قُبيْل أذان العصر، ذهبتُ للراحة في مبيتنا، ركبنا أنا وزينب وسارة البيجو إلى بيتهم، كان هناك بلاطة رخامية في مدخل البيت تقول لنا أننا في ضيافة “دار غزالة”، بيت شبه تونسي شبه فرنسي كان مقسماً إلى جزئيْن، على امتداد سوره الصغير ياسمينة متسلقة وحديقة صغيرة ممتلئة بمختلف أشكال الغرس، باحة تصبُ على أحدِ حيطانها صورة غزال منحوت يخرج من فمهِ الماء، ركنتُ البيجو على الرصيف، ثم انتقلت سارة تقود سيارة والدها المركونة في القاراج وخرجت مع زينب -كانت زينب متلهفة وتريد الفستان بعجالة-، حملتُ الحقائب إلى الداخل صحبة ما اشتريتُ من السوق جبناً، كان صعباً أن أجد جبناً بجودةٍ جيدة لكن فعلتُ ذلك في النهاية، كما قمتُ بشراء الخضار التي سأستخدمها للصلصة، أستخدم نوعاً معيناً من الصلصلة للبيتسا المنزلية، هي مزيج من الطماطم، الثوم، الحبق والزعتر وزيت الزيتون بنسبٍ متفاوتة. تركتُ زينب مع سارة صديقتها الجديدة لتشتري فستاناً شبيهاً، قمتُ بطبخ الصلصة وعجنِ البيتسا حتى تكون شبه جاهزة للسهرة، في العادة أحبّ أن يكون عجين البيتسا جاهزاً قبل ذلك بيوم، أنا أضيف ما بين ثلثيْن إلى أكثر بقليل من الدقيق من الماء حسب الزمن الذي سأدع فيه الخميرة لتكبر كما تشاء، فضلتُ هذه المرة أن أجعل العجين تحملُ نسبة أقل من الماء – سيكون من الصعب التعامل مع عجين بنسبة عالية من الماء ولم يخمر إلا لبضع ساعات، هذه نصيحتي لك إذا شاء القدر وصنعت فطائر البيتسا يوما ما-، بعد أن عجنتُها عرفتُ أنه يمكنني أن أستريح قليلاً للنوم.
دخلتُ غرفة النوم، كان ذلك أول لقاء لي بخزانات الملابس المدفونة بالجِدار، تأملتُ الخشب الأبيض منقوش بداخله نجمة داوود باللون الأزرق السماوي، شعرتُ بالخوف، كأنني محاصر من الموساد، إلا أنّ خوفي سرعان ما تبدد عندما ألقيت بنظري اتجاه النافذة الواسعة، كانت في تركيبها تشبه نوافذنا، فالبرسيان الخشبي الأزرق يذكرني ببيوت بئر حسين والجزء الزجاجي الملّون بالبياض، كل ذلك في تركيبه يشبه نوافذنا، إلا أنّ اختلاط الألوان كان أكثر جمالاً، كانت نوافذنا صغيرة بألوان بُنيّة قاتمة مضافاً لها جزء حديدي يمنعُ السراق من الدخول للبيت كما أنها كانت أعلى قليلاً من هذه النافذة التي يمكنك الجلوس عليها براحة، شعرتُ دوماً أنني سجين في بيوتنا، ولم أفهم كيف يمكن لبلدٍ أمين وآمن كبلادنا في عهدِ القائد حفظه الله ورعاه أن يتسلح الناس فيها بالأسوار العالية التي تعلوها زجاجات المشروب المكسورة كأننا في معسكر أو سجن وبنوافذ صغيرة ومسيجة بالقضبان الحديدية، لم يأتني هذا الشعور وأنا في مبيت السي بينيامين، كنتُ مليئاً بحواسي شاعراً بالراحة النفسية داخل المبيت رغم صغره. سمعتُ أمواج البحر وهي تتلاطم بالشاطئ، زاد سروري، اقتربتُ من النافذة، لم يكن هناك سور عالٍ يحجز رؤيتي عن خارج البيت، “لن أتمكن من التلذذ بمنظرٍ كهذا إن كنتُ في فندق”، قلتُ لنفسي. كان السور الأبيض الصغير يجاور نباتات الوذيّنة في كل زاوية من زواياه نخلة، البيت بأكمله أشبه بمعبدٍ على الشاطئ، كان يمكنني رؤية الشاطئ بصعوبة نظراً لغابة من نباتات الوذينة المشتبكة في سور طويل ينتهي عند التقاءه بالشاطئ صانعاً الطريق، كان للسي بنيامين ذوق فني رائع، فقد أضاف سدةً خشبية على طولِ الطريق يمكن للنباتات أن تتسلقها لتضيف ظلاً هانئاً على الشاطئ. سقطتُ بجسدي على السرير تحت النافذة بعد أن تلذذت بالمنظرِ.
