٍ- لا يعجبه شعر الآخرين كثيراً، فغالباً ما يرى أنّ الشعر نادر الحدوث، أو أنّ نماذجه العليا التي تستحقّ الإشادة والقراءة قليلة، لذلك لا يتّجه الشاعر الناقد في العادة إلى قراءة الشعر والدواوين الشعريّة، لكنّه يقبل أكثر على قراءة السرد بأنواعه والكتب الثقافيّة والتاريخيّة وكتب الأساطير وكتب الحضارة والسياسة وكتب النقد وكتب الأديان والفلسفة والفكر، مع أنّ الركابي قدّم عدّة أعمال نقديّة تناول فيها الشعر، وأشرت إليها أعلاه، أو لعلّه لا يريد إفساد لغته الشعريّة بشعر الآخرين، مخافة أن يتسلّل شيء منها إلى لغته، محافظة منه على نقاء عالمه الشعريّ من أن يتلوّث بألفاظ الآخرين وتراكيبهم وصورهم الشعريّة التي قد تحتلّ مكاناً مخفيّاً في لا وعيه، لا يدري متى تقفز إلى قصيدته، فتخونه خيانة إبداعيّة يُؤاخذ عليها، وهذا هاجس مشروع من حقّ الشاعر أن يحذر من الوقوع فيه. أو لعلّه أراد أن يجرّب الكتابة الشعريّة بطريقة مغايرة، كما قال في خاتمة الكتاب. فالشعر- حسب ما يزعم بعض نقّاده- ليس موجوداً فقط في القصيدة، بل ربّما يوجد في النثر والمقالة والرواية واللوحة والقطعة الموسيقيّة.
يقترحُ كتاب الركابي تصوّراً نقديّاً مهمّاً بملامح شعريّة، بوصفه نموذجاً للاحتذاء به لمن أراد أن يكتب نقداً انطباعيّاً ذاتيّاً تأثّريّاً من الشعراء أو الأدباء، وذلك في عدّة وجوه، تشكّل بمجموعها منهجاً نقديّاً غير مُلزِم، أوّلها تلك اللغة العالية المستوى والبعيدة عن الركاكة والضعف التركيبيّ والخلل النحويّ والصرفيّ، وهي عُدّة الكاتب بغضّ النظر عمّا يكتب، وأيّ الأنواع الأدبيّة يختار، وهي للناقد أوجب ويجب أن يحرص عليها الناقد ويسعى إلى أن تكون لغته النقديّة صائبة تماماً كحدٍّ أدنى من الكتابة، إضافة إلى ما أفاض عليها الركابي من جمال وسلاسة وعذوبة وصناعة واضحة، فيها الكثير من السمات الشعريّة، كما أنّ شخصيّة الناقد الخبير المثقّف حاضرة بجلاءٍ في هذا الكتاب ثانياً؛ فليس معنى الكتابة النقديّة التأثّريّة أن تخلو من المصطلحات والمقولات النقديّة التي تلتحم بجسد الكتابة الجديدة كأنّها منها، تندمج فيها كأنّها هي، وهذه خبرة كتابيّة مقصورة على الموهوبين في الصنعة الكتابيّة التي لا يتقنها الكثيرون، بحيث لا تكون نافرة مستنكرة مستكرهة، عالة على النصّ، وتومئ إلى مظهر من مظاهر التثاقُف المقيت ذي الآثار السلبيّة في تلقّي القارئ، كما يفعل كثير من كتبة النقد أحياناً.
يقول كتاب “النيل مبدعاً..” إنّه لا بدّ من معرفة نقديّة وثقافة نقديّة في المصطلح النقديّ، ولكن على الناقد أن يذوّتها لتصبح له وداخلة في صلب لغته؛ فالرسالة التي يريد أن يقولها عِذاب الركابي في هذه المقالات النقديّة، أنّ النقد عمليّة صعبة، وتحتاج إلى عُدّة لغويّة وثقافيّة، وإلى ذائقة مدرّبة على صنع الجمال اللغويّ والإحساس به والتعبير عنه، ولا يستطيعها أيّ كاتب إذا لم يكن مؤهّلاً وكامل العُدّة والعتاد لهذه العمليّة، ولذلك- ثالثاً- فإنّ كتابة النقد الانطباعيّ ليست مجرّد رأيٍ عابر لكاتب سطحيّ لا تحتوي كتابته تلك على أيّ عمق أو لا تشير إلى أيّ ثقافة أو مخزون معرفيّ.
إنّها- تماماً- تشبه الكتابة الإبداعيّة في تحرّرها من القواعد والقوانين والالتزام الحرفيّ بالمصطلحات، ومع ذلك فإنّ لها مصطلحاتها وقواعدها وقوانينها الخاصّة النابعة من ذاتها، ومرتبطة بالعمل المدروس الذي تضيئه ارتباطاً إبداعيّاً عضويّاً، فإذا ما سلّمنا بقواعد تحكم الكتابة الإبداعيّة مع انطلاقيّتها وتحرّرها، علينا الاعتراف بوجود مثل هذه القواعد أيضاً في الكتابة النقديّة الانطباعيّة، قواعد يخترعها الكاتب نفسه، يضبطها ويؤطّرها هو ذاته، أو يجلبها، أو يتّكئ عليها من مناهج فكريّة أو فلسفيّة، أو كتابات نقديّة أخرى، كما فعل الركابي، ولذلك فإنّ ما يصدق على النصّ الإبداعيّ يصدق على طبيعة الكتابة الانطباعيّة النقديّة المكتوبة بخبرة مبدعها في أنّه “ليس ثمّة قواعد للكتابة وذلك هو الجمال الكامل في فعل الكتابة”[8]، كما يستشهد الكاتب نفسه بهذا القول في وصفه أحد الأعمال الأدبيّة التي تحدّث عنها في الفصل الثالث نقلاً عن الكاتبة التركيّة إليف شافاق.
