احتلت المرأة بجميع فئاتها العمرية ومراتبها الأسرية وصفاتها الاجتماعية حيزاً كبيراً ومهماً في مواضيع الشعر العربي على مدى العصور، وظلت ملهمة للشعراء العرب في جُلِّ الأغراض والأنماط الشعرية التقليدية والحداثوية، ولن ينسى تاريخ القصيد العربي فحول شعراءه الذين تناولوا المرأة وأدوارها ووظائفها المتعددة في أشعارهم، وأسبغوا عليها صفات كثيرة كالوفاء والمحبة والجرأة والغرام والعشق والهيام والجمال وغيرها، من أمثال عمر بن أبي ربيعة، وعنترة بن شداد، وقيس بن الملوح وحتى محمود درويش ونزار قباني الشهير بخصوصية نصوص قصائده الغزلية في المرأة.
ولكن ما يلفت الانتباه في ديوان العرب على مر الأجيال أن صورة المرأة الزوجة شريكة الحياة ظلت متوارية مخفية، ولم تكن حاضرة بشكل صريح وغزير في القصائد الشعرية، بل تسيّدت صور أخرى لها كانت المخاطبة أو المقصودة فيها غالباً هي الحبيبية والمعشوقة المكتظة بأنوثتها، وقدها الجسدي المفتون، وجمالها الآسر، وقد طغى ظهور هذا التصوير الجسدي والحسي الوجداني في معظم ملامح شعر التغزل والوصف، باستثناء قصائد الرثاء الحزينة التي نظمها الشعراء العرب بعد وفاة زوجاتهم، واستهلها الشاعر الرحالة الأندلسي أبوالحسن محمد الكناني المعروف ب(ابن جبير) بعد وفاة زوجته عاتكة الملقبة بأم المجد حيث نظم ديواناً شعريّاً كاملاً يرثيها فيه أسماه (نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح)، أما الشعراء المحدثين المعاصرين الذين أصدروا دواوين شعر كاملة في رثاء زوجاتهم، فأبرزهم ديوان الشاعر عبد الرحمن صدقي (من وحي امرأة)، وديوان الشاعر محمد البيومي (حصاد الدمع)، وديوان الشاعر طاهر أبو فاشا (دموع لا تجف)، وديوان الشاعر رابح جمعة (لذكراك)، وديوان الشاعر روكس العزيزي (جمد الدمع)، وديوان الشاعر عزيز أباظة (أنَّاتٌ حائرة) وآخرين غيرهم.
ولاشك فإن هذا الرصد يجعل الكثيرين يتسائلون باستغراب عن أسباب غياب المرأة الزوجة في نصوص الشعراء؟ ولماذا يتجنب أو يتحاشى الشاعر العربي البوح بمشاعره الوجدانية والحبيّة العاطفية تجاه زوجته، حليلته وخليلته، وهي معه وبجانبه تشاركه صنوف وظروف حياته كافة، ويغفل أو يتغافل عن تسجيل مواقفها وإسكانها مجموعة أبياتٍ أو قصائد شعريةً ينشرها علانيةً بكل الاعتزاز والافتخار والتباهي؟ ولماذا يبقى فكرياً رهين سطوة الكتمان والتجاهل والابتعاد عن التعبير بتلك المشاعر الجيّاشة النبيلة، وطمس أحاسيسه تجاهها، فيظل خانعاً مستسلماً ومستكيناً لا يتمرد على السائد العرفي والتقليدي المهيمن فكرياً على حياتنا الاجتماعية؟
ورغم أن بعض الملاحظين لهذا الغياب أو النقصان يعتبرون أن ندرة تناول الزوجات في قصائد أزواجهن الشعراء، لا يمكن أن نعدها ظاهرةً مهمة في رصيد الشعر العربي ولا موقفاً انتقادياً سلبياً يطال الشاعر العربي، بقدر ما هو سياقٌ اجتماعيٌّ تحوطُهُ ثقافةٌ وأعرافٌ مُتوارثةٌ منذ العصر الجاهليّ، تمثلها قيودات العادات والتقاليد المجتمعية التي لا تقبل التصريح بالحب للزوجة عكس السماح به للأم والإبنة والأخت والجدة وغيرهم. فالزوجة لازالت مسجونة في العقلية المجتمعية العربية ومتوارية ومحجوبة لا يجب ظهورها على سطح الواجهة الاجتماعية، سواء من حيث الاشادة بقدراتها ومهاراتها الشخصية الذاتية أو من حيث الثناء عليها والتعبير عن مشاعر المحبة والافتتان بها والوفاء لدورها في معاضدة الزوج والوقوف معه في الكثير من النائبات أو الظروف الحرجة الصعبة على اختلافها اجتماعياً أو اقتصادياً أو صحياً أو غيرها. ولكن يظل السؤال قائماً ومشرعاً لسبر وطرح العديد من التخمينات، هل من بين تلك الأسباب أن زوجات الشعراء لا يتمتعن بدرجة من الجمال والحُسن والبهاء، أم لا يتحلين بالطيبة والرقة واللطافة والعذوبة؟ أم لا يبعثن أي نوع من الإلهام الحسي المحرك لولادة النص الشعري، أم ربما نظراً لأنهن لا يولين أي اعتراف أو اهتمام بإبداعات قصائد أزوجهن الشعراء باعتبار أن (زامر الحي لا يطرب)، أم غيرها من الأسباب التي تستحق مناقشتها والبحث والتقصي والتدبر فيها من خلال هذه الملاحظة اللافتة في حياة الشعراء العرب وبعض حقوق زوجاتهم عليهم؟
وتأسيساً على بديهية غياب الزوجة في النص الشعري عربياً فإنه عندما يكتبَ شاعرٌ ليبي قصيدةَ غزلٍ في محبوبته أو مناجاة طيفها وخيالها والتغني بجمالها وحسنها ولطافتها، فإننا نعد ذلك أمراً عادياً لا يشكل غرابةً أو تميزاً، لأنّ ديوان الشعرِ العربي والليبي ثريٌّ غزيرٌ وزاخرٌّ وفيرٌ بالعديد من القصائد الغزلية بشقيها العفيف والصريح التي يكون غرضها وموضوعها الحبيبة والمعشوقة، ولكن الغرابة أنْ يُصرِّح شاعرٌنا الليبي الكبير راشد الزبير السنوسي بأنَّ كُلَّ ديوانِه هو دفقاتٌ عاطفية ووجدانية وقصائد شعرية يمدح فيها زوجته شريكة حياته، فيثني على أفعالها، ويشيد بمواقفها، معبراً بصوت شعري جهوري صادح عمّا يحمله لها من عظيم المحبة والوفاء والتقدير لمكانتها في قلبه ومسكنه، والاعتراف بتأثيرها في فكره وصبرها وتضحياتها وتحملها وتقاسمها الحياة معه، وإبراز بصماتها في مشوار حياته، والاصرار على توثيق ذلك في المطبوعات والمنشورات السيّارة، دون إبداء أي حرج في إعلان ذلك على الملأ، بل يتمادى شاعرنا الكبير في التأكيد على اعتزازه ومحبته الشخصية الخالصة لزوجته بأن يُصَدِّر غلاف مجموعته الشعرية بعتبة عنوان صريح (ديوانُ رسائل إلى زوجتي) ليكسر حاجز الخجل والقفز على الأعراف الأسرية والتقاليد الاجتماعية المنغلقة، ويقف في مواجهتها وتحديها بشكل قوي مباشر، من خلال الإصرار على المجاهرة في عتبة عنوان المجموعة الشعرية بأنه (ديوانٌ) كاملٌ اختص به زوجته وليس مجرد قصيدة واحدة أو اثنتين، وذلك لمزيد التأكيد على دلالة المفردة الجمعية للإيحاء بالكثرة الوفيرة والتعبير السخي والثناء والاعجاب والاشادة والوفاء، وهذا كله يبعث فينا الكثير من الجاذبية والتشويق للتعرف على تلك المشاعر الإنسانية الثنائية الخاصة والصور الشعرية الابداعية التي صاغها شاعرنا الكبير في زوجته، وهي بالتأكيد ستظل رائدة وسابقة وربما استثنائية في المشهد الشعري الليبي الذي لم يعرف هذه الجرأة الشعرية قبل شاعرنا الكبير راشد الزبير السنوسي حفظه الله.
ديوانُ رسائل إلى زوجتي
أصدر الشاعر الليبي الكبير راشد الزبير السنوسي ديوانه المتميز (ديوان رسائل إلى زوجتي) سنة 1999 عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان بطرابلس، واعتبره هدية خاصة إلى زوجته “ثريا” كما ورد في إهداءه (إلى أمِّ الأحباء. إلى أمِّ أكرم الرجال. إلى زوجتي ثريا. أهدي باقة حنان وهمسة وفاء) ثم يقول في مقدمته النثرية (هذه المجموعة من القصائد ربما تكون الأولى من نوعها التي تقدم كديوان مستقل يعبر فيه شاعر ليبي من خلال حديث موجه إلى زوجته عن مشاعره ناقلاً صوراً من معاناته خلال تجربة السجن التي مر بها. ولا تشكل هذه المقدمة دراسة نقدية لهذه القصائد وإنما تعتبر دليلاً يقودك إلى قلب الأبيات لتعايش التجربة كما مررتُ بها، ولن تصاب عزيزي القاريء بالدهش وأنت ترى عبارات الحب تتنفس طبيعياً وتمرح فوق السطور دون وجل).