مرّ بي حلمٌ ممزوج بطعم الذاكرة، حلمت أنني صحبة أبي على الشاطئ، كنا في غوط الرمان، أبي أحب البحر كحبه للخبز، نخرج عند الفجر في البيجو يقلنا أنا وأخواتي وأحياناً أبناء الجيران، كنتُ لم أتعلم العوم بعد، بل أنني كنتُ أخاف البحر، في الحُلم (أو في ذلك اليوم) اصطحبنا كل من الصادق -عندما كان صديقي- وأخته الصغرى زينب -هل كان حلمي حلماً أم مجرد انسياب للذاكرة؟ لا أعلم، لأنني لا أتذكر أنني ذهبت للبحر يوماً مع زينب-، إلى شاطئ سريّ في غوط الرمّان لا يأتيه كثير من الناس إما لعدم معرفتهم به أو لأنهم فضلوا العوم في السندباد أو في قرى تاجوراء القريبة، دخلنا غابةً من أشجار البلوط والصنوبر وخرجنا نجري نبحث عن البحر، ابتسم أبي من الخلف ينتظرُ منا أن نحل اللغز متكئاً بمرفقيه على هيكل البيجو، اقتربنا من الجُرف وأصبنا بخيبةِ أمل، أمكننا رؤية الشاطئ تحتنا، لم يكن هناك أحد من المصطافين فيه، لا مصيف ولا هم يحزنون، نظرنا لأبي نتساءل كيف يمكننا أن ننزل إلى الشاطئ، أخرج بطيخاً من السيارة وتقدم نحونا، قال لنا ” اقفزوا هاهاهاهاهاهاها”، كنا مجموعة من الأطفال ولم نستوعب بعد النكتة، نظرنا بعبوس اتجاه فقال لنا متحدياً ” لا بحر لكم اليوم، سنأكل البطيخ هنا عند الجرف ومن ثم نعود”، ومن ثم حمل أسماء – إذ كانت أصغرنا- وأخبرنا بأن نلحقه، نزل بهدوء من منحدرٍ صنعته أرجلٍ بشرية بين الأحراش والنباتات البحرية، نبات بزهور بيضاء كان ينتشر في المكان، لم أعرف حتى اليوم ما هو، أحببت وجوده في المكان كأنه يطمئننا أنه يمكننا النزول، وبعد دقائق من المشي في المنحدر وصلنا إلى الجنة. قال أبي وهو ينتظر منا أن ننزل ” هيا، فلقد وصلنا إلى الجنة”، لكنه لم يكن يعلم أنني كنتُ ألاقي مشقة في النزول، كنتُ خائفا من أن أنزلق وأصيب كاحلي، لقد كانت لي إصابات قديمة في كاحلي من الانزلاق ولم أشأ أن يكون اليوم أحدها، كانت زينب خلفي في المؤخرة، لم يتبقى سوانا وكان هناك منحدر يشبه الدُرج علوه متر، كانت هي في الخامسة ولازال يتملكها بعض من خوف الأطفال الصغار، نظرتُ نحو الدرج بحذر، كان عليْ أن أقفز، فعلتها. حمدت الله على ذلك، نظرتُ لزينب التي وقفت متجمدة هناك مرتدية مايوهها الأصفر، كانت تخاف المرتفعات وكان هذا الدرج الحجري أشبه بمرتفع بالنسبة