محمد ساسي العياط
هند، هل تذكرين ذلك اليوم في شتاء عامِ تسعةٍ وثلاثين تسعمائة وألف، حين استدرجتنا الأمطار لعاصفة من المشاعر فاختبأنا -والماء يقطرُ منا- عند سدّة البيت العتيق كان البيت شاهقا، كنا نظن بأن البيت خاص بإحدى الأسر الحاكمة، نحن سكان المنازل الطينية نقف الآن أسفل الرخام الأحمر حيث رتاج مقدمة المنزل ذي المزلاج الكبير ذي النقوش المُذهَّبة شاهدٌ على أنفاسنا التي التقطناها بعد أن تقافزت وزخات المطر على برك الماء كضفادع خضراء مبتهجة برطوبة الجو الشاعري بالنسبة إليها، أترانا كنا ضفدعين، لكن الضفادع لا تقوم بالتنفس على سطح زجاج الباب، لا تتنفس مشدوهة بالدخان المنبعث منها إثر البرد، كنا نرسل قبلا دون قصد لم يمضِ وقت طويل، كنت قصيراً آنذاك، لم يكن بمقدوري تغطية عدسة التصوير الصغيرة عند الباب، فما كنت لألحظها، رغم أنها المرة الأولى التي نشاهد فيها العدسة دون أن ندري وقتها ماهي، وقد صرت منغمسا في تفاصيلك رغم طفولتي الغضّة، أغازلك بأصابعي الصغيرة! أمررها على شعرك محاولا تجفيفه، هل كنت فعلا أدرك أني أغازلك؟
نبتسم، نضحك، كانت تلك أخوّةً مفرطة في الطفولة، ما كان لنا إلا أن نعود لها كلما اكتظت علينا متاعب الدنيا ومشاغلها.
لا زلت أذكر جيدا خروجها مبتسمةً وقد بثت الرعب في أوصالي حين انزلق الباب عنّا منفتحا مصدرا صوت صرير امتزج ورقةِ حبورنا البهي وهيبة السيدة:
مجرمان!.
ماذا كنّا نفعل لنهلع، هل هلعنا فعلا؟
إننا فقط، طفلان صغيران لم يبلغا العاشرة بعد في طريقهما للبيت بعد أن غادرا بيت الجدة، واقتادتهما الأمطار عند سدة بيتك الجميل سيدتي، فاعذري رقة الحبّ حين كان طفلا صغيرا لا يعرف شيئا عن العالم المشؤوم والموبوء الممتلئ بالكبت والعادات السرية ومحادثات منتصف الليل، وأصوات دردشات الفيديو الصاخبة والباب المغلق والملاءات المبتلة، إننا طفلان بريئان اغترفا غَرفة من التراب فمزجاها ببعض الماء لصنع بيت هدمته أقدام الرجال، وللإنصاف… وأقدام السيدات أيضا.
سيدتي، خرجتي علينا حين لاحظتِنا من عدسة المنزل تلك التي كانت تظننا بالِغَين، لم تشأ إلا أن تفشيّ سرنا غير المخبوء، الظاهر للعلانية بعد أن تكشّف خلف ستار شآبيب المطر التي لم تتوقف قط، سانحة لنا، مانحة الفرصة لعيش الحبّ… الغيمة تدري أنه لن يتكرر هكذا.. عفيفا جميلا.
لقد أفزعتِنا، كيف لا ونحن طفلان جميلان وأنت امرأة مُسنّة، نحن الأطفال كثيرا ما يُساء فهمنا، بالرغم من صِدقنا، ثم إنها المرة الأولى التي نَضيع فيها لنجد أنفسنا هنا، كيف لا نهلع، اعتدنا ألا نجد بُدا يليق بنا، تراعون فيه شِقوتنا وشقاوتنا، لكنك يا سيدتي في الحقيقة كنت على غرارهم، ظللتِ تبتسمين.
