تبني النصوص في ديوان «هكذا صرخت» للشاعرة حواء القمودي، الصادر عن دار «أمكان»، علاقتها مع مفازات التأويل عبر مرتكزين أو منصتين، تغترف الأولى من شرفات الأحلام القارة في دواخل الإدراكات النفسية المشحونة بالتوثب، فيما تستند الثانية إلى نسق مضمر من شواهد الطفولة ونواثر المعارف الممدة على خارطة الزمن العمري، هذه الخمائر الدلالية تراقب عن كثب ثم تتقدم نحو مقاصدها لمعاينة شروخ الواقع المتشظي.
هذه القصائد من الصرخات الممرحلة تتصدى للسواد بموسيقى قبلات تجسر لأحلام تستشرف الإفصاح عن عالمها المتخيل، ولكن بأي لغة خصوصا عندما تجاوزها الواقع متماديا في سورياليته (الم يصر الواقع أشد حلما /من الحلم)، يبقى السؤال الوليد سنة 2012 منتظرا إجابته التي جاءت بعد سبع سنون عجاف في صوت قلب يستشعر (رصاصة تجيء /يشم رائحة الدم / طرابلس هل انت هنا) ص14، ومع ذلك تتمسك مدونة الطفولة بعفويتها الراكلة للحذر والارتباك لصنع فضاء من الإشارات المرجعية لقراءاتها، عند تخوم القويريات في (مفكرة رجل لم يولد) و(معنى الكيان)، كالماحة تنظر لضرورات الحاجة إلى سلم يصلنا بالأفق لنرى وجه الحقائق الصادمة في شوارع المدينة المكلومة، والتي تنسل خلسة من بوابة التأويل أو تومض من عجائن تلك المعارف مستجيبة لفتوحات التأمل.
كل ذلك يحدث لنكتشف في كل مرة أننا أمام وقع مغاير يعاكس سقف التمنيات والرؤى، كسخرية قدرية من شواغل الرغبات البشرية (كنت أحلم فقط / بيوم يليق بك) ص17، عند هذه السوانح يظهر إحساس بالتملص أو التراجع أو مقاومة غير مقصودة للفرح الطفولي لصالح اتكاءات حزينة فليس غريبا أن تصبح (الصديقات كذبة /الممرات عامرة بالأفاعي) وقد تتدحرج متلفعة ومتعاظمة في كتلتها، بالتواطئ مع المخيلة المجهدة بالهروب والاستذكار، حتى لتبدو في أحد اعترافاتها، أشبه بخرق لناموس مستحكم (البارحة غامرت /جلبتك حلما)، ومع ذلك فالاعتراف لا يمنح الطمأنينة على أرضية هشة، أو ربما باعدت المسافات بين مفكرة الأحلام وأبعاد تجسدها فلم تعد الذات مسترسلة في مداها السرمدي إلا بتوقفها قائلة (لم تعد طريقي تأخذني اليك) ص22.
الطريق النفسي في نسج الأنثى معبد بالخطايا والآلام تماما كما نصفها الآخر السارب معها في مجاهل الحياة، ترصد تيمات الزمن والتاريخ (الحب والحرب)، مشفوعا بتواقيعها على جسد عروس البحر (طرابلس)، والنصوص المرقمة بلا عناوين في كامل الديوان ربما أرادت التحرر من السلطة الإسمية بحثا عن وجه من وجوه التعابير المفتوحة كمنصات انتقال حر نحو فضاء خال من أصوات الخطايا وظلال الألم، أو هو تمرد شعري من عبودية الإشارات المختزلة وترك المتلقي أمام بانورما من الخيارات الدلالية لروح القصيدة، وهي تحاول اجتياز أسوار المعنى الواحد.
ويبقى لهذه المناورة منازلاتها الأبدية مع الموت، وهي تتبادل مع غريمها الأبدي منازل الاستمرار (الحب الحرب /الموت الحياة /وحديقة بعيدة) ص44، غير أن التدافع يستدعي الذات الشاعرة في شغف يزيح القلق بمصارحة تستجلي غموضا غالبا ما كان يتفلت من ارتدادات المواجهة خوفا من وضعه في مدارج النسيان (أيها القلق لنتفق /إما أن لهذه القصيدة /أن تضع نقطة /وينتهي السطر) ص51.
وفي ملاحم (الحب والحرب) ستغدو الحاجة ملحة إلى وميض يلتمس الظهور للإفصاح عن مجال لحركة داخلية كتجريف أولي لأديم الثبات القاتل فقط لأن (هذا العالم يزداد رداءة) ص27 ومن ثم الالتجاء إلى منابت الصبا كبوصلة استرشاد للخروج من عتمة الفوضى ورعب الرصاص، ودخان الحرب (قلبي / لا يزال ينبض) ص28، وكذا تبني القصيدة عالمها بالسؤال، وباسترجاع فائض الذكريات والمغادرات الموقتة، يتبعها سحر مناورات البقاء (القصيدة تراوغني /تخشى أن تندلق) ص30.
عنوانان أشارت إليهما نصوص الديوان:
1- «من مفكرة رجل لم يولد» للأديب الراحل يوسف القويري
2- «معنى الكيان» للأديب الراحل عبدالله القويري