لها، رفعتُ يداي اتجاهها حتى أساعدها على القفز، فعلت ذلك. نزلنا ما تبقى من المنحدر الذي صار سهلاً وهي ممسكة بإصبعي الخنصر، ولحقنا بالبقية الذين بدأوا في العوم. وضع أبي البطيخ على الشاطئ وردمها صحبة أخواتي بالرمل حتى لا يجرفها الماء، أسرعتُ قافزاً في المياه على الشاطئ أشاهدُ أبي الذي نزع قميصه، بدا شعر صدره كغابة كثيفة تحمي بشرته الحنيّة، دخل البحر بعد أن أطمأن على وضعِ أسماء وبقية الفتيات، دخل إلى الغريق يسبحُ دون توقف حتى لم يعد بإمكاننا رؤيته بسهولة. تشوّش حلمي قليلاً، كنتُ مليئاً بالتراب أمني النفس لو أمكنني العوم مثل أبي حتى تلك المسافة البعيدة، لكن خائفاً من البحر في الوقت ذاته، الصادق يضحكُ من جُبني وهو يسبح حتى يصل مستوى الماء إلى رقبته ” تعال لا تكن مثل البنات” قال لي، كان يمكنني رؤية رأسه إلى أن اختفى، ” صادق!” ناديت، سمعتُ قصصا عن الغرق في البحر ولم أرد أن أشهد أحدها، اختفى لثوانٍ في الماء حتى خرج عالياً يحمله أبي، كان الصادق يضحك بينما يقف على كتفيْ أبي، أردتُ ذلك، ” ميلاد، إذا لم تأتِ سأغرقك” قال أبي، قفز الصادق ومن ثم سبح أبي اتجاهي، أردت الخروج من البحر لكن جعلني وجود زينب الجالسة على الشاطئ بجانبي في موقف حرجٍ، لم أرد لفتاة غريبة عني أن تضحك عليْ، اقترب أبي مني، بلت على نفسي في الماء خوفاً، حملني معه داخلاً البحر، كنتُ أبكي أحاول الهرب منه، قال وهو يحملني على كتفه ” اسمع يا ولد، إذا كنتَ تخشى الغرق فستفعل ذلك، وإن لم تتعلم السباحة، لن تكون شجاعاً البتة للمضي قدماً في الحياة”، لم أفكر في طفولتي عن التشابه الذي حاول أبي وضعه في مخيلتي بين السباحة والحياة، لكن عندما كبرت عرفتُ ما كان يقصده، أدخلني صحبته إلى الغريق، أنا أعوم على كتفه وهو يقوم في أحيانٍ بالغطس ليجعلني أتذوق ملح البحر، ” إذا شارفت على فقدان التنفس ربت على كتفي حتى أصعد” كان يقول لي قبل أن يغطس، يتأخر وهو يسبح بي إلى الداخل، أربت على كتفه فلا يصعد للأعلى، كان يحاول تحدي خوفي من الغرق، ومن ثم عند فقداني الأمل يصعد للأعلى، أحاول التقاط أنفاسي. وصلنا إلى مكان رأيتُ فيه أجرام أخواتي والصادق وزينب كالأقزام في الأفق، ” الآن سأتركك” قال لي، ” وعليك اللحاق بي إلى الشاطئ”.
ميلاد، ميلاد….انظر ما اشتريت!