ليس صحيحاً أن نقول بعد ذلك إنّ النقد الانطباعبيّ ليس منهجاً، كما قد يجادل بعض الكتّاب، فإذا كان “المنهج مجموعة من الإجراءات المنظمة التي تهدف إلى تحقيق هذه الوظيفة على نحو موضوعيّ”[9]، فإنّ ما قام به عِذاب الركابي في هذا الكتاب يحقّق ذلك بمتعة واحتراف؛ سواء في اللغة، أو في التحليل، أو في الحكم النقديّ، ما جعل عمله هذا ذا سمات منهجيّة مؤطّرة ضمن إطارها التي وُجدت فيه، وتمّ الالتزام بها في مقالات الكتاب جميعها، وقدّم مثالاً حيّاً على الكتابة النقديّة الانطباعيّة الممنهجة ذات السمت الشعريّ الموحّد؛ لتحقّق الغرض الإبداعيّ والنقديّ منها، ففي كتاب “النيل مبدعاً” امتزج النقد والإبداع معاً في نصّ واحد؛ هو المقالة النقديّة الذاتيّة التأثّريّة القائمة على الذوق الذي لا يفسد الموضوعيّة بأيّ حال من الأحوال، فأعاد الركابي بهذا النقد إلى الأذهان صورة الناقد الذي يقدّم حكمه، وليس مجبراً على أن يعلّل أحكامه، هذه الصورة التي وصفها يظهر فيها: “الناقد الكفؤ الذي يجب أن يصغي الآخرون إلى حكمه سواء استطاع التعليل أو لم يستطع. وهذا ما جرّ إلى القول بأنّ في الشعر مجالاً يدركه الناقد بالطبيعة التي وهبها دون غيره، وبهذه الطبيعة يحكم على ما لا يستطيع أن يورد فيه عّلة واضحة، وذلك يعني أنّ هناك دائرة في الشعر يحسّ فيها الجمال ولا يستطاع التعبير عنها بلِمَ وكيف”[10]، بل إنّه يسعى إليها بقلبه الرائي، وعينه المبصرة، وبقلمه المشعّ، وعاطفته الزاخرة المنحازة لتلك الأعمال، لكنّه ذلك الانحياز المبرّر بجماليّة الإبداع نفسه، فالشاعر المبدع هو أيضاً ناقد مبدع، ما دام أنّ اللغة هي ذات اللغة، لغته، المستند عليها في الحالتين؛ نقداً وشعراً، لينتج حالة إبداعيّة نقديّة مركّبة لها سطوتها الثقافيّة في عالم الأدب والأدباء، وتعلن عن ذاتها بشرعيّة كاملة، ومعترف بوجودها، ولها هُويّتها المميّزة في سياق الحركة النقديّة العربيّة كافّة.
الهوامش:
[1] يُنظر: الذوق النقدي والنقد الانطباعي بين النقد القديم والحديث، أ.د. نبيل خالد أبو علي، و أ.د. محمود محمد العامودي و أ. معاذ محمد الحنفي، مجلّة الجامعة الإسلاميّة للدراسات الإنسانيّة، غزّة، المجلّد السادس والعشرون، العدد الأول، (يناير، 2018)، ص88.
[2] تاريخ النقد الأدبي عند العرب- نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري، د. إحسان عبّاس، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان- الأردن، 1986، ص339.
[3] للركابي عدّة مجموعات شعريّة: “تساؤلات على خريطة لا تسقط فيها الأمطار”، و”من طموحات عنترة العبسي”، و”رسائل المطر”، و”العصافير ليست من سلالة الريح”، و”والشمس تعطي رطوبة أحياناً”، وله من الدراسات النقديّة بالإضافة إلى هذا الكتاب: “صلوات العاشق السومري- عبد الوهّاب البياتي- قراءة ومواقف”، و”غادة السمّان امرأة من كلمات”، و”فاطمة يوسف العلي أيقونة السرد الخليجي المعاصر”، و”سحر النيل- قراءة في الإبداع المصري المعاصر”. و”البوح.. صمتاً- قراءة في الإبداع النسوي العربي المعاصر”.
[4] صدر الكتاب عن مؤسّسة دار الهلال، 2020.
[5] النيل مبدعاً..، ص6.
[6] مقدمة في النَّقد الأدبي، د. علي جواد الطاهر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1988، ص415.
[7] النيل مبدعاً..، ص206.
[8] السابق، ص130.
[9] المنهج الانطباعي في النقد، (مقالة حواريّة)، باقر جاسم محمّد، مجلّة الكلمة (الإلكترونيّة)، العدد 161، سبتمبر، 2020.
[10] تاريخ النقد الأدبي عند العرب- مرجع سابق، ص338.