ويضيف شاعرنا الكبير في مقدمته التوضيحية الشارحة (فالظاهر أن المعاناة تفك عقدة اللسان وتمنح التعويض المناسب لمعادلة ذلك الجو الكئيب الذي لا يقبل إلاّ بالصمت وبلادة الحسّ. لقد كانت المرأة في مجتمعنا كياناً هامشياً وسط مجتمع رجالي لا يظهر فيه إلاّ خلف غلاله وأضفت علينا البيئة الصحراوية شيئاً من قسوته حتى أن روح الفكاهة والنكتة استحال وجودها كطبع أصيل يعطي جرعة حانية لرتابة الحياة ومللها. ولقد بقيت الزوجة رغم وجود عدد من شعراء الغزل المجيدين منطقة محظورة لا يمكن كشف المشاعر نحوها إلاّ فيما ندر، ولذلك موروث استقر في الوجدان من أمد بعيد وأصبح من الثوابت رغم أنه توجه ظاهر الفساد ومادام التعبير لا يخدش حياءً ولا يفسد ذوقاً فأحرى بنا ألاّ نتردد في البوح به. فالحبُّ هو أسمى المشاعر الإنسانية وقد عظّمته جميع الرسالات ولهجت به كل الحضارات من حرف يكتب إلى نقش يبرز أو مجسم يرفع، وليس من عدو لهذا التوجه إلاّ التخلف والجهل. إذاً فأنا حينما أقدم لهذه المجموعة أشعر أنني قد تخلصتُ من خوفي، وكسبت نفسي وقلمي عندما تخلصت من التمويه والمداورة إلى التعبير عن معانٍ لا تحسُّ إلاّ بالصدق. وحسبي أنني جعلتُ من رفيقة عمري ملمحاً بارزاً في إنتاجي الشعري عبر عدد من القصائد أثرتُ أن اختصها بديوان مستقل إن كان قليلاً في عدده فهو كثيٌر وكبيرٌ في مشاعره وصدق رؤيته، وعساه يكون إشارة البدء لإبداعات يسهم بها شعراء آخرون في هدم جدار جثم على الصدور وحبس الكلمات في الحلوق حتى نرسخ في قاموسنا الشعري لفظة مازالت تبرز بحساب ومازلنا نفتقد إلقاءها وهي جوهر الكون وأكسير الحياة إنها بكل بساطة كلمة الحبّ).
لقد جاءت المقدمة القصيرة التي سطرها الشاعر الكبير راشد السنوسي وافيةً الشرح والتعليل والاعتراف المؤكد بأحقية إسكان الزوجة في النصوص الشعرية مثلما هي تستوطن قلوب مبدعيها الشعراء العرب وتعمر بيوتهم وديارهم بالبهجة والمسرة. وقد تضمن (ديوان رسائل إلى زوجتي) خمسة عشرة قصيدة تسلسلت كالآتي: كلماتٌ إليها، من قصيدة “وصل المرج”، من قصيدة “عيد الميلاد الحزين”، رفيقةُ عمري، رسالةٌ إلى زوجتي، رفرف الطائر، رأيتُ في المنام، أواه يا حبيبتي، رفيقتي، صمتٌ قتّال، نجيةُ الروح، يا عروس الشعر، لم أكن أعلم، رفيقةُ عمري، نحمد الله.
ومن خلال استعراض هذه العناوين القصيرة الصريحة نلاحظ تكراراً جميلاً يرفعُ ويعلو ويسمو بقدر الزوجة ويمنحها صفة الرفقة العمرية الدائمة وشراكة الحياة الزوجية الأبدية. فنجد ثلاثة قصائد متشابهة العنوان حد التكرار هي “رفيقة عمري” المؤرخة في فبراير 1980م، و”رفيقة عمري” المؤرخة في 1976، و”رفيقتي” المؤرخة في 1983م، وهذا التعبير والإحساس الوجداني المتتابع زمنياً هو مؤشر على تواصل رحلة العلاقة العمرية الحبية بين الزوج الشاعر ورفيقة دربه وحياته بكل ما صاحب رفقتهما من مواقف وأحداث وخصوصيات. كما نلاحظ أنه مثلما لم يتحرج من ذكر اسمها صريحاً في الإهداء، فهو لم يتحرج كذلك من مناداتها (يا حبيبتي) أو وصفها (زوجتي) و(رفيقتي) والتباهي بها حين يناديها (عروس الشعر) و(نجيّة الروح) مما يعكس عظيم المحبة والاحترام والاعتزاز الذي يكنه لها.