أيقظتني زينب من حُلمي حاملةً معها بيكيني! حاولتُ أن أستوعب المشهد أمامي وزوجتي تحملُ صدرية السباحة، مرتديةً فستانها الجديد، لازالت رائحة البحر المالحة تطارد أنفي، فكرت ما إذا كانت الرائحة حقيقية أم أنها مجرد مخلفاتٍ من حُلمي، تفحصتها بعيني، كانت تحمل بيكيني أصفر عليه صور لبطيخ، ” هل أكلنا البطيخ في الحُلم؟” سألتُ نفسي، كانت تنظر للملابس بفرح، وضعت البكيني جانبا ومن ثم قالت ” انظر، الفستان، إنه يليق بي أليس كذلك؟”، كان عليْ أن أدخّن سيجارة لأتمكن من معالجة الواقع الذي أمامي وأن أتبيّن من أنه ليس بقية لحلمي.
هل سترتدين البكيني؟
نعم! أخبرتني سارة أنّ الشاطئ الذي يطلُ عليه بيتهم خاص ولا يأتيه أحد!
لا أعلم، أعتقد أننا قد نخاطر بذلك. أشعلتُ سيجارتي.
كيف؟
لستُ مرتاحاً لفكرة البكيني، إننا مسلمون في نهاية الأمر، ألا يمكنكِ أن تعومي بملابس أكثر احتراماً؟ قلتُ نافخاً الدخان اتجاه النافذة.
أكثر احتراماً لمن؟! قالت لي وقد امتسحت فرحتها وحل شيء يشبه الغضب والاستعداد.
نعم، أعلم، لقد أخبرتك أنّ زينب كانت شبه محافظة، شبه متحررة، لكن على رسلك، فعليك في البدء فهم من كان يربيها فعلياً، والدها كان قد طفق من تربية الأطفال محملاً بهموم الوظيفة ولم يكن سوى عائل للبيت؛ لذا كجميعنا كانت أمها مربيتها، لكن إضافة على ذلك لعمها التأثير الأكبر عليها، خصوصاً في عقليتها وكيفية تفكيرها، من أمها أخذت الجانب الاجتماعي من التربية، وبهذا كانت لا تحادث الرجال خارج نطاق العائلة محملةً بهموم المجتمع، عند خروجها لأي مكانٍ في الحدود الترابية للبلاد كانت تشبه أي فتاةٍ أخرى ملتزمة بالحدود الحمراء التي يرسمها المجتمع، تمشي في الطريق باحتشام وعيناها من النادر تغادر الأرض، كما كانت تحب حفلات الأعراسِ والأعياد الاجتماعية والدينية، تغوص في تفاصيلها بأكملها وبأدقها، تعشقُ كل ما تعشقه فتيات البلاد، وعندما تذهب للبحر صحبة أبيها والعائلة كانت تدخله بملابسها كافة -إلا إن كان ذلك في ساعات الفجر الأولى حيث يسمح لها والدها أن تعوم بدون حجاب عندما لا يكون هناك مصطافين-، كما أنها ملتزمة بمعظم التقاليد الشعبية، لكن، كان تفكيرها مختلف جداً، تشربت من عمها منقطع الأطفال -مثلي- وغير المتزوج أفكاراً يمكنني القول أنها غريبة ولم أسمع بها من قبل، فقد كان الفنان يرى أنّ الناس قد ابتعدوا ابتعاداً مخيفاً عن الدين، وأنّ سلطة الرجل على المرأة ليست من الدين في شيء، وقد خرب الرجال الدين واستغلوه لمصلحتهم حتى يأمنوا شرّ النساء، كان من عجيب أفكاره أنّ الخمر ليس محرماً – هل تصدق؟ أنا ميلاد نفسي، أوقن بأنه محرم رغمي كوني مدمن عليه-، وأنّ حجاب المرأة يشبه الرجل في كثير منه، ” هناك الدين الحقيقي وهناك دين المجتمع والأمران مختلفان” كنتُ أسمعها تقول لي ناقلة أفكار عمها، لم تكن زينب تفوت صلاة واحدة، كما كانت مقتنعة أنّ كل ما تقوم بفعله ليس محرماً، لم أكن متبحراً في الدين حتى أجادلها خصوصا عندما توجه الدلائل كرصاصة في كلامي. أثّر عمها فيها كما لم يؤثر يوماً رجل في حياته -ولا حتى أنا-، وهي تحملُ وحملت له التقدير والإعجاب الكامل حتى بعد وفاته. لم ألتقِ به سوى مرة واحدة في عمري، كان ذلك في الخطوبة، عندما تحدث معي على حدى قائلاً لي ” أعلم أنّ والدها لم يشترط عليك ذلك، ولكنّ ابنتي ستشتغل، رأيت أنه من الواجب عليْ أن أخبرك، كما أنني لن أتسامح معك إذا غصبتها يوماً على شيء”، كان رغم روحه الحساسة ككل الفنانين إلا أنّ به شيء من “الرديف”، ولد بلاد حقيقي يمكنه أن يتحول إلى وحش إذا استدعى الأمر، أخافتني النظرات التي كان يبادلني إياها، فكنتُ حذراً في النقاش معها.
لم يدم نقاشنا حول البكيني سوى لدقائق، كادت أن تبكي عندما عرفت موقفي اتجاه الأمر، فكرت أنني سأسعد عندما أراها ترتدي ملابس البطيخ تلك، ولا أخفي عنك أنني كنتُ سأكون سعيداً بعض الشيء، فليس هناك أجمل من أن يسبح المرء مع مرأة حرة، ولكن كنتُ متوتراً من فكرة رؤية رجل آخر حتى ولو لم يكن ليبياً لجسدِ زوجتي، ارتمت على السرير تبكي حظها العثر وأنها قد تزوجت رجل يشبه بقية (المتخلفين) في بلادها، تحولت من كائن وديع إلى بركان غاضب يصرخُ في وجهي بأنني كذبتُ عليها وخدعتها، كنتُ أنظر إلى نفسي من مرآة الغرفة متسائلاً عن الوعد بأن ترتدي البكيني الذي قطعته عنها، فلم أجده، لم نتناقش يوماً في ذلك، كان كل منّا يرى صورة من الآخر يحبذها، ومع عنفوان الحُب تختفي كل تلك التفاصيل الصغيرة كارتداء البكيني على شاطئ البحر، تدخين السجائر، عدد الأطفال الذين سننجبهم، ما إذا كنتُ مستعداً لأخبرها أنني سكّير أم لا، وما إذا كنتُ (سأسمح) لها بشرب النبيذ أم لا، هل كانت هي من سيعتني بالمنزل أم أنا الذي سأجد نفسي غارقاً في بحرِ ملابسها التي ترميها في كل مكان، أمور أرى الآن أنّ على كل شريكيْن أن يفكرا فيها جيداً وأن لا يستحيا من النقاش فيها إذا أردت أخذ رأيي في ذلك. ولأنّ قلبي مرهف، ولأنني كنتُ دائماً ما أتساءل لما على أخواتي أن يرتدين ملابسهنّ كلها وهنّ يسبحن -بعد أن رأيتهنّ في طفولتهنّ يسبحن بالمايوه لتصير الجُبّة فجأة لباس البحر لهن-، خفتُ من أن يكون هذا العراك نهاية زواجنا، أن نعود لليبيا في اليوم ذاته مخبراً عائلتي أني طلقتُ زينب بعد شهور طويلة سبحتُ فيها متخيلاً حياتنا معاً بكامل تفاصيلها.
لا بأس يا زينب، يمكنكِ العوم بالبكيني، ولكن بشرط. قلتُ لها.
ما هو؟ قالت باكية.
أن لا يكون هناك ليبي في المكان، لازالت الخطّيفة مصبوغةً في يديكِ ولا أريدُ لأحد من البلاد أن يتعرف علينا.