دعوتِنا للدخول إلا أننا قد رفضنا، كيف تطلبين من طفلين ذلك، هممتِ مسرعة، أحضرت كعكا خفيفا دافئا، رفضتُ بدوري، إلا أنك يا هند يا فتاتي أخذتِ قطعة كبيرة، وأصررتُ أنا رغم حنوها علي على ألا آخذ منها، لا أدري لم؟
حاولتْ كثيرا استراق الحديث منا، إلا أننا بَدونا كطفلين في المهد لم ننبس، فغلّقتِ الأبواب بعدما يئست منا.
وأنت يا هند، رحت تبتسمين في لحظة قطعك لقطعة الكعك بيديك الحانيتين، كنت مصوّبا نظري ليديك تقسمان الكعك نصفين وإذا بيمناك بشطر منها تمتد لتعطينياه، الحبَّ والود والرقة.. وجزءً من قطعة الكعك البنيّ.
كدت أرفض، لكن كيف لي هذا، دون إدراك وجدتني مبتسما آكل الكعك بتوءدة وأنظر إليك تأكلين بنهم.
الشوكولا على شفتيك، المطر خفّ، بدأ المزارعون بالخروج شيئا فشيئا، هم أيضا اختبأوا. مضينا نُذرع الحيطان المحمومة برائحة المطر تجاه منازلنا.
آه يا هند، أتذكرين!!
كبرنا اليوم، لم نعد نختبأ عن المطر اليوم، بدأ المطر يهطل من تشققات مآقينا.. وصارت وجوهنا ضفادعَ مجعدة. انظري يا درة عيني، سؤددي وسيمياء أيامي المكتظة بك، رغم كل شيء، لازلنا معا كبرَ الصغار، لقد أصبحتِ تشبهين تلك السيدة العجوز جدا.
سأمازحك قليلا، أنت لازلت نظِرة، رغم هذا الخفوت، انظري إلينا، كبرنا، وكأننا طفلان في المهد تهدهدنا الأم بعينين مشفقتين حانيتين ترتجي فينا أملا!
هل تذكرين حين كنا نهز سرير ابننا خالد، كنا ننظر بعينين ملؤهما الحب ممتزجا بالأسى، لم نكن نستطيع الهدهدة، كنت تبكين كلما انتبهت لصوتنا الطاعن في الطفولة! صوتنا كنتُ ولا زلت وإلى اليوم، أكتفي بالنظر لعينيك، تكتفين بالنظر لعيني/ بعد أن اجتزنا كل هذا معا، رغم عدم مباركة الأهل لزواجنا إلا أننا تزوجنا.
انظري اليوم، لدينا أحفاد يا هند، يصرخون ويملؤون البيت ضجة، لا تشبه ضجيجنا النشاز، كنت معك أجد نفسي الضائعة، وحدك احتضنتِ غربتي معك.. ما كنت بحاجة لأية لغة، فقط أنظر لعينيك.
الآن، أقصّ هذه الذكريات وأسرح في تلك الأيام ويوم أمطرت عند ذاك البيت وتلك القصص، لا أدري، لكنني أشعر بأنك تفهمين أني أقصّ بعيني تلك الذكرى بالذات عزيزتي.
لقد خُلقنا لبعض، لنا من الأطفال اليوم ما لنا من الأحفاد، والبيت محفوف بهم، أرجوك، لا يخفت نور هذا الوجه، لا تفقديني هذا الشعور بالوطن، فإنني وإن حفّ بي الصغار بصراخهم من كل اتجاه، ليس لي لذة تضاهي صمتنا معا، حسيسنا، ابتساماتنا عميقةِ الجروح حبيبتي، لا تتركيني، إن غادرتني فعلا، لن يعود للقصص والحديث والصمت والضجة… معنى، من يشاطرني الصمت بعدها!
هند.
زوجك المخلص دائما.. سليم