اللحظة التي تأكد فيها أن علاقتنا مع العالم عاطفية، و أن موهبة الإنسان الحقيقية هي الضحك، لقد صعد نجم نيتشة بعد كتابه ولادة المأساة وقد أثار الكتاب الكثير من الجدل، أما مولد التراجيديا فقد تم الهجوم عليه من قبل العالم الأكاديمي لأنه كتاب يفتقر للجدية فمن وجهة نظرهم كان مولد التراجيديا مجرد قصيدة فيها الكثير من الحماس و الضحك، هل كنا محظوظين بنسيان نيتشة لفقه اللغة؟ كارلوس كاساجيماس صديق بيكاسو قال: “الملهم في كل لوحات الفترة الزرقاء هم المتسولين و العاهرات الذين كان بيكاسو ينظر إليهم و هو يتجول في شوارع برشلونة، فهل نحن محظوظين بنظرات بيكاسو الطويلة للعاهرات؟ بيكاسو صرخة ملونة، سكين أزرق في صدر الهم الإنساني، نيتشة بكى بسبب المفارقة العجيبة وهي أننا في اللحظة التي أصبحنا إنسانيين جدا دمرنا العالم، لحظة مضحكة لدرجة البكاء، بيكاسو بكى من إنحناء الإنسان تحت حمل الفقر الكبير، كان سكين الأزرق يجرح موهبته كي تتكلم،في بداية عام 1935م ترك بيكاسو الرسم ليكتب الشعر،بيكاسو يكتب كعاشق ممزق في لوحات كثيرة، لقد كانت الكتابة محولة للإستيقاظ من حلم مرعب، محولة لإيجاد نهاية لليل التاريخ الطويل، الكتابة و الرسم هما الوسيلة الأجمل للتعاطف مع النفس،مع الآخر، مع العالم، هما أكبر تجربة عرفتها اليد عبر تاريخها، هما الاستعارة الأكثر حميمية في تاريخ البشرية، الكتابة و الرسم هما مسك اليد ليد الآخر البعيد بحنان مفرط في حرارته، إن اللمس هو محاولة للدفاع عن النفس ضد العجز الرمادي، ضد قضم اليأس يد الأمل، لدينا أرشيف كبير مكوّن من الكتب و اللوحات للدفاع عتا ضد أن يكون هناك شرطا للحياة و مع ذلك يكون غائبا.
نيتشة كان شاهدا على عدم كفاية الوصف، بيكاسو كتب الشعر بسبب عدم كفاية الوصف، هناك ترحال من نص أصلي إلى نص تفسيري، ترحال ينمو مع الوقت بسبب الحب، الكتابة و الرسم هما علاقة مع الآخر، لكن اللغة في هذه العلاقة مؤجلة، علاقة الحب هي تأكيد لأولوية الرؤية، أولوية اللمس، الحب هو الخطوة التي تتخطى الحدود، حدود الورقة، حدود القماش، حدود اللغة، للحب صورة بصرية و لفظية، لكن ليس هناك صورة بصرية أو لفظية للموت، ليس في مقدورنا كتابة الموت أو رسم الموت، لكن في مقدورنا المسك بيد الحب، نيتشة تلميذ القديسين يخاف العلاقة الحميمة مع العالم لأنها تفرض عليه الكتابة، تفرض عليه الغموض و الحزن، في هذه الحالة تتحول الفلسفة إلى سخط غنائي، عندما عانقت يدكِ يدي فكرت في مواساة نيتشة، فكرت في الحب، فكرت في جمال إثراء الغموض نفسه، غموض هو هرب الحب من هذه التفاهة التي تجعلنا نفكر في أن الوحدة مكانا مناسبا لنا، نيتشة جلس في الغرفة الزرقاء الخاصة ببيكاسو خوفا من الشفقة، جلس في الغرفة الزرقاء بحثا عن أخوية مفقودة، بحثا عن ابتسامة لو سالومي التي تقول:” الطيبة اختراع شيطاني “،فكرت و أنا أشعر بيدكِ في يدي بأن الفلسفة يمكن بسهولة أن تحل محل الندم، أو أن تحل محل العقل البارد، فكرت في أن كل أفكار نيتشة كانت تخرج من صندوقه الخاص، كلها تخرج من جماليات خيبات الأمل، الحب الذي يعرف كيف يمارس عبقريته ما هو إلا انتصار خيبات الأمل الكثيرة، عندما كانت يدكِ تتكلم مع يدي فهمت أن الحب وعد لم تنجزه الفلسفة، فهمت أن الحب مغادرة بلا عودة، و أن الحب نفي لذاتي،إهمال لمصلحتي الخاصة، انتصار على نفسي، أنا أحب تعني أني رهينة لدى اللآخر، بسبب عدم إنجاز الفلسفة لوعدها غرق نيتشة في الجنون، غرق في أزرق بيكاسو، هناك في الغرفة الزرقاء فقط يمكن إيقاظ الدموع النائمة.