كيف ستعرف ذلك؟
يمكنني أن أعرفهم، الدم يجذب.
وبعد أن خرجتُ للشاطئ لأطمئن أن لا أحد يمكنُ أن يكون في المكان، عدتُ لها، كانت ترتدي البكيني حوله رَوْب بتفاصيل تونسية اشترته من السوق، بدت جميلة، صرّتها وحبّة الخال بجانبها، بطنها اللذيذة التي قبلتها أكثر من مرة، الصدريّة تزيد من فتنةِ نهديْها وجيدها العاجي ملتقٍ بالقطعة السفلية، صور البطيخ يزيد من صورتها الطفولية في رأسي، تحرّك ميلاد الصغير قليلاً موافقاً إياي حول جمال المرأة التي أمامي، كانت الخطّيفة رمز “الفضيحة” تزيد من فتنتها أمامي، سبقتها في الخروج من البيت، بحثتُ عن بنيامين وبعد أن تأكدتُ من أنّه ليس في المكان، ناديتها بالإسراع، لم تكن تدرِ أنني لازلتُ مقتنعاً بأنني لا أريد لأي رجل أن يرى جسدها شبه العاري حتى لو كان عجوزاً يهودياً لا تربطنا به علاقة وقد يكون الغد آخر يوم نراه فيه. نزلنا إلى الشاطئ متخذين طريق الوذينة، تساءلتُ لو أمكنني أن أزرعها بالطريقة ذاتها في بيتنا بينما نتحرك تحتها – لقد فعلتُ ذلك، وإلا لما كنا الآن جالسيْن تحت ظلها في الحديقة-، وصلنا إلى الشاطئ ودخلنا نسبح.
لا أعرف السباحة. قالت لي وقد خلعت عنها الروب.
الأمر سهل، تعالي معي.
قلتُ أسحبها إلى حيث يصل مستوى البحر عنقها ويغطي جسدها – هل فعلتُ ذلك لأنني كنتُ متشككاً من جدوى السباحة في البكيني أم لا؟ لا أعلم-، لعبنا قليلاً، نثرنا الماء على بعضنا البعض، حملتُها بين يدي وقذفتها إلى صفحة الماء، حاولت أن تغرقني إلا أنّ جسدها الصغير مقابل جسدي لم يساعدها في ذلك، حضنتها وأردتُ سحبها أكثر إلى الداخل، كانت تستنجدُ بأب خيالي على الشاطئ خائفة مني، كنتُ أحياناً ألعب معها ألعاب ثقيلة كهذه لأرى ما إذا حملتُ أية رغبة عنيفة متبقية في ذاتي، أحياناً كنتُ أمسك بخناقها بينما تضحك هي تحاول إبعادي عن قتلها خنقاً كبطلات الأفلام، فقتُ على عقلي عندما أصبح صياحها يشبه الحقيقة أكثر من اللعب، ” اعتذر، تحمست”، ” كفانا لعب رجاءً، ولتعلمني السباحة”، قفزتُ على ظهري وتركت صفحة الماء ترفعني عالياً، قلتُ لها منادياً ” ارخي روحك، تعومي”، لم تكن زينب من أولئك الناس الذين قد يتركون أنفسهم للتيار يسحبهم كيفما شاء، كانت تقاوم تيار للحياة وتيار البحر الآن، ” لا أستطيع”، قالت، ” حسناً، ستغرقين إذاً”، “كيف؟”، ” إذا كنتِ تخافين من الغرق، ستغرقين، وإن لم تتعلمي السباحة، لن تكون شجاعةً البتة للمضي في الحياة”، قلتُ مكرراً كلمات أبي، تذكرتُ حلمي مجدداً، ” من قالك لك ذلك؟”، ” أبي قال ذلك، على الأقل أظن أنه فعل”.