وقد جاء نص قصيدته (رفيقتي) مؤثراً، حزيناً، مفعماً بالمحبة والشوق والحنين، طافحاً بالذكريات الأسرية الدافئة، التي استحضرها الشاعر الكبير راشد الزبير السنوسي وقت كتابة القصيدة وهو حبيس الجدران بعد مضي ثلاث عشرة سنة من تغييبه وراء القضبان في سجون النظام السابق حوالي عشرين سنة، ويوطن فيها اعترافه بأفضال زوجته عليه، فهي التي يستمد منها تحمله وصموده، مكرراً مخاطبتها (أنتِ) أربعة مرات للتأكيد على أهمية دورها في تجاوز محنته ومعاناته السجنية القاسية، كما يسكن نصه الشعري أسماء أبنائهما الثلاثة (أمل وصديق وعمر)، وينفث حزنه بتكرار صيغة سؤاله القاسي إليها بحثاً عنها (أينَ أنتِ) عدة مرات إشارة إلى إحساسه العميق بغياب وفقدان زوجته. ونجد أن إيقاع القصيدة قد اتسم بزفرات الأنين وشجن حزين موحش ظل بسيطاً خافتاً، حتى تعالى وتفجر في نهايتها مخلفاً سيول دموع صادقة منهمرة تدمي القلوب.
تقول مقاطع القصيدة الخمسة التي ظهرت متتالية بالديوان بلا ترقيم عددي:
ثلاث عشرة انقضت
طويلة بسهدها، ضنينة بوعدها
تترع من فؤاديَ الكؤوس بالشجن
تعبّني بلا ثمن
وليلها يزحمه الملال والإحن
(2)
ثلاث عشرة انقضت
وكل ليلة تموت دون أفق فجرها
يوقرها الآسى فتحتمي بخدرها
تنفث ما بصدرها
فتنطق الجراح من حرارة الألم
حين يضيق الجدار عينه ولم ينم
(3)
ثلاث عشرة انقضت
وكل ما يشدني إلى رحابكم حلم
يرحل بي إليكمو حين يهدني السأم
وقد خبرتُ ما يكابد المشوق من ألم
حين يرى طموحه قبل أوانه انهدم
(4)
ثلاث عشرة انقضت
وكنتِ أنتِ بلسمي، تعززين وقفتي
واستمدُ من صمودكِ الرائع قوتي
فأنتِ يا رفيقتي
أثمن ما كتبتُ في سطور قصتي
أنتِ التي زرعتِ في حياتي القُبلْ
حين منحتني (أملْ)
وحين أشرق (صدّيقٌ) وصنوه (عمرْ)
هم يا رفيقتي لنا ابتسامةُ القدرْ
وأنتِ من رعيتها كباقةِ الزهرْ.
(5)
ثلاث عشرة انقضت
وكلما فاض بي الشوقُ وأوغل السنا
هتفت أمنا
مضى الزمانُ بالمشاعرِ العِذِاب والمُنَى
ولم تعد لنا
لمسةُ راحتيك تعرّشانَ سوسنا
وتنعشانَ في الصدورِ دفقةً من المُنى
سامقة تتخذ النجومَ مسكنا
فأينَ أنتِ أينَ أنتِ أين أنت ها هُنَا
فمَا أرى سوى الجدارِ والعناءِ والضَنَى
لقد أصدر الشاعر الكبير راشد الزبير السنوسي بُعيد تخرجه من كلية الآداب ببنغازي ضمن طلبة الدفعة الرابعة أول دواوينه الشعرية وهو (قيثارة الخلود) سنة 1963م وأتبعه (النغم الحائر) سنة 1967 ثم (أنفاس الربيع) في السنة التالية و(نشرة الأخبار) سنة 1998م و(همس الشفاه) و(الخروج من ثقب الإبرة) سنة 1999، ولكن ستظل مجموعته (ديوان رسائل إلى زوجتي) هي الأهم والأبرز في مدونة الشعر الليبي الحديث والمعاصر لأنها تنحاز للمرأة الزوجة شريكة الحياة، وتُرجع إليها بعض ما سُلب منها من حقوق شعرية … فالشكر كل الشكر لشاعرنا الكبير الذي أعاد لزوجات الشعراء هذا الوجه أو الملمح الموضوعي، كما سمّاه في مقدمته النثرية، على أمل أن تتكرر هذه التجربة الإبداعية لدى شعراء آخرين في ليبيا الحبيبة وخارجها.