ماذا تقصد؟ قالت وهي تحاول تقليد حركاتي وأنا مستلقٍ على ظهري.
قبل أن توقظيني، حلمتُ بأبي على البحر.
وقصصت لها حُلمي، بدت متحمسة له، ذكرتُ لها أنني حملتها في المنحدر حتى تنزل في الحُلم، ” هل أنت متأكد؟”، قالت لي، بالطبع أنا متأكد، لكنها ناقضت كلامي، قالت لي أنها لا تتذكر أبداً أنها ذهبت يوماً للبحرِ معنا، نعم تتذكر عندما كان الصادق يهرب منها في الفجر ليذهب مع العم “مختار” وتذكرت أنها تستيقظ لتلحق النافذة فترى البيجو قد غادرت مكان ركنها للتو فتبكي لأبيها، تعجبتُ من إقحامي لها في الحُلم، شككتُ في رجاحة ذكرياتي، إلى هذا اليوم تراودني فكرة أنّ زينب لم توجد أبداً وأنّ حياتي معها هي مجرد خيال لا يمكنني أن أتركه وشأنه، عندما أبقى في البيت لوقتِ طويلٍ لوحدي، لثمانِ ساعات أو ما شابه، يراودني ذلك الشعور حتى تعود هي للبيت لأتمكن من لمسها والإحساس بها. لمستُ وجهها ونحن في البحر ممازحاً حتى أرفع الحرج عن أحلامي الغبية التي تورطني ” زينب، هل أنتِ موجودة حقاً؟”، تضحكُ فتقول لي ” لا أنا مجرد حلم”، ثم تسألني عن بقيةِ حُلمي أو ذكرايْ مع أبي.
إذاً، هل غرقت بعد أن تركك؟
أتذكر أنني غرقتُ في البداية فكان يعود لرفعي على كتفه ثم يفلتني قائلاً ” ارخي روحك تعوم”، لم أفهم في البدء ماذا يقصد، ثم قال لي، ” سلم نفسك للبحر كأنّك تسلم نفسك لسرير، ستطفو”، فعلتُ ذلك، ” الآن حرك يديك وقدميك في اتجاهات مخالفة، جدّف، كما أفعل أنا”، أخطأت محاولاتي الأولى حتى نجحت، ” انظر أنا أعوم”، ابتسم أبي ثم قال لي ” الحقني إذاً!”.
والبطيخة؟
أي بطيخة؟
البطيخة التي كان يحملها أبوك مع أسماء، هل أكلناها؟
في الحُلم؟
نعم!
لا أعرف، لقد أيقظتني بصدرية البطيخ هذه.
وأدخلتُ يدي في صدرية البطيخ حتى أتلمس الحلمتيْن لأتأكد وجودهما، كان خلو البحر من الناس وقرب غروب الشمس يغريني للمسها في أماكنها اللذيذة، تبادلنا القُبل تحت الغروب، عندما لاحظت غروب الشمس قالت لي ” ها! حققتُ هدفاً ما في لائحتي!”. لم أكن أعلم بوجود اللائحة قبل ذلك، إلا أنّ لزينب لائحة بالأشياء التي أرادت أن تفعلها قبل أن تموت، منها أن تنشر كتابها عن عمها ولوحاته، أن تقبل الشخص المناسب في البحر تحت غروب الشمس، أن تسافر إلى إيطاليا، وأن يكون لها أطفال في عمرها. ” هل لك أهداف تريد تحقيقها؟”، ” أنا؟ لم أفكر في الأمر مسبقاً”. لم أجد الكلمات المناسبة لذلك، لقد تربيت في بيئة لا تحلم ولا تشجع على الحلم، ربما الهدف الوحيد الذي أردت تحقيقه هو أن أخبز أكبر قدرٍ من أشكال الخبز. لكنني سعدتُ أن أكون الشخص المناسب لذي حققت معه أحد أهدافها رغم أنها لم تحقق يوماً